بسم الله الرحمن الرحيم عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
تناولنا في أجزاء المقالة السابقة مرئياتنا بشأن وجوب الإسراع في تشكيل مفوضية لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة، لتكون مجلس حرب الدولة والمجتمع ضد الفساد، وقد شرحنا فيها بتفصيل الأساس الدستوري الذي وضعته الوثيقة الدستورية لمكافحة الفساد، ومن ثم استعرضنا بعض ما اشتمل عليه [قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م وإزالة التمكين لسنة 2019م] في نسخته الأولى بتاريخ 29/11/2019م ، وأيضاً التعديل اللاحق لهذا القانون الذي نُشر بتاريخ 30/04/2020م ، وقد أوضحنا أن ما تقوم به "لجنة تفكيك التمكين" الحالية غير كافٍ في ملاحقة كافة أوجه الفساد التي كرسها النظام البائد، وأن الإسراع في تكوين مفوضية محاربة الفساد وتعزيز النزاهة ضرورة وطنية، وإذ فصّلنا في الأجزاء السابقة من المقال بعض الجوانب القانونية مما هو مأمول من هذه المفوضية أن تستصحبه في الاستراتيجية الوطنية الشاملة لمحاربة الفساد وتعزيز النزاهة من رؤى وآليات، فسوف نتناول في خاتمة سلسلة المقالات هذي بعض الجوانب الأخرى الهامة من الاستراتيجية الوطنية الشاملة لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة. إن المقاربة الشاملة والكلية holistic and comprehensive approach للإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة تستوجب استصحاب كل جوانب المجتمع التي تلامسها هذه الآفة (الفساد) وأن تستخدم كافة الآليات في محاربتها؛ ويشمل ذلك أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة التي بينما هي هدف في الحرب ضد الفساد بالعمل على إعادة هيكلتها ومراجعة قوانينها وطرق تسييرها؛ فهي أيضاً وسيلة – متى ما طالها الإصلاح- يتعين استخدامها ضمن وفي مقدمة آليات محاربة الفساد وتعزيز النزاهة. المقاربة الشاملة والكلية تتطلب وضع مؤسسات المجتمع المدني والأهلي ضمن آليات مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة بما لها من دور هام يجب أن تنهض به في مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة وما يستتبعه ذلك من استنهاض الهمم واستدعاء الموروث الثقافي والفولكلوري بما يحتويه من مخزون هائل من قيم وموروثات ذلك حتى تكون الحرب على الفساد شاملة وكلية. والحال والآمال كما أسلفنا، فقد يُدهش من يطالع "الورقة المفاهيمية" التي أعدتها قوى الحرية والتغيير وأجهزة الدولة المعنية لتكون الأساس لقيام "المؤتمر الاقتصادي القومي الأول" الذي كان مزمعاً انعقاده في الفترة من 23 إلى 25 مارس الماضي، والذي لم ينعقد بسبب جائحة مرض كورونا المستجد، إذ أن الورقة المذكورة والمكونة من ست صفحات لم تتضمن في كافة ما تضمنت أي إشارة لمفردة "فساد" إلا في معرض توصيفها للنظام السابق بأنه "نظام فاسد"! ومن ثم فإن الورقة سواء في مقدمتها أو في معرض توصيفها للوضع الاقتصادي الراهن وما يشتمل عليه من تحديات أو في تحديدها لأهداف المؤتمر أو في تبيان الشكل التنظيمي للمؤتمر تغاضت تماماً عن الإشارة إلى "الفساد" كأحد الأمراض القاتلة التي يعاني منها الاقتصاد السوداني، ورغم