في غير الحالة السودانية وحدثها الأبرز، تثير مواقف قناة الجزيرة من أحداث المنطقة الريبة والقلق من نوايا ومخططات صانع القرار القطري. حسناً. ليس في نيتنا، ولا من حقنا محاكمة نظام حكم ما على أيديولوجية دولته. لأنه يتبنى من الأيديولوجية ما يحقق – حسب تقديره الخاص – أهداف الدولة العليا في الاستقرار والقوة والاستدامة، وما يحقق رفاه شعبها. فلتكن قطر حاضنة للإخوان ولكافة تنظيمات الإسلام السياسي وسطيَّها وتكفيريها فهذا شأنها. وسودان ما بعد ثورة ديسمبر 2019 لا يبنى علاقاته بالدول الأخرى بناءً على توجهاتها الأيديولوجية أو فلسفة الحكم فيها، وإنما تقوم على قاعدتي: المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. ولا شأن لنا بالهوية الأيديولوجية للدولة أو نوع وشكل الحكم فيها، فهذا شأن الدولة وشعبها. باختصار نحن نرفض مبدئياً التدخل في شأن الدول الأخرى، ولا نرضى أن يتدخل الآخرون في شأننا الداخلي بالمقابل. وإذا كنا نتحدث عن العلاقات بين الدول التي تربطها علاقات ثقافية خاصة، أو تاريخ متداخل، على نحو ما، لأي سبب من الأسباب، مثل علاقات الدول العربية التي تجمعها جامعة توحدها، رغم توزع دولها الجغرافي بين قارتي أفريقيا وآسيا، فإن ترابط دول هذه المنظومة يتطلب أول ما يتطلب احترام المبادئ التي أشرنا إليها. حسناً. الخطاب القطري الرسمي مثله مثل كل الأنظمة العربية يؤيد هذه المبادئ ويؤكدها، ولكنه، ومن خلال قناته "الجزيرة" يفعل عكس تماماً، ويمارس ضغطاً على الأنظمة التي ليست على وفاق مع تنظيم الإخوان المسلمين، أو تلك التي بينها وبين "التنظيم" عداوة، مثل تلك التي مع النظام المصري. وهي تفعل ذلك بكل "هبالة" مهنية. فهذا التركيز المخل ببرمجة القناة وتخصيص هذا الكم من ساعات بثها لكل صغيرة في الشأن المصري وكبيرة يكشف توجهاً سياسياً معادياً للسلطة في مصر. والسؤال الذي ينبغي أن يطرحه "عباقرة" الجزيرة على أنفسهم: إلى أي مدى يمكن أن يجد هذا التركيز صدى عند المصري العادي/ رجل الشارع ليحركه ضد الحكومة مهما كان رأيه فيها سلبياً؟. أخشى – من واقع معرفة سطحية بتوجهات الشارع المصري الوطنية – أن يأتي أداء الجزيرة بنتائج عكسية. فالعلاقة التاريخية بين الشارع المصري والسلطة السياسية في منتهى التماهي. ولعل هذا يفسر قِلَّة الثورات الشعبية في مصر. وهذا باب نقترح على الإدارة الفنية للجزيرة أن تأخذه بعين الاعتبار: أن تدرس اتجاهات الرأي العام في البلد الذي تريد أن تستهدف سلطته الحاكمة، لتعرف كيفية التأثير فيه، بدلاً من هذا الأسلوب "البلدي" الذي لا يستند سوى على "الرغبة" وحدها. ولكن دعنا نذهب مع "رغبة" أو التفكير الرغائبي wishful thinking للقناة ومالكها إلى نهاياته، لتكتشف الثغرة المهنية في أداء إدارة القناة، وعمق الفجوة في خطابها الذي يكرسه شعارها: الرأي والرأي الآخر، كقناة محايدة تتحرى الحقيقة لا غير، ولنأخذ على سبيل المثال موقفها من قضية التطبيع مع إسرائيل. قبل أسابيع قليلة علا طبل الجزيرة ضجيجاً وهو يتابع طائرة إمارتية هبطت في مطار بن غوريون تحمل مساعدات طبية للفلسطينيين، كما زعمت الإمارات ونفته السلطة الفلسطينية. وكأن الإمارات أتت شيئاً إدَّا. وعلا طبلها ضجيجاً من قبل حين التقى البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني بنتياهو رئيس وزراء إسرائيل في يوغندا بمدينة عنتيبي. وهي تتسقط بإلحاح سمج كل إشارة لأي شكل من أشكال الاتصالات بين أي دولة عربية وإسرائيل. فهل هذا هو موقف دولة "قناة الجزيرة" من دولة إسرائيل؟. - لماذا إذن تتحاشى التطرق إلى حقيقة أن بين إسرائيل وتركيا علاقات طبيعية بحكم عضوية تركيا في حلف الناتو، وأن تركيا "لن" تخوض حرباً ضد إسرائيل من أجل الفلسطينيين وحقوقهم ، ولا حتى من أجل المسجد الأقصى؟. - ولماذا تتغافل، ولا تأتي بذكر، لخطاب الرئيس المصري الراحل الرئيس محمد مرسي لرئيس "دولة الكيان الصهيوني" بمناسبة ترشيح السفير الجديد لمصر بإسرائيل والذي خاطبه فيه ب"صديقي العزيز"؟