بنظرة سريعة على التشريعات التي تحكم منظومة التعليم العالي، يتضح وبصورة لا تتطلب تعضيداً أن نظام الانقاذ وبعد نجاحه في استلاب السلطة عمد إلى تدجين الوسائل والنظم التي يمكن أن تمثل تحدياً لسطوته، واستخدام أدوات تكرس هيمنته على الجامعات، وتمكنه من تمرير سياساته دون عناء. فأصدر بعد فترة وجيزة من نجاح الانقلاب قانون تنظيم التعليم العالي والبحث العلمي لسنة 1990 والذي لا يزال هو التشريع السائد، كما أصدر تشريعات مستقلة تنظم عمل الجامعات المختلفة و تتماهى في مجموعها مع قانون التعليم العالي الذي أحكم القبضة على الجامعات بما أفقدها استقلالها وحيويتها الأكاديمية وجعلها أجهزة تسير في ركب السلطة. بعيد فترة قليلة من تولي نظام الانقاذ السلطة في البلاد صدر قانون جامعة الخرطوم لسنة 1990، والذي أدخل تعديلات أساسية على التشريع الذي سبقه وهو قانون جامعة الخرطوم لسنة 1975، ثم أعقبه بإصدار تشريع حل محله وهو قانون جامعة الخرطوم لسنة 1995، وخضع هو نفسه لتعديلات إلا أن محصلته النهائية أنه كرس بصورة قوية القبضة على الجامعة. ويسعى هذا المقال لبيان أوجه القبضة السياسية على الجامعات باستخدام نموذج قانون جامعة الخرطوم وكيفية الخروج منها. يعد راعي الجامعة أحد المناصب التي نصت عليها تشريعات الجامعة المتعاقبة منذ الاستقلال، ومن ناحية تاريخية فقد كان هذا المنصب تشريفياً حيث أدرج في قانون الجامعة لسنة 1956 لتمكين مجلس السيادة من رعاية احتفالات الجامعة وإصدار القرارت التي يرفعها إليه مجلسها. وتأكيداً لهذا الدور التشريفي فقد أسند منصب رعاية الجامعة لمجلس السيادة وليس لمجلس الوزراء للحفاظ على استقلال الجامعة والبعد بها عن التوجهات السياسية. وظل هذا الوضع معمولاً به خلال فترات الديمقراطية المختلفة التي تعاقبت على السودان. إلا أن قانون جامعة الخرطوم لسنة 1995 عوضاً عن تتبع هذا النهج استغل منصب الراعي لتأكيد السيطرة على الجامعة، فخرجت صلاحيات تعيينات المناصب الأساسية عن المنظومة الداخلية للجامعة بما فيها مجلس الجامعة ومجلس أساتذتها إلى الجهاز الحكومي فأصبح رئيس الجمهورية بناء توصية وزير التعليم العالي هو الذي يعين رئيس مجلس الجامعة كما أن الكلمة الفصل في تعيين مديرها ونائب مديرها تصدر دون اعتبار لإرادة الأسرة الجامعية. ولم تكن توجد معايير علمية دقيقة لملء منصب مدير الجامعة أو بقية المناصب الأخرى، بينما كان الولاء السياسي أحد أهم المعايير التي اتبعت. فعلى سبيل المثال بعد تعيين بروفسير مصطفى إدريس مديراً للجامعة اتضح أنه لم يكن النموذج المقبول من النظام الحاكم لإدارة الجامعة ووجه نقداً لاذعاً لطريقة إدارة البلاد من خلال عدة مقالات نشرت بالصحف، فتمت الإطاحة به قبل أن يكمل دورته. كما أنه بالنظر للذين تعاقبوا على منصب مدير الجامعة فقد كان معظمهم من الذين ينتمون إلى التيار الموالي لنظام المؤتمر الوطني. وبالنظر لتجربة اختيار مدير الجامعة في الفترة التي سبقت نظام الانقاذ فقد جرت انتخابات تنافس فيها ثلاثة مرشحون من الأساتذة أسفرت في نهاية المطاف عن فوز البروفسير يوسف فضل. ورغم ما يمكن أن يقال حول المثالب التي لازمت الانتخابات التي جرت والمنهج الذي اتبع فيها، إلا أنها كان يمكن أن تتطور لتصبح نظاماً يحفظ استقلال الجامعة ويسمح بتطورها بعيداً عن المؤثرات السياسية والعقدية. وبمجيئ نظام الانقاذ وصدور قانون 1990 انقطع الطريق أمام هذا التطور وخضعت الجامعة لسطوة النظام الحاكم. من الضروري تعديل قانون الجامعة بما يسمح بإلغاء طريقة تعيين الإدارة العليا في الجامعة واستبدالها بوضع معايير دقيقة تضمن الكفاءة والأهلية