اخشى ان يكون اعتصام نرتتي هو تمظهرٌ آخرٌ من تمظهرات لعبة القط والفأر الظاهرة والخفية بين قحت والجنرال حميدتي، والتي للأسف ما ان تخمد مرحلياً، حتى تعود بصورة اكثر خبثاً وضراوة. قحت تعرف ان علاقتها مع الجنرال تتجسد في المثل الدارجي (ما بدورك، وما بقدر بلاك)، وهي جدلية دائما تتأرجح بين الآني والاستراتيجي.. قحت آنياً تحتاج بشدة الى مال وبندقية وهيبة الجنرال وشيئٍ من علاقاته الاقليمية، حتى تبقي المتربصين بها وايديهم على الزناد ولا ينقصهم الدافع للانقضاض في مخابئهم العميقة، خاصةً انصار النظام السابق، والذين لولا الخوف من بنادق الجنرال وجنوده لخرجوا منها سراعاً كالجراد وربما كالطوفان ليجتاحوا بعض التمكين الذي اجتهدت بعض احزاب قحت في صناعته خلال الشهور الماضية من عمر الثورة، وهي تعرف كذلك انها بحاجة الى ذهبه وهيبته للسيطرة على الازمات الخانقة التي تمسك بتلابيب الاقتصاد، و الى علاقاته مع محور السعودية-الامارات- مصر، لتأمن بعض الثعابين السامة من بقايا النظام السابق التي يمكن بقليل من المساعدة ان تنطلق من جحورها لقلب الطاولة على تحالف قوى الحرية والتغيير، وربما على الجميع. اما استراتيجياً، تدرك قحت انه لا نجاح على المدى الطويل لبرامجها مع بقاء الجنرال قوياً وفاعلاً ومتنفذاً، لأنه ببساطة يملك الكثير والمثير من كروت المعادلة السياسية الكفيلة اذا استخدمها بذكاء ومثابرة ان ترسل قحت الى غياهب الفشل والاندثار، لذلك، فكما يلاعبها هو، فهي ايضاً تلاعبه بسياسة النفس الطويل، تارةً بالتودد واظهار اهتمامها البالغ بالشراكة معه والافراط في التظاهر بالاعتماد عليه، ولكنها في نفس الوقت (وهذا بيت القصيد) يبدو انها تعمل بذكاءٍ شديدٍ وناعم، على توسيع الشقة بينه وبين حلفائه من الجيش والقوات النظامية الاخرى من جهة، وتجريده من حاضنته الاجتماعية من جهةٍ اخرى، عبر خلق تناقضات واستقطابات قبلية تربك المشهد هناك، وكذلك متى مادعت الحاجة، القيام بخبثٍ شديدٍ بتحريك ملفات حساسة ذات طبيعة عاطفية شعبوية مثل ملف فض الاعتصام، بل والتفكير في اختراع منابر شبيهة جديدة كما يحدث الآن في نرتتي الذي، اذا صدق حدسي، ربما تناسل لخلق المزيد منها في مدن دارفور الأخرى، لتشتيت تفكير الجنرال وسحبه بعيدا عن العاصمة واللعب معه في عقر داره. ملف نرتتي لا غبار عليه في مجمل اهدافه باعتباره حركة سلمية لرد ظلامات او تأكيد حقوق، او حتى لفت النظر الى اختلالات خدمية وتنموية