في مقاله الموسوم ب " فهم التوترات العالمية: المفاهيمُ المُهيمنة والفرعية للنظام والعدالة في النظام الدولي"، يحاول محمد أيوب فهمَ التوتر الحالي في النظام الدولي بين الدول الغربية والدول الأخرى التي تشكل معظم النظام الدولي الحالي. ويحاول توضيح هذا التوتر من خلال استكشاف ثلاثة مجالات رئيسية هي: 1) التدخل الإنساني، والذي تصبح بموجبه الدولُ غير القادرة على الوفاء بالمعايير الجديدة لحقوق الإنسان، أهدافاً محتملة للتدخل والوصاية عليها، كما هي حالة السودان اليوم، كما يمكن أن تصبح هدفاً مباشراً للغزو المباشر كما علمتنا التجربةُ العراقية من قبل. وعندما تُطبَّق هذه المعايير بصوره انتقائية لتُلائم مصالح القوى الكبرى، فإنها تترك الانطباع فوراً بأن هناك أجندات خفية تعمل، كما كان الحال في القرن التاسع عشر، ويصبح طرحُ السؤال عمَّا هو "المجتمع الدولي" نفسه ومن يحق له الحديث باسمه سؤالاً مشرعاً. 2) الانتشار النووي من حيث الانتقائية فيه ذلك لأن الدول المهيمنة غالباً ما تَغُض الطرف عن إسرائيل كدولة استعمارية استيطانيةَ وعن سلاحها النووي بينما يهمُ نفسُ تلك الدول جداً التهديد الذي يمثله السلاح النووي الذي تملكه كوريا الشمالية والتهديد المحتمل إذا ما حصلت إيران على هذا النوع من السلاح. 3) الاستعمار الاستيطاني، والذي يتجلى أكثر صراحةً في استمرار الاحتلال الإسرائيلي والاستعمار للأراضي الفلسطينية، بل و"ضمّ" المزيد من الأراضي العربية بعد اعلان إسرائيل رسمياً هضبةَ الجولان السورية جزءاً منها واعتراف الولاياتالمتحدة بضم الهضبة في مارس 2019 في محاولةٍ لشَرعَنة هذه الخطوة المخالفة للقانون الدولي. وحجة أيوب الأساسية هي أن غياب العدالة وازدواجية المعايير على المستوى الدولي بين الدول الغربية (المهيمنة) وغير الغربية (الفرعية) يجعل الحفاظ على هذا النظام بصورته الحالية "القديمة" أمراً غير ممكن في الوقت الحالي حيث أصبح العالم مترابطاً أكثر من أي وقتٍ مضى، خاصةً في ظل التساؤلات الكثيرة التي ما فتأت تُطرح حول شرعية هذا النظام نفسه، ذلك النظام الموروث من حقبة الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، لم يعد من الممكن لعددٍ قليل من الدول، ولا سيما في الغرب، أن تستمر في تجاهل التفضيلات المعيارية (normative preferences) لهذه الدول الأخيرة دون الكشف بصورة بيِّنَة عن الأسس الموضوعية لشرعية واستقرار النظام العالمي الحالي لأن عدم فعل ذلك يعني تهديداً خطيراً لمصداقيته مجمل النظام وشرعيته. لقد حققت الدول المهيمنة حالياً على النظام العالمي الشرعيةَ واستقرارها على المستوى الداخلي مِن خلال عمليات تاريخية طويلة استغرقت ما يُقارب الأربعة أو الخمسة قرون. وفي هذا السياق، قدَّم المقال أدلةً تاريخية مُوفقةً توضح الطبيعة المختلفة تماماً لظهور الدولة في الفضاء الغربي وهي تجربة مختلفة جذرياً إذا ما قورنت بنشوء ظاهرة الدولة القطرية في الفضاءات غير الغربية. وتتماشى الحجج الأساسية للمقال مع أعمال محمد أيوب الأخرى (2002a: 2002b)، مثل القول بأن عمليتي صُنع الأمة وبناء الدولة (nation-building and state-making) تختلف اختلافاً واضحاً بين تجربتي الدول الغربية المستقرة والغنية الحالية والدول غير الغربية التي حصلت على الاستقلال قبل عقودٍ قليلة فقط، إذ تتنوع هذه الدول التي كان عليها الشروع فوراً في هذه العمليات المعقدة في فترةٍ ضيقة هي مرحلة ما بعد الاستعمار، وكما هو معلوم فأنها دول تختلف كثيراً من حيث اصطفافاتها المجتمعية التي تكوّنها والتحديات الأمنية التي تواجهها وطبيعة تشكُّلاتها التاريخية التي حكمت تطورها اللاحق بعد الاستقلال كما ستحكم قطعاً مستقبلها. ويمكننا القول بأن الشاغل الرئيسي لمعظم هذه الدول الحديثة غير المهيمنة هو ألَّا يكون استقرارُ النظام العالمي الجماعي الحالي، كما تدعو إليه تلك القوى المهيمنة، مما يُعرِّض