بتأسيس الحركة السودانية للعدالة والتقدم في لندن في العام 1994 وماتلاها من تأسيس حركة القوي الجديدة الديمقراطية حق أشعل الخاتم ورفاقه المؤسسين فتيلا لن يخبو من الإتقاد نحو مشروع سياسي وفكري ثقافي جديد . فالوميض الذي أشعله الخاتم وقدح زناده في عقول الساسة السودانيين فهز قناعاتهم ويقينياتهم الفكريةوممارساتهم الطقوسية حيث لم يعد الوضع كما كان راسخا قديما ، فقد أصابه شرخ له مابعده من أثر بائن من الترنح تحت ضرباته الفكرية والنقدية اللازبة آذنة بميلاد جديد لاينكره إلامكابر تدثر في قديمه المهترء الذي لاتستره ثقوب الفضح من حقيقة عريه الفكري وفقره السياسي العقيم . أماط خاتم اللثام في توصيف الأزمة الوطنية الشاملة ، وأوغل في تحليل طبيعة السلطة البائدة و كيفية مواجهتها ، و في تشريح وتفكيك علاقة الدين بالدولة بمبدأية فكرية راسخة ، وتناول محددا آليات الحفاظ على وحدة البلاد ، وفصل في قضايا العدالة الاجتماعية و مداخلها المتعددة ، وأوضح خصائص النظام الديمقراطي و حقوق الإنسان، و مفهوم الهوية السودانية وإرتباط كل ذلك وفق مشروع تنويري حداثوي للنهضة الوطنية الشاملة التي داعبت أخيلة السودانيين علي مر نضالاتهم التاريخية . وأفاض توضيحا وتشريحا لمفهوم القوي الجديدة ووحدتها كقوي إجتماعية وثقافية تعبر عن ذاك المشروع الجذري للنهضة الشاملة بأشكالها وأبعادها المختلفة . حيث لم يكتفي خاتما بذلك بل وجه مبضعه النقدي للمشاريع السياسية المطروحة في الساحة السودانية من أحزاب أيدولوجية وعقائدية وقوي حزبية تقليدية فشلت مشاريعها او خلا وفاضها من مشاريع سوي أنها أجهضت بناء السودان وإنطلاق نهضته بخيانة الديمقراطية وتخريبها بإقامة ديكتاتوريات مدنية وعسكرية مسخرة جهاز الدولة ومخطتفة لها للإستحواذ علي مقدراتها ومواردها ونهبها للوصول للمكاسب الشخصية وإمعانا في ممارسة الإنتهازية السياسية ، وتدمير الشعب السوداني والتعامل معه كما السوائم والأنعام ، او إتباعا للوهم واليوتوبيا والحمولة الأيدولوجية التي أثقلتها فحملتها الي دروب المهالك والمتاهات القصية وكأنه لاسبيل الي الخلاص من واقع الخطل السياسي التاريخي منذ بروز الدولة الوطنية السودانية سوي بتحقيق هذه الأيدولوجيات الزائفة بزيف حتمياتها الصارمة المصادرة لحرية الفكر والرأي والتعبير . كما ساهم الخاتم مساهمة معتبرة و غنية وجدت مكانها في نسيج الفكر السوداني عبر مقالاته الراتبة بالصحف والمواقع الإلكترونية فقد إنتهج فيها إسلوبا رصينا مبدعا ، كيف لا وهو الكاتب الألمعي الذي لايشق له غبار بغزارة المادة المعرفية التي تخللت كتاباته في كافة الإتجاهات في الفلسفية والسياسية وحركة الأدب والترجمة ، ذلك غير سجالاته الفكرية والسياسية مع عدد من الكتاب والمفكرين ، التي مثلت أدبا جديدا في مرافعاتها الدقيقة الفصول والشاملة إلإحاطة حيث لايدع شاردة ولا واردة للقرائن والأدلة والبراهين ، كيف لا وهو الدارس للفلسفة والممارس لها تطبيقا دقيقا . ولم يكن كذلك فحسب فقد كان خطيبا مفوها بعيدا عن اللغة الهتافية الصاخبة بالشعارات الديماجوجية الفارغة . فقد كانت ندواته ممتعة وتمثل سياحة فكرية بإقتدار يحض علي النقد و عقلنة السياسة للوصول لتغيير جذري في الممارسة السياسية ، واضعا ومطوعا كل ذلك لنهضة جماهير الشعب السوداني وتطلعا لخلاصهم . كان الخاتم مؤمنا بإرادة الشعوب وقدرتها