في مواجهة التمكين، بغرض إزالته، لا بد من تعريفه أولاً، وماذا عنت الجبهة الإسلامية به؟ وكيف نفذته؟ وماهو أثره، وماهي قوته وتأثيره، وقدرته، كظاهرة على البقاء والمقاومة؟ لقد بدأت مسيرة التمكين، كأهم عنصر من عناصر المسيرة القاصدة، في مخيلة حسن الترابي، وفصلها على أحلامه الرامية لنشر دعوته، وأفكاره عالمياً، وقد ساعدته في التخطيط والتنفيذ المتدرج للتمكين علاقاته مع قادة التنظيم العالمي للأخوان المسلمين، فمدوه بالأفكار، والمال، والسند الدولي والأقليمي (عن طريق المنظمات الأخطبوطية المرتبطة بالأخوان المسلمين). لقد بدأ الترابي مسيرة التمكين عندما اصطلح مع نظام نميري. وكان فتح المنافذ المالية، والتسلل إلى جهاز الدولة، والقوات النظامية، هو ما قصده الترابي من المصالحة، يضاف إليها ما سيتمتع به تنظيمه من حرية حركة تضمن ديناميكته، وقدرته على الوجود الفاعل وسط الجماهير من خلال المؤسسات الدينية بالذات. وسقط نميري، واستمر بعده الترابي، وهو يقود الثورة المضادة لإنتفاضة مارس أبريل، وقد نجح مستنداً إلى قدرات التنظيم، متعددة الواجهات، في التخريب والتعويق، نجح في الوصول إلى شراكةٍ في الحكومة كانت هي أكبر خطوة في محاولاته لفك العزلة عن جبهته الإسلامية، وإنتفاء صفة (سدنة مايو) عن الأخوان المسلمين. ولقد أتاح لهم وجودهم في الحكومة، الإطلاع من الداخل على تركيبة قوى الإنتفاضة، ومعرفة نقاط الضعف لدى خصومهم السياسيين، وعززت تلك الفرص وغيرها، مجتمعة، قرار الجبهة الإسلامية بالإستيلاء على السلطة في البلاد. في أواخر أيام نميري، وفي أثناء الأختلاف بينه وبين الترابي أعلن الأخير عن نظريته في تطور الحكم، وقال قولةً أغضبت نميري وجعلته ينقلب عليه ويودعه مع تلاميذه السجون، فقد قال: - لقد إنتهي دور الإمام المجاهد، وابتداء دور الإمام العالم. وفي إطار هذه النظرية، فقد إحتاج الإمام العالم (الترابي) لإمامٍ مجاهد (عمر البشير)، لمعاونته على الإستيلاء على الحكم وتوطيده بالأنابة، وتبدت المقولة البائسة، مرة أخرى، في جملةٍ تقبل التأويل: - إذهب إلى القصر رئيساً، وسأذهبُ أنا إلى السجن حبيساً. لقد إفتتحت هذه المقولة العلاقة بين الجبهة الإسلامية وبين مجموعة من العساكر معادون للديمقراطية على الأقل، ونواة هذه المجموعة هي من عناصر الأخوان المنظمين في الجيش السوداني. لقد كان هذا التمويه وسيلةً من وسائل التمكين، رغم كونها مؤقتة. وشرعت الجبهة الإسلامية في السيطرة الكاملة على جهاز الدولة (بالإحلال)، وصفت القوات النظامية تحت سيف الطؤاري، أو الحرب، وظهرت في تلك الفترة مفردة (الإستهداف)، وراجت، وأصبحت حجة على كل من تسول له نفسه انتقاد سلطة الإنقلابيين. لقد وفرت الجبهة الإسلامية آنذاك بالعواء، والدعاية الديماجوجية فرصة لتطبيع الإرهاب للخصوم، كمنصة ومبرر كافي لإعتماد (التمكين) هدفاً أوحداً، ومقدس، في كل مجالات العمل العام، والخاص، وصادرت به حقوق السودانيين الأساسية، ومنها بالتأكيد: الحق في الحياة. ولكنها، وبغرض إدارة