سيادة وأمن واستقلال هذه الدول للخطر، أي أنه لا ينبغي أن يتم "على حسابها". وبالفعل، يبدو أن هذه الدول الغربية المستقرة والمهيمنة لا تحملُ محملَ الجد الضرورات الأمنية المُلحَّة وشواغل الدول غير الغربية وتنسى أنها لم تتعرض لمثل هذا النوع من الخطابات والمؤسسات المُعولَمَة عندما كانت تطمح، عبر القرون القليلة الماضية، إلى تحقيق وحدتها الوطنية وتمارس عمليتي صُنع الأمَّة وبناء الدولة الخاصة بها. وفي هذا السياق، ربما كان من المفيد هنا الإشارة إلى ما أثبته كل من تشارلز تيلي وآردنت (1975: 71)، وأورده أيوب، عندما أشارا إلى أن بناء الدول في أوروبا الغربية: "قد كلَّف الكثيرَ من الموت والمُعاناة وفقدان الحقوق وعدم رغبة في تسليم الأرض والبضائع والعمالة... لقد قاوم معظمُ السكان الأوروبيين كلَّ مرحلةٍ من مراحل إنشاء دول قوية". وعلى خلاف من الكثير من الأدبيات المنشورة في مجال العلاقات الدولية، فإن مقال أيوب ركّزَ بشكل واضحٍ على العدالة والنظام، (Justice and Order) ليس فقط في النظام السياسي والقانوني الدولي، بل وأيضا في "الحس الأخلاقي أو المعياري" للعدالة، وربما تعامل معه بجرأةٍ نادرة في الدراسات الاجتماعية عموماً. ولكن أيوب وضع ذلك في سياق أوسه يهدف إلى فهم النقاط المرجعية المختلفة بين الدول الغربية وغير الغربية، مما نأى بكلامه عن أن يكون فلسفياً أو أخلاقيا بحتاً: إذ أنه أثبتَ فيما يخص مسألة الوحدة الوطنية وبناء الدولة مثلاً، فالفئة الأولى من الدول، المهيمنة، مهتمةٌ أكثر على الصعيد الدولي بالقيم المعيارية العالمية مثل حقوق الإنسان والمواثيق المختلفة التي يجب أن تنظّم معاملة المواطنين من قبل دولهم. بيد أن هذه القيم المُعولمة كثيراً ما تتعارض مع عمليات بناء الدولة نفسها، التي تشكل أهمية قصوى بالنسبة للعديد من الدول خارج الفضاء الغربي، أعني هنا الدول الفرعية غير الغربية. وعلاوةً على ذلك، فإن مجرد القلق إزاء الالتزام بهذه القيَّم المعيارية يعني في العديد من الحالات صعوبات أكبر بالنسبة للبلدان غير الغربية التي تحاول تحقيق نموذج خاص بها لبناء الدولة وصُنع الأمَّة في فترة زمنية غاية في القِصَر إذا ما قُورنت بالفترة التي أتحت لدول الفئة الأولى المهيمنة، بل قد يُفضي الالتزام الفعلي والكامل بهذه لقيم المعيارية إلى تفكك الدولة ذاتها. وسيكون هذا هو المسار المؤكد للأحداث في بعض الحالات، لأن أمن النظام الحاكم وأمن الدولة، وربما بقاء وتماسك الدولة أيضاً، أمران لا ينفصمان في العديد من الدول غير الغربية. ولأن مجال عمل العلاقات الدولية هو مجال القوة وتراكمها وتمّثُلاتِها فإن هناك أدبيات قليلة جداً تمس الأبعاد الأخلاقية بالوضوح والصراحة التي انتهجها محمد أيوب في مقاله هذا: لأن دارسي العلاقات الدولية، في الغالب، يأخذون عدم العدالة على المستوى العالمي كأمرٍ معطىً، ومن ثم يشرعون في تحليل وفهم الواقع بعيداً عن التشكيك في مدى "أخلاقية" هذا الواقع. ولكن أيوب طرح هذه المسألة الأخلاقية في سياق سياسي أشمل تُدرك فيه الدول الفرعية، وهي الغالبية العظمى من بين دول العالم كما أثبتنا آنفاً، الظلمَ (Injustice) الذي يعاني منه النظام الدولي الحالي برُمته، هذا الظلم والذي يهدد استقرار المنظومة كلها؛ لذا فإن الأخلاق في نصه هذا ليست مصطلحاً فلسفياً بحال: لقد كتب محمد أيوب، على نحوٍ أكثر وضوحاً وشجاعة من العديد من زملائه وهو يناقش هذه القضايا، وأشك كثيراً أنه لو كانت مقالته قد كُتبت تحت أي اسمٍ آخر أقل شهرة، كانت ستجد طريقها للنشر في مجلة مرموقة مثل مجلة الدراسات الدولية. وكان أكثر ما أثار إعجابي أيضاً إشارتُه مرتين في ورقته هذه إلى فكرة غير محورية كما أنه لم يتوسع فيها كثيراً، ولكنها تبقى مفيدةً في اعتقادي، وهي توصيفه للإسلام السياسي باعتباره "إيديولوجية لمناهضة الهيمنة"، ذلك أن عدداً كبيراً من المراقبين اكتفى بتفسير العنف الذي