علي الإنتصار والإنتشال من حالة الوهن والموات وصاغ ذلك بشكل ملحمي في مقولته الخالدة في نص بلاغي أخص به إستنهاض الشعب السوداني مخاطبا لعقله وإرادته وإنسانيته الكامنة ، حيث كتب : في مطالع القرون، وبدايات الأزمنة، تودع الشعوب شموسها الغاربة، تستجمع قواها، تلعق جراحها، تدفن موتاها وتنهض من الرماد، تشهر بلاغة تظلماتها في وجه ظالميها العتاة، وتكشف عريهم المسربل بالأكاذيب، تطوي صفحاتهم التي تهرأت من ثقل الخطايا، وتستقبل الأفق، وتوغل في الآمال والمغامرة، مقترحة مسارا جديدا للتاريخ، وأسلوبا جديدا للحياة، وعلاقة جديدة بالحضارة، ومكتشفة في أعمق أعماقها قوى لم تكن تحلم مجرد الحلم، بأنها ثاوية داخلها، هاجعة في كيانها الجمعي، تنتظر عودا من الثقاب، يلمسها لمسا خفيفا، لتنفجر وتنداح . ذلك هو رهان الخاتم في إرادة شعبه الذي لم يخيب بإندلاع ثورة ديسمبر المجيدة وإقتلاعها لنظام الجبهة الإسلامية حيث إمتشق نضاله ضده حتي مات من اجل إسقاطه . كماساهم في تفكيك مشروعه الظلامي الديني محاربا للخرافة والدجل بإسم الدين والقداسة والجهل والتخلف ناشرا للإستنارة والوعي والعقلانية شاهدا علي ذلك ما اختطه وهو علي فراش موته : إشهدوا مني وأنشروا عني إني عشت حياتي كلها أحارب الخرافة وأنشر الإستنارة - ولو تبقي من عمري يومان أو ساعتان أو دقيقتان وأنا قادر لنشرت فيهما الإستنارة . كما كان موقفه نبيلا أمينا في إختلافه مع زملائه بالحزب الشيوعي محتفظا بذكري تاريخه النضالي الصامد الذي أفني فيه جل عمره ولم يمنعه ذلك من النقد أملا في تطويره وإن خرج منه فهاهو يقول عن الأستاذ عبد الخالق محجوب : كان قائداً مُلهماً وذكياً وجريئاً، وكانت له رؤية ثاقبة ومقدرة غير عادية على إجتذاب الناس وتحت قيادته صار الحزب قوة يأبه لها من قِبل كل القوى السياسية في السودان ولم يكن أي حزب يبرم أي أمر دون أن يضع موقف الشيوعيين في الاعتبار، من الناحية الاجتماعية كان الحزب الشيوعي قوة تحسها في كل البيوت وكان للنفوذ الشخصي لعبد الخالق محجوب أثراً مباشراً في ذلك. كما يستعيد بعض من ذكرياته بإنسانية مفعمة بالبساطة ، فيقول : وأذكر أشياء أخرى، ديوان أمتى: الوعي ،الحلم والغضب. كنا نقرأه بعد الايام المرهقة، ومعي أخوي خالد الكد وعبد القادر الرفاعي. أذكر ليلة مقمرة قرأت لهما فيها قصيدة القمر: ظل هذا القمر العابث طول الليل يستغوي الحقولا، ناشرا فضته الزرقاء، في اوراق زهرة، وبإبريق رخام، ظل حتى أحتقن السمسم بالحب ونام. كنت اقرأ وأعلق وكان عبد القادر الرفاعي يتحول إلى ضحكة، هائلة، بعضها يزلزله وبعضها يزلزل الكون . كتب عنه المفجعون في رحيله بمداد شجي صدوق جميل ، ومن أعمق ماكتب عنه من بورداب سودانيز اونلاين عندما تكلم الخاتم وخبروا مايقول - ننقل بإقتضاب : 1- محمد النعمان : لقد عاش غيرك – يا سيدي الخاتمُ – أرذلَ الخياراتِ وأسهلها ، ليكون له أن يموتَ في أرذل العمر. أمّا أنتَ فقد اخترتَ – إمتثالاً للتاريخيِّ في الواقع ، وللعقلانيِّ في الذات – أن تعيش شرطَ اليساريِّ القاسي ، في غربته وتجلده ، في صدقه وتنسكه ، في نقده للذات كما في انكشافه المريع ِ ، أيضاً ، لقمع السلطةِ وبطشها. وقد استطعتَ – في ثباتٍ ومثابرةٍ – أن تمنحَ فضاءنا السياسيَّ شاكلة ً راسخة من جسارةِ الفكرةِ وبسالةِ الفعل وجدارةِ الإنتماء إلى خيار ٍ نظيف. وها أنتذا تذهبُ في