الدولة، وتصريف الحياة، احتاجت لحليف ثالث، وهو قوى السوق، والتي كانت قد تشكلت آنذاك، من حملة رؤوس الأموال الطفيلية، وهي الأموال التي تأبى أن تدخل في الإنتاج، وتقف من بعيد وترقب تدفق البضائع والمحاصيل والمنتجات المتخلفة، لتضارب وترابح وتشارك بأسس تجارية في قوت الناس وفي احتياجاتهم الأساسية، وكان لأبد من الدفع بعدد من الكوادر الملتزمة لتلك الأسواق، ودعمها حتى تلج دنيا المال بأسنان. وبدأت التخمة، والفساد، والتخريب الممنهج لإقتصاد وقدرات البلاد. ولكن الجبهة الإسلامية لم تر ذلك، لأنها لا تضع للبلاد إعتباراً ولا يهمها أمر الناس، وتلقم كل من يعارض بالشعار المزور: (لا لدنيا قد عملنا، نحن للدين فداء)، هذا الفداء الذي دفع ثمنه شعب السودان جوعا ومسغبه، وأودى بالبلاد إلى الإفلاس الذي نعانيه الآن. وبانت ملامح الخطوات القادمة من التمكين: 1- الإحالة للصالح العام. 2- الملاحقات والمطاردات الأمنية للمعارضين. 3- الإعتقال والتعذيب. 4- الإغتيال. 5- السجن، والإعدام (بالتركيز على النقابيين). وضحايا التمكين على قفا من يشيل، ولكن المجال لا يتسع هنا. المهم أن ثقة التنظيم العالمي لأخوانهم في السودان، سرعان ما رسخت، وأتوا بأنفسهم للخرطوم، حيث أسسوا (المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي)، وكان داره الفخم يقع في شارع الجامعة. وشرع في التمدد في البلد واستباحتها، وفي 1995م. نفذ أول جريمة عالمية تنطلق من أرض السودان، حينما حاول تنظيم الأخوان المسلمين إغتيال الرئيس المصري/ حسني مبارك. لقد فشل مشروع الجبهة الإسلامية العالمي، لتخلفه، ودمويته، وتناقضه مع المفاهيم المعاصرة لحقوق الإنسان، ولأسس وابجديات العلاقات الدولية، ولعدم أهليته للوجود في القرن الواحد وعشرين. ولم يعي الأخوان المسلمين أسباب الهزيمة، ولم يضعوا إعتباراً للرفض العالمي لهم، وانفردوا بالساحة السودانية يبثون خطاب الكراهية ويشيعون الإرهاب ويتمادوا في إرتكاب الجرائم. لقد ألحق مشروع الجبهة الإسلامية أضراراً بالغة بإنسان السودان، وأهدر موارد البلاد، ودمر قدراتها في كلِّ منحى من مناحي الحياة، وفي أيامه الأخيرة كان النظام المباد يتعامل كمن احترقت مراكبه، فأمعن في ارتكاب الأخطاء، ولم يخشى الله في البلاد وأهلها، ومع ذلك فإن الأخوان المسلمين لم يستوعبوا حجم الرفض والهزيمة التي عبرت عنها ثورة ديسمبر المجيدة. إنهم يشاركون، الآن، في الحكم بصفهم الثالث، وهم موجودين، في مفاصل الدولة، وفي السوق، وفي الإعلام، ووسط الناس، يخذلون ويخربون ويهددون، ولكن الأهداف الوضيعة والنوايا الخبيثة لن تجد فرصة لتنمو، فهم في انحسار. ولتسريع هذا الإنحسار، فأن المهمة الماثلة في مواجهة التمكين تحتاج عملاً جماعياً، ولا يمكن أن تترك للجنة إزالة التمكين وحدها، مهما كانت قدراتها، لأن ضرر هذا التمكين قد حاق بالجميع، ولأن المعلومات، والخطط، وأساليب إزالة التمكين مفرقٌ دمها بين المناضلين. 04 أبريل 2020م. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.