عندما أشرقت شمس السادس من أبريل عام 2019، تمنيت لو أن الليل قد إمتد عشر ساعات اُخر! لم أكن ناعساً أتمنى مزيداً من النوم، في الواقع لم أنم سوى ساعة أو أزيد قليلاً طوال الليل .. كنت مرتعباً خائفاً وجلاَ … والقلب لم يكن معي في الدوحة، القلب كان قد إرتحل منذ منتصف ديسمبر (العام السابق) هناك، إلى الخرطوم العاصمة التي سرقها الأفاكون و احتلوها قبل ثلاثين عجاف، القلب كان بين شوارع الخرطوم و أزقتها. اللهم أن نُخذل اليوم، تنكسر أفئدتنا و ظهورنا!! اللهم إن ثورتنا حق ضد باطلهم ! .. فتحت عيني متثاقلاً .. و في الخاطر آلآف الهواجس .. ماذا لو استعدوا على الثوار كلابهم و مليشياتهم وأساطين بطشهم، فأهرقوا الدماء و أغلقوا الطرقات.. وكبيرهم بذلك زعيم ؟؟ ماذا إن قتلوا الناس .. فارعبوهم وشتتوا شملهم فانطفأت جذوةٌ ظل شعبنا يقبض على جمرها منذ اربعة أشهر؟ أنظر يميني فأرى زوجتي تكاد تذوب من الهم و الهواجس مثلي، و لا نجد ما نؤازر به بعضنا .. و تزداد الهواجس و المخاوف و الظنون!! و يكاد كلانا يسمع وجيب قلب الآخر!! تمضي الدقائق ثقيلة كأنها الدهور .ما أقسى دقائق الهم و الخوف و الهواجس و الظنون ! حولي عدد لا أذكره من الشاشات .. أبحلق فيها .. ما بين شاشة جوالي، و شاشة الكومبيوتر المحول، و عبثاً أنقل بصري يأكلني الوجل و الاضراب، ثم أنتقل إلى شاشة التلفاز، لعلي أجد فيها جذوة أو على أثيرها هدىً. حينما عانقت عقارب الساعة التاسعة صباحاً لم أعد أطيق إنتظاراً في المنزل. سبتُ الدوحة لمن يعرفه هادئ ثقيل، لا يسعُ من كان داخله مضرباً مثلي. تسللتُ بهدوء خارج المنزل، ركبت سيارتي، و شققت طرقات الحي السكني الهادئ الذي نقطنه في ضواحي مدينة الدوحة، هاتفت زوجتي لأخبرها أنني في طريقي للمنطقة الصناعية، كانت تعلم أن سيارتي بها خلل ما و لكنه غير طارئ، و لا يستحق هذا الخروج المفاجئ على غير ما اعتادت مني في أيام السبت، بيد أنها تفهمت من غير عناء ما أكابد من اضطراب يقارب حدود العذاب. في الورشة سلمت السيارة للفني و ذهبت أتجول بغير هدى، و تركت الجوال في السيارة .. و عند الثانية عشرة ظهراً لم أعد احتمل .. عدت للسيارة كالمجنون .. إختطفت الجوال منها و إنتحيت ركنا قصياً داخل الورشة و تسمرت عيني على الجوال .. و عند الواحدة بدأت الاخبار تتواتر مسرعة، و مع كل خبر يرتفع السقف، و ترتجف الدواخل … ثم كانت لحظة أن رأيت الالاف يشق هتافهم عنان السماء .. حينها إنهمرت الدموع من عيني و ما عدت أرى سوى قطعة الحديد و الزجاج التي احملها بيد مرتعشة.. يعلم الله أن دموعي كانت دوماً عصية، و لكنها الان لا تستأذن مقلتيّ و لا تجادل! إنتبهت على صوت (الفني الاسيوي) الذي كان يقف خلف كتفي هو زميله، يبحلقان في و في شاشة جوالي باندهاش مفرط! حاولت أن استجمع جناني كي أشرح ما يحدث قاطع شرحي المتلعثم رنين الجوال .. كانت زوجتي على الطرف الآخر: - عبدالله ! - آآآآآ ( تحشرج الصوت و لم يخرج) هي بصوت مختنق: - شفت .. الناس .. القيادة .. ؟؟ إنقطع صوتها و انخرطت في نوبة بكاء حادة. إستجمعت ما تبقى من جنان، و شددت حبالي الصوتية باقصى ما استطيع، وخرج مني صوت متحشرج يغمغم: - أيوة .. أيوة .. شايف .. ربنا حينصرنا عليهم.. إنتهت واحدة من أقصر المكالمات التلفونية بيني وبين زوجتي في أقل من 30 ثانية! تلك الثواني الثلاثون أعادتني للحياة!! أعادتني لحلم السودان .. بقدر احتشاد الثوار أمام القيادة العامة، إحتشدت هذه الثواني الثلاثون بفيض من المشاعر.. والذكريات الآلام و الآمال، الناس، الشوارع، الحواري، السجون، القهر، الظلم، الفساد، الاستبداد، شعاراتهم الكاذبة، القتل، الموت، التشريد.. ثم ما فجره هذا الشعب الأبي فينا من الفخر والعزة والإباء، والصمود والبسالة، والتضحية والفداء. هذه الثواني الثلاثين، صبّت فينا نحن الاثنان إحساساً بالفخر بانتمائنا لهذا الشعب العظيم الجبار .. صانع المعجزات ! كنا قد بلغنا من الفخر و الاحساس بالمجد مبلغاً بدت منه نجوم السماء تحت أقدامنا! لما أشرقت شمس السابع من أبريل، و امتلأت شاشات الدنيا بأجمعها بلوحة (إعتصام القيادة) لم تكن الأرض تحمل فوق أديمها في ذلك اليوم أمجد من الشعب الأسمر صانع المعجزات و رائد المجد. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.