ريعان العمر ، ومجده. فإن كنت قد مِتَ في ربيع المنافي – يا خاتمُ - فإنّ الذي قتلكَ ويقتلنا ، بالحقِّ ، لهو صيفُ هذا الوطن المختطف ، وسيفُ جلاديه المقدَس. لقد كنا ، بالطبع ، نتوّقعُ موتك المعلن ، لكننا أيضاً لم ننتظره. وكيف كان لنا أن نتقبّل مستبسلينَ ذلك المعنى الفظَّ في موتك وأن نعترفَ مستسلمينَ بأن اليسار ، الضئيلَ في كَمِّه والمتشظي في فعله ، كان – في واقع الأمر – على وشك أن يخسرَ ، برحيلكَ ، جيلاً كاملاً كان أن أودع مبلغَ تحصيله المعرفيّ وزبدة بصيرته السياسية في ذهنك الوقّاد ثم بعثك إلى الناس نظيفاً ، عفيفاً وجسوراً على النحو الذي صرت إليه؟ حين إلتقيتك قبل شهور قليلةٍ ، هنا بواشنطون ، كنتَ – كعادتكَ – واضحَ الذهن ، عاشقاً لأرضك لا مساوماً في معاركها التأسيسية ، رائياً دون توهُّم ٍٍ أو انفصام ومنفتحاً على الآخر كندٍّ سياسيٍّ دون شهوةٍ في استقطابٍ مقيت. تلفتَ ملياً ، يا سيدي ، ولم تستثن ِ أحداً من قطاعات القوى الحديثة وطلائعها. ثمّ إنه لم يرعبك أبداً مصطلح العلمانية ، كما ظلّ يفعل بغيرك الأباطيل. فقد تكرّس في خطابك كمصطلح ٍ طلق ومفهوم ٍ ثرٍّ لا يتلجلج كما هو شأنه في سيرك السياسةِ المحترفة. لقد ذهبت واضحاً لا متفاصحاً ، يا سيدي ، إلى أن الدولة العلمانية هي شرط الوحدة الموضوعيّ كما إنها هي الضمانة المؤسسية التي تكفل تحقيق تلك القيم التي من شأنها وحدها الاستجابة لتطلعات الشعب السودانيّ في تعدده وتنوعه الإجتماثقافيّ. لقد كرّست - يا خاتمُ – عمرك القليل لخدمة قضايا اليسار لأنك قد رأيت باكراً إنها هي ما بمقدوره أن يلبي الطموحات التاريخية لشعبك. فإن كنت قد فعلت ذلك يا سيدي طوعاً وإختياراً ، فإنه لن يكون لأحدٍ أن يقول الآن إنك قد "أفنيتَ" عمراً عميقاً في الدفاع عن مبادئك والزودِ عن حقِّ ممارستها. من كان مثلك ، يا سيدي ، لا ينقضي بالموت فتنفد صلاحيته تماماً. لإنْ كنت "خاتماً" ، ذلك الذي ذهب متوّجاً بمحبتنا وبإحترام غريمه وجلاده معاً فاسمح لي أن أقول لك بأنك سوف لن تكونَ "خاتماً" لرسل هذا الشعب الذي أبدعك فأبدعتَ ، له وبه ، موقفاً حازماً وفعلاً عارفاً وفكرةً بديلة. وما من أحدٍ بيننا سيبتدر درساً تاريخياً في مسائل الثورة والتحوّل إلا وألفاكَ متجذّراً في واعيته ، واضحاً فيها كعلامةٍ فارقة. فلك أن تذهبَ ، إذن ، يا خاتمُ ، حيث شئتَ أو شاءَ غيرك فإنك قد كنتَ ، بالحقِّ ، ذلك اليساريّ الضخمَ الذي امتحنه شعبه في أسوأ أحوال تاريخه اضطراباً وردّة ، وامتحنته المعرفة في أكثر لحظاتها تحوّلاً وارتباكاً ، لكنه – من بعدُ – لم يتراخَ و لم يسقط 2- وكتب فيه الشاعر الأديب بشري الفاضل : تمساحة القلب الى الخاتم عدلان أين في تمساحة القلب المحبّة؟ قمطرت فاكهة فينا وأبا وزمان لا يدوم واشتياقات لأحباب تولوا في التخوم ربضوا خلف الغمام أو تشابوا للنجاة وسط أمواج الزحام أو تغذوا بالهموم في بلاد أبدعت حرثاً وغرساًً لا زقوم والشجون في بلاد سبقت ضوئيتين (فرسما) كانت وروم والحنين لبلاد هطل الليل عليها سائلاً بمنايا وضريع فطرها الفاشيُّ شبّا وصديقٍ في مضيقٍ قال آه قلبي المحزون أرخا سمعا فتنادت خفقة منه ولبّا من خشاش الأرض أهلى يأكلون من قرون كالسّوائم مثل لصٍ دخل الطاعون بين اللقمة الأولى وأحلام البطون شاهراً سيفاً محلى بالجفاف عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.