أن شعار المؤتمر هو [نحو الإصلاح الشامل والنمو الاقتصادي] ورغم الإصلاح إنما يتم لنقيضه وهو "الفساد" إلا أنه أغفل!! الأمر الذي يجعل الورقة المفاهيمية للمؤتمر معيبة لكونها لم تتضمن أي إشارة مباشرة للفساد سواء خلال توصيفها للراهن الاقتصادي السوداني أو تحديدها لأهداف المؤتمر أو في المحاور التي وضعتها لمناقشة المشكل، الأمر الذي جعل الورقة المذكورة مختلة بنيوياً! ذلك أنه كان يتعين طرح موضوع الفساد كأحد الإشكاليات الجوهرية للاقتصاد السوداني وتضمينه في المحاور بصورة جلية ومفصلة لا أن تكون إشارات خجولة ضمن محور "المالية العامة" وفي معرض الحديث عن "الإيرادات"! الذي أدرج فيه ما نصه حرفياً: "مراجعة قرارات لجنة التصرف في مرافق ومنشآت القطاع العام وإعادة الأموال المنهوبة، ومراجعة أصول الدول...إلخ" دون أن تشتمل المحاور على أي توصيف لمشكل الفساد من ناحية إساءة استعمال السلطة العامة وتجاهل تقارير المراجع العام وضعف بنية الرقابة الإدارية على المال العام ومفهوم ولاية وزارة المالية على المال العام وحزمة القوانين والتنظيميات الادارية ذات الصلة على نحو يبين مكمن الخلل في هذه المنظومة ومتطلبات الإصلاح ومن ثم طرح تصورات مطلوبات تعزيز النزاهة التي من شأنها وقف هدر المال العام، لأن أي نموذج اقتصادي يخرج به المؤتمر ولا يتضمن أدوات قانونية وتنظيمية صارمة لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة وحماية المال العام وتأكيد ولاية وزارة المالية عليه يعني إعادة انتاج للفشل. ثم أن الإشارة إلى الإصلاح التشريعي فقط فيما يتعلق بالقطاع المصرفي أو الاستثمار وعدم التطرق إلى مجمل تشريعات إدارة الدولة المختلفة ذات الصلة بتشريعات التجارة الداخلية والخارجية وكافة التشريعات المعنية بالنشاط الاقتصادي في القطاعين العام والخاص، إنما هو تبعيض وتجزيئ للمشكل لن يؤدي لمعالجات شاملة. وإذ أدت الظروف إلى تأجيل انعقاد المؤتمر المذكور فإنني آمل أن تعاد صياغة الورقة المفاهيمية على نحو يضع مشكل الفساد ضمن المحاور الرئيسة خصوصاً وان أي توجه أو رؤية اقتصادية يخرج بها المؤتمر ويقدمها للعالم ستهمل ما لم تتضمن معالجة شاملة لمشكل الفساد وآليات لتعزيز النزاهة، إن كافة الشركاء والأصدقاء والمانحين لن يتعاملوا مع دولة لا تضع محاربة الفاسد وتعزيز النزاهة في مقدمة بنود أجندتها الاقتصادية. فيما يلي سوف أتناول على عجالة بعض قطاعات في الدولة والمجتمع ذات صلة بمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة، وعدم الحديث عن بقية القطاعات لا يعني عدم ارتباطها بالموضوع وإنما لكوننا تناولناها في السياق العام ضمن أجزاء المقال الأخرى بشكل أو بآخر. الإعلام؛ تحت عنوان " ما لهذا التلفزيون لا يريد أن يستفيق" كتب الصحافي والإعلامي النابه "عمر العمر" منشوراً يوم الأربعاء 10/06/2020م عاب فيه على التلفزيون القومي أنه مساء الثلاثاء 09/06/2020م وبعد بثه المؤتمر الصحفي الأخير الذي أقامته "لجنة تفكيك التمكين" قام التلفزيون (القومي) بعد ذلك مباشرة ببث مسرحية !! ، كانت مفارقة وضحتها مقالة الأستاذ الصحفي، إذ جاء بث المسرحية وكأنما أمر اللجنة محض برنامج عادي ضمنة برمجة التلفزيون الأمر الذي أفقده الحساسية التي تجعله عقب مثل هذا المؤتمر بدلاً من أن يفرد حيزاً مقدراً لمختصين يتناولون بالشرح والتحليل قرارات اللجنة وأهميتها ودلالتها ومالاتها انصرف إلى بث برنامج ترفيهي !.