، وهل هكذا تفرض البرتوكولات الرسمية المخاطبة بين رئيسي دولتين، حتى لو كانت العلاقة بينهما طبيعية، وليستا عدوتين؟!. - ودولة قطر الشقيقة نفسها أليست لها علاقات مع إسرائيل عبر المكتب التجاري؟. - ودولة موريتانيا أليس لإسرائيل سفارة في عاصمتها؟. نحن لا نتدخل في مثل هذه الأمور السيادية، وكما نقول في اللسان السوداني: إذا (كان صاحب الحق راضي، شِن دخَّل القاضي؟!). وصاحب الحق في هذه الحالة هو الشعب. وإذا أرادت الدول العربية أن تقيم بينها علاقات أخوَّة وتعاون حقيقية تهدف لخدمة مصالحها المشتركة، فإن أول ما يجب مراعاته لتأسيس هذه العلاقات هو التخلي عن روح الوصاية، والاحترام المتبادل لسيادتها. وفيما يخصنا كسودانيين – ننتمي لدولة حرة مستقلة – فإن الضجيج المتطفل والمزعج لطبل الجزيرة على لقاء رئيس مجلس سيادة دولتنا عبد الفتاح البرهان مع رئيس إسرائيل – والذي نعتبره شأناً داخلياً بحتاً – أثار دهشتنا وامتعاضنا. على الرغم من اختلاف وجهات نظرنا (كسودانيين) حول اللقاء. وقد أهرق حبر كثير في صحفنا ومنصات التواصل بيننا حول هذا اللقاء بين مؤيدين للقاء ومعارضين له. إلا أن موقف قناة الجزيرة "المحايدة" كان هو النشاز مما يحدث على الواقع الذي تفرض عليها المهنية عكسه للرأي العام المحلي والخارجي. وقد تطرقت في مقال سابق إلى موقف قناة الجزيرة من هذا اللقاء ومن "الحفل" الذي أقامته على شرفه وكأنه الحدث الأبرز في العالم. حيث كان مقدم حلقة برنامج "المسائية" التي قدمها مذيع القناة أحمد (لا يحضرني الآن اسمه الثاني) وتم بثها مساء (الأربعاء 5/ 2/ 2020) يحشر في زاوية ضيقة كل سوداني استضافه حول رأيه في اللقاء. وحين يوضح له الضيف بأن الوثيقة الدستورية لا تعطي البرهان حق اتخاذ هذه الخطوة، وأن هذا هو ما يهمنا في السودان. يباغته المذيع بالسؤال الذي يكرره بإلحاح على كل ضيف: ما إذا كان التطبيع مرفوض من حيث المبدأ أم من الطريقة التي اتبعها البرهان؟. ... علماً بأنه يتحدث من قناة، لإسرائيل مكتب تجاري ببلدها؟!. ولا تعرف عن أي موقف مبدئي من العلاقة مع إسرائيل يتحدث!!. وقد بلغ غاية التعري عن المهنية وهو يسأل أحد الجنرالات عن نوع وماهية هذه العلاقة (المفترضة بالطبع) بين السودان وإسرائيل؟. وعندما أجابه الجنرال بأن علاقة السودان مع إسرائيل إذا تم التطبيع ستكون مثل علاقته بأي دولة أخرى. بادره المذيع بسؤال لا يمكن أن يطرأ على ذهن هاوٍ طرحه، متجاوزاً أبسط اعتبارات المنطق: ما إذا كان ذلك يعني أنه سيكون هناك تنسيق وتعاون عسكري بين الجيشين السوداني والإسرائيلي؟. هو بهذا لا يسأل ضيفه، ولكنه يريد أن يستنطق ضيفه ليسمع منه رأياً مسبقاً يعتقده هو، أو يريد من ضيفه الجنرال أن يؤكده. وإلا، كيف يستطيع عسكري، مهما بلغت سذاجته، أن يجيب على سؤال هو من اختصاصات السلطتين السيادية والتنفيذية؟!!. وفي رأيي الشخصي هذا خبث يفتقر إلى الذكاء واللباقة. وبإمكان "الجزيرة" بقدراتها المالية والتقنية الهائلة وبعض طاقم معدي ومقدمي برامجها الذين يتمتعون بمستوى مهني عالٍ، يعكسه تأثيرها المزعج على من تستهدفهم من الساسة والقياديين، أن تقدم خدمة توعوية ممتازة للشعوب العربية. إذا ابتعدت قليلاً عن "ديوانية السلطان". لأنها، بوضعها الحالي لا تعدو أن تكون ناقلة لما يتم تداوله في ذلك المجلس. وهذا يضعها في موقع مربك لها وللمتلقي. فلا هي صوت النظام وسياساته المعلنة على الملأ. ولا هي الصوت المحايد، الذي يعكس (الرأي والرأي الآخر) كما تعلن لافتة هويتها. ما هويتها إذن؟ إنها الصوت الذي يتأرجح، ما بين مسكوت السلطة ومنطوقها. هوامش (1) عزالدين صغيرون، ما قبل صفقة التطبيع .. وما بعدها (1/2)، موقع صحيفة سودانايل، نشر بتاريخ: 10 شباط/فبراير 2020. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.