اللازمة في مدير الجامعة وتجعل من حق المنظومة الداخلية في الجامعة التحقق من هذه المعايير، وتمكين أجهزة الجامعة من الاختيار وليس فرضه فرضاً من الجهاز الحكومي. تمثلت السطوة على الجامعة أيضاً من خلال تشكيل مجلس الجامعة والذي يتكون من 41 عضواً تعد الغلبة الكاسحة فيه من الأعضاء المعينين بما فيهم 21 عضواً من خارج أجهزة الجامعة يعينهم رئيس الجمهورية بصفته راعياً للجامعة. وتأتي خطورة هذا الوضع في أن مجلس الجامعة هو المجلس الأساسي في إدارة الجامعة فهو المنوط به وضع خطوط السياسة الفعلية للجامعة بما فيها وضع السياسات الأكاديمية والأدارية والمالية وإجازة الموازنة السنوية للجامعة ومتابعة المصدق منها، وإنشاء الكليات والمدارس والمعاهد والمراكز والأقسام والمستشفيات الجامعية ومنح الجوائز غير العلمية للأشخاص الذين يعتبرون جديرين بها. ولا يمكن القول باستقلال الجامعة في ظل وجود مجلس معين من قبل الحكومة لتولي أمر الجامعة دون اعتبار لأجهزة الجامعة الداخلية، الأمر الذي يتطلب تعديل تشكيل المجلس بتمكين الأجهزة الجامعية الداخلية من أن يكون لها القدح المعلى في تشكيل المجلس. وأقترح أن يكون المجلس أكثر رشاقة بتخفيض عدد أعضائه حيث أن قدرة وحيوية المجلس على تحقيق أهدافه ليست بكثرة الأعضاء وإنما بكفاءتهم وخبرتهم. كما أن تعديل اختيار مدير الجامعة وملء المناصب العليا في الجامعة إلى أسلوب يحافظ على استقلال الجامعة يؤدي تلقائياً إلى تعديل جوهري في اختيار أعضاء مجلس الجامعة. امتدت القبضة حتى إلى الوحدات التنظيمية في المستويات الأدنى. فأصبح اختيار عمداء الكليات ومدراء المعاهد والمراكز صلاحية أصلية لمدير الجامعة لا يخضع لرغبة مجلس الكلية أو المعهد أو المركز إلا من باب التشاور فمدير الجامعة هو الذي يوصي لمجلسها بالتعيين . ومن المعلوم أن المشورة ليست أمراً ملزماً، فيمكن لمدير الجامعة أن يضرب بها عرض الحائط ويوصي بمن يشاء ممن يثق فيهم. ورغم ادخال بعض التعديلات على قانون الجامعة وتعديل طريقة تعيين العمداء ومن في حكمهم من خلال تعيينهم بواسطة مجلس الجامعة بعد أن كان محتكراً لمديرها، إلا أن هذا لا يغير من الواقع الماثل الذي يمكن أن يقدم في طريقة التعيين الولاء السياسي على الاعتبارات الأكاديمية الصرفة والمقدرات الإدارية. ويتطلب هذا الوضع تعديلاً بإعطاء مجلس الكلية أو المعهد أو المركز حق المشاركة الحقيقية في اختيار العميد أو مدير المعهد أو المركز وذلك بأن يكون له حق التوصية بتعيينه وليس مجرد مشاورته على سبيل الاستئناس برايه. لقد انعكست القبضة السياسية على الجامعة في الواقع العملي على نشوء نظم وممارسات مدمرة للعملية التعليمية والإدارية في الجامعة وشمل ذلك القبول باستثناءات خاصة لفئة الطلاب المجاهدين، ومعاملتهم وفق قواعد استثنائية في نظام الامتحانات والتقييم الأكاديمي، والقبول بتخريج الطلاب الشهداء ومنحهم درجات علمية، وعدم الاعتراض على مؤسسات الوحدات الجهادية في الجامعة رغم دورها الأكبر في إثارة العنف الطلابي، والسكوت عن قرارات الحكومة التي أدت إلى مصادرة مساحات واسعة من أراضي وداخليات الجامعة وتحويلها لمؤسسات أخرى. لا مناص من النظر في التشريعات المنظمة للجامعات بما فيها جامعة الخرطوم بما يخدم استقلالها ويمكنها من أداء دورها الحقيقي بعيداً عن الاتجاهات السياسية، خاصة بالنظر للقاعدة الدستورية التي قررتها الوثيقة الدستورية في مادتها رقم (63) والتي شملت كفالة الدولة لاستقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي وحرية الفكر والبحث العلمي. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.