هذه المفارقة تبين بجلاء أن الإعلام الذي يتعين عليه أن يكون رأس رمح في الحرب ضد الفساد وتعزيز النزاهة يحتاج أن يُشمل في الاستراتيجية التي نتحدث عنها حتى لا يكون الأمر محض اجتهاد معدين ومحررين وإنما عنصر رئيس في سياسة إعلامية مدروسة. وبما أن الأشياء بضدها تتمايز فإن الإعلام في الفترة الانتقالية وفي أي عهد يتسم بالحريات مسئول عن تبيان أوجه الفساد والحديث عنها بصوت عالٍ حتى يعلم الناس حجم الضرر الذي أصابهم جراء أفعال الفساد وأهمية مكافحته، إن إدارة الرأي العام في هذا الخصوص تعد أولوية في الفترة الانتقالية. التعليم؛ إن أي استراتيجية شاملة لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة في بلد موبوء بالفساد مثل السودان لابد وأن تعمل على تضمين مناهج التعليم المختلفة في كافة المراحل ما يعلم النشْء مساوئ الفساد، وما يمنح طلاب الجامعات والمعاهد العليا حيزاً كبيراً في مجالات الطلب والبحث للتعمق في دراسة الفساد ومكامنه وآثاره والتقصي عن "شجرة نسب الفساد" في استعارة للعنوان الجهير للراحل "عبدالله بولا" وهو يتقصى أصل ذلك "الغول"!. قبل الثلاثين عاماً الماضية المظلمة حالكة السواد التي عاشها السودان، كان طلاب السودان يجدون في طُرق التربية والتعليم التي أوجدها عبدالرحمن على طه ورهطه الكرام تغذية تربوية سليمة إذ كانت مكافحة الفساد جزء من تربية النشْء فنجد أن قواعد التربية ألزمت طلاب المدارس الأولية في المراحل الأولى أن يكتبوا حتى مرحلة معينة بأقلام الرصاص وهم في حل من مسح ما يكتبون وألزمتهم في مراحل دراسية أعلى بأن يكتبوا بالحبر السائل حتى يتبين المعلم أخطائهم ولا يستطيعوا الغش؛ وما كانوا يفعلون، كانت المقررات تحتوي ما يعلي من قيم النزاهة وتمجيد وسائل الكسب الشريف المختلفة، فهل لدينا حالياً الآلية التي تضمن أن تشتمل مناهجنا المنشودة فلسلفة شاملة متدرجة في كافة مراحل التعليم لمحاربة الفساد وتعزيز النزاهة بما يتوافق مع تطورات الحياة وانفتاح الجيل الجديد على العالم في هذا العصر؟ إن وجود الاستراتيجية الشاملة يضمن إعمال آليات مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة في وسائل التربية والتعليم على النحو الذي يغرس في النشأ القيم السليمة للتعامل مع المال العام. السياسة الخارجية؛ وإذ تتنادى علينا الأمم من كل حدب وصوب، وإذ نسأل الناس إلحافاً العون في تخطي عثرة بلدنا، هل تتضمن رؤيتنا للسياسة الخارجية في الفترة الانتقالية مراجعة الاتفاقيات القائمة المتعلقة بالفساد وما توفره من عون فني، والاتفاقيات الثنائية والإقليمية وآليات تنفيذها الداخلية فيما يتعلق باسترداد المجرمين وتبادلهم والتعاون بشأن المعلومات عن الأصول المهربة ومكافحة الجريمة وغير ذلك مما يعين على محاربة الفساد؟ وهل هذه الاتفاقيات مُفعّلة على نحوٍ كافٍ يضمن المعاملة بالمثل؟ إذ يوجد مواطنون سودانيون مسجونون في دول أجنبية بتهم فساد كبيرة منشأها في السودان وامتدت ذيولها لتلك الدول فهل طالبنا باستردادهم ؟ أو التحقيق معهم لمعرفة بقية شركائهم في الداخل؟ هل شرعنا في توقيع اتفاقيات ثنائية وبصورة عاجلة لملاحقة الأموال المنهوبة في الخارج؟ وهل دعمت وزارة الخارجية جهازها الإداري بمختصين في هذا الجانب؟ هل توجد استراتيجية شاملة تقارب بين ما تقوم به الأجهزة الأخرى في الدولة ووزارة الخارجية؟ وزارة المالية؛ وإذ يعلو صوت وزارة المالية عن ولاياتها للمال العام حري بنا السؤال (بعد عشرة أشهر) عن القوانين واللوائح التي تحكم عملها، هل حدّثت وزارة المالية قانون المشتريات الحكومية ولوائحه؟ وهل ابتدعت من الآليات ما يكفل الشفافية والتعزيز النزاهة وضمان تكافؤ الفرص؟ هل يوجد قانون يضبط الشراكة بين القطاعين العام والخاص؟ هل يوجد قانون للبوت BOT في السودان؟ هل تتم حالياً مراجعة الاتفاقيات الدولية ذات البعد المالي والاقتصادي التي وقعها السودان خلال الثلاثين عاماً الماضية؟ وهل تجري مراجعة مآل الأموال المرتبطة بها وأين أنفقت؟ هل تحوز وزارة المالية على قائمة بكامل الأصول السودانية خارج السودان من أوقاف وممتلكات وما هو وضعها الحالي وماهي إمكانيات تطويرها وتعظيم العائد منها؟ هل نشرت وزارة المالية لوائح إدارة الأصول التي استردتها لجنة التمكين؟ هل هذه الأصول تعمل الآن أم هي متوقفة؟ لقد وجدت في موقع الوزارة الإلكتروني WWW.mof.gov.sd إعلاناً بتاريخ 05/04/2020م من لجنة استلام الأصول من لجنة إزالة التمكين وتفكيك نظام ال 30 من يونيو 1989م، تدعو فيه الوزارة الشركات وبيوت الخبرة المالية والمحاسبية والقانونية للمساعدة في حصر وتحليل ومراجعة الأصول المالية المستلمة من لجنة التفكيك، هذا الإعلان يُثير بعض التساؤلات؛ هل قرارات لجنة التفكيك المتعلقة بهذه الأصول حازت حجية الأمر المقضي فيه؟ وهل استُنفدت بشأنها كافة مراحل الاستئناف والطعون؟ وهل التصرف في هذه الأصول تحكمه لائحة محددة ومفصلة تتضمن آلية واضحة بشأن حقوق الأطراف الغير الذين لديهم تعاملات مع ما هو عامل من هذه الأصول من موردين ومتعهدين ومتعاقدين؟ هل صدر قرار من السيد رئيس الوزراء يتضمن تشكيل وصلاحيات لجنة إدارة الأموال المستردة وفق ما نص عليه القانون؟ وهل نُشر هذا القرار للكافة؟ هل وزارة المالية – وغيرها من الوزارات - تُحدّث موقعها الإلكتروني، فقد وجدت وأنا اكتب هذه المقالة ضمن موقع وزارة المالية منشوراً منذ العام 2016م عن ملتقى اقتصادي تحت رعاية المشير القابع في كوبر!!وهل توجد مقاربة شاملة لعمل الوزارة مع بقية أجهزة الدولة تضمن تنسيق أعمال كل هذه الأجهزة بما يضمن مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة؟ في سياقٍ ذي صلة، فإن أحدث تقرير يتعلق بالشفافية صدر قبل أربعة أيام! إذ أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 15 يونيو الجاري في واشنطون تقريرها السنوي للشفافية المالية "Annual Fiscal Transparency Report" والذي يتم فيه تقييم مستويات الشفافية المالية للدول من ناحية الوثائق الرئيسة للميزانية العامة والمساعدات الخارجية وطرق التصرف فيها وأسس وإجراءات المناقصات والعطاءات والتعاقد في العقود الحكومية سواءً مع القطاع الخاص أو في شركات القطاع العام وكذلك إجراءات منح الامتيازات واستقلال الموارد الطبيعية وامتيازات الخدمات وغير ذلك. شمل التقرير 141 دولة حول العالم لم تستوفى منها الحد الأدنى من المعايير سوى 76 دولة، بينما فشلت 65 دولة في استيفاء الحد الأدنى من معايير الشفافية المالية ومن ضمن هذه الدول السودان! بل فشل السودان حتى في إحراز أي تقدم ملموس – وفق التقرير – في العام 2020 نحو استيفاء معايير الشفافية المالية. إن التقرير يتعلق بجوانب إجرائية لا يتطلب الأمر كبير عناء لاستيفائها، فريق عمل يضع الأسس والمعايير والبيانات المطلوب نشرها ويرسلها للوزارات والجهات التي تتبع له، وذات فريق العمل يمكن أن يكون نقطة متابعة للتنفيذ مع تلك الجهات على أن يُحاسب المسئول عن الجهة التي تفشل في استكمال المعلومات ونشرها! ماذا يمع الوزارات من نشر وتحديث القوانين واللوائح والأوامر المنظمة لأعمالها في مواقعها الإلكترونية وجعلها متاحة للعموم وباللغتين العربية والانجليزية؟ ماذا يمنع تحديث الجريدة الرسمية (الغازيتة) في موقع وزارة العدل وتضمينها كافة الوقائع الرسمية الواجب نشرها؟ ماذا يمنع من نشر الميزانية المعتمدة للدولة وتفاصيل أوجه الصرف والإنفاق وتبيان مطابقة الواقع لما هو مجاز؟ ما يمنع من نشر تفاصيل المشاريع العامة المزمع تنفيذها وتلك قيد التنفيذ وبيان أسس التعاقد بشأنها وإجراءات العطاءات والمناقصات العامة؟ ماذا يمنع إلزام كافة الوزارات والشركات العامة أن تكون لها مواقع الكترونية تحدث بانتظام وتنشر فيها وثائق تأسيسها من عقود تأسيس وأنظمة ولوائح ونشر أسماء كبار المسئولين فيها وأعضاء مجالس إداراتها والمسئولين فيها وميزانياتها السنوية وتبيان ما يتقاضاه هؤلاء من رواتب وامتيازات؟ وماذا يمنع من إلزام الجهات العامة بنشر كافة تعاقداتها وتبيان مراحل تنفيذها وإذا فشلت جهة ما في التنفيذ توضيح الغرامات والعقوبات الموقعة عليها ؟ وحتى لا يقول قائل ما أهمية مثل هذا التقرير نقول له أن الدولة المصدرة له من كبار المانحين الدوليين، وهي من كبار أصحاب حقوق التصويت في المؤسسات المالية الدولية، وهي صاحبة تأثير في كبريات المؤسسات المالية الخاصة؟ وهي دولة المقر للبنك الدولي الذي أتينا من دواوينه ببعض كبار المسئولين ووليناهم أمرنا وكان حري بهم اتباع معايير الحوكمة والشفافية في تسيير مؤسسات الدولة وترقية عمل القطاع الخاص المعلومة لهم بالضرورة! وأكرر التذكير بأنني أتحدث عن الشفافية المالية ولا اتحدث عن التنافسية ولا معايير حسن أداء الأعمال ولا ولوج الأسواق الناشئة. أتحدث عن جوانب إجرائية تمكن الكافة من الحصول على المعلومات الضرورية في زمن ثورة المعلومات! يمكن أن يكتب الكاتب إلى ما شاء الله له أن يكتب عن كافة أوجه إدارة الدولة وما يشوب أعمالها بسبب عدم وجود استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة وآليات تنفيذ لهذه الاستراتيجية، وأدوات متابعة وقياس وتقويم وتقييم، وعن الأثر الفادح الضرر في هذه الفترة الانتقالية الحرجة لغياب هذه الاستراتيجية، إذ أن كل يوم يمر وشهر يمضي يعني زوال أدلة واتلاف مستندات وتغييب آثار وتبديل وقائع وغسيل أموال وتهريب أصول وضياع حقوق. إن أجهزة الدولة المختلفة بما فيها أجهزة إنفاذ القانون تحتاج إلى إعادة هيكلة ونظر في آليات عملها ليس فقط لمحاربة الفساد وإنما لضمان الفاعلية وتعزيز النزاهة بما ذلك ضمان الشفافية، كثير من أجهزة الدولة تحتاج إلى إعادة هندسة إجراءات عملها Process Engineering ، والعمل على إدخال التقانة والتحول الرقمي في كافة أعمالها بدءاً من الاختيار للوظائف العامة مروراً بكثير من المعاملات التي يمكن أن تُؤتمَتْ automation بما يضمن منع المحسوبية والرشوة وضمان تكافؤ الفرص، وعدم هدر الطاقات الوظيفية، والاستغلال الأمثل لطاقات الشباب في العمل ضمن دوائر إدارات الحوسبة وتقانة المعلومات، وليس انتهاءً بتقصير الظل الإداري والعمل المكتبي وتقليل مراجعة المواطنين الشخصية للدوائر الحكومية وما يعنيه ذلك من تقليل الهدر والصرف. كل ما سبق له صلة بالاستراتيجية الشاملة لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة. غض النظر عن التوجه الاقتصادي الذي سوف تنتهجه الدولة فإننا نحتاج لمراجعة قوانين وآليات عمل جهات الإشراف الحكومية والهيئات التنظيمية regulators مثل هيئة الاتصالات ، لضمان أن الخدمات التي يقدمها القطاع الخاص للمواطنين إنما تنفذ وفق أفضل المقاييس وبأسعار عادلة وأن هذه الخدمات تقدم بصورة متساوية في أم دافوق وعبري والشوك بذات الجودة التي تقدم بها لساكني الخرطوم ، مزودي الخدمات من كهرباء ومياه واتصالات ونظافة وخدمات علاجية وطبابة وغير ذلك من الأعمال والخدمات التي يقدم بعضها القطاع الخاص يجب أن تخضع للرقابة والمتابعة الصارمة من الهيئات الرقابية ذات الصلة بما يضمن جودة هذه الخدمات وأنها تقدم وفق أسس معايرة لأفضل المواصفات، غياب هذه الضوابط هو الفساد يمشي على أرجل، وقبل ذلك كله فإن عدم وجود معايير مسائلة ومحاسبة صارمة لكل من يتولى عملاً عاماً بدءاً بأصغر موظف في محلية أو بلدية وانتهاء بأعلى مسئول تنفيذي هو أيضاً فساد!!. إن الحرب ضد الفساد ماضية منذ الأزل! وما من شرعة أو كريم معتقد إلا وحارب الفساد في منظومته القيمية، لأن الفساد ينخر كيان المجتمع ويهدد أركان الدولة. علينا أن ننطلق من معتقدات مجتمعنا وموروثاته وأعرافه ومستودعات قيمة، فنراجع منظومة قوانينا وتشريعاتنا لنحدث ونطور ما هو موجود ونُشرّع غير ذلك من القوانين واللوائح والنظم التي تحارب داء الفساد وتعزز النزاهة، وعلينا أن ندرس تجارب الآخرين فنستقي منها أفضل الممارسات التي تساعدنا على استرداد المال العام المنهوب سواءً كان باقٍ في الداخل أو قد تم تهريبه للخارج، فإن الفساد داء وبيل، وهو يستقر في المجتمعات حتى لا تستغربه ولا ترفضه، وهو تكريس للفقر والمسغبة والتمايز الطبقي، وهو يتضخم حتى يصبح دولة بين الناس فيتحكم فيهم ولا يجدون منه فكاك حتى يهدم أركان الدولة. كل ما سبق لن يتحقق ويتأتى ما لم تكن انطلاقتنا صحيحة وذلك بوضع استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة تتضمن آليات فعالة للتنفيذ والمتابعة لأن مكافحة الفساد بلا استراتيجية ...فساد.