تمارسه بعض الجماعات المرتبطة بالإسلام السياسي على أنه "سمة ذاتية" ملازمة للإسلام كدين مما يجعله بالضرورة "عنيفاً". لكن وفقاً لمحمد أيوب، الذي أحاول توضيح موقفه كما فهمته بلغتي، فإنّه يجب النظر إلى هذا النوع من الإسلام السياسي على أنه، في جانبٍ منه على الأقل، على أساس أنه فكرٌ اجتماعي مُقاوم تطور في المجال الاجتماعي الثقافي لمجتمعات معينة لم تصل بعد إلى مرحلة الحداثة (Modernity)، سعياً منها إلى مقاومة الخلل الحاد في ميزان العدالة على المستويين المحلي والدولي، والتحديات التي يفرضها هذا الخلل على ظروف وشروط حياة تلك المجتمعات بشكلٍ أو بآخر، وهي رؤية أدعمها بلا ريب. أما فيما يتصل بالسؤال الأخلاقي الذي يتعلق بالعنف الذي يُمارس حالياً، والذي ستمارسه دولةُ ما بعد الاستعمار مستقبلاً، وإلى أي مدىً يمكن السكوت أو غض الطَرف عنه، طالما أنّ ظواهر العنف والاخضاع والإكراه والاستتباع كانت من لوازم عملية بناء الدولة الغربية في القرون القليلة الماضية، غض الطرف عن العنف لمساعدة هذه الدول غير الغربية على تحقيق وحدتها الترابية وبناء دولتها والوطنية ومشاريعها لصُنع الأمَّة، والمدى الذي يمكن في حدوده التسامح مع حدٍ معين من هذا العنف؟ ودرجة الأخلاقية التي تنطوي على مثل هذا التسامح؟ وما إذا كان كاتبنا يسعى دائماً، كما اتهمه بعضهم ظلما، إلى اختلاق الأعذار للسلوك العنيف الذي تتعامل به بعضُ الدول خارج الفضاء الأوربي مع رعاياها في الوقت الحالي؟ فقد يكفي هنا القول بأن محمد أيوب ناقش هذه القضايا في مكانٍ أخرى (2002). أعتقد أن هذا المقال مفيد جداً للراغبين في دراسة العلاقات الدولية، ولأولئك الذين يهتمون بعمليات صُنع الأمَّة وبناء الدولة في دولة ما بعد الاستعمار غير الغربية، ولأولئك الذين يهتمون أيضا بدراسة الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية وفشل الدولة في الدول الفرعية. بروفسور محمد أيوب: دكتوراه في جامعة هاواي في مجال العلوم السياسية ويعمل حالياً أستاذاً جامعياً متميزاً للعلاقات دولية بشعبة العلوم السياسية بجامعه ولاية ميشيغان في كلية جيمس ماديسون، وهو كذلك أستاذٌ زائر في العديد من الجامعات داخل وخارج الولاياتالمتحدة. وهو أيضاً منسق برنامج الدراسات الإسلامية في برامج الدراسات الدولية في نفس الجامعة. ومجال تخصص بروفسور أيوب هو الصراع والأمن في العالم الثالث، وله العديد من المنشورات والمقالات النظرية ودراسات حالة تتعلق بجنوب آسيا والشرق الأوسط والخليج العربي وجنوب شرق آسيا. كما قام بالبحث والتدريس والنشر في صلات وتقاطع الدين والسياسة في العالم الإسلامي. وقد اقترح أيوب لأول مرة نظريته حول الواقعية الفرعية (Subaltern realism) في الثمانينات، ثم طورها في التسعينات وهي نقد منهجي ونظري لبعض المقولات الأساسية عند كينيث فالتز (Kenneth Waltz) عن الواقعية الجديدة أو الواقعية البنيوية (Neorealism or Structural Realism) وغير بروفسور فالتز من مُنظري العلاقات الدولية الغربيين. ويمكن القول إن أيوب هو العالم الرائد الذي كان له الأثر الأوضح في نشر هذا المدخل النظري في دراسات العلاقات الدولية المعاصرة. المراجع: Ayoob, M. (2010). Making sense of global tensions: dominant and subaltern conceptions of order and justice in the international system. International Studies, 47(2-4), 129-141. Ayoob, M. (2002a). Defining security: a subaltern realist perspective. In Critical security studies (pp. 145-170). Routledge. Ayoob, M. (2002b). Humanitarian intervention and state sovereignty. The international journal of human rights, 6(1), 81-102. Tilly, C., & Ardant, G. (1975). The formation of national states in Western Europe (Vol. 8). Princeton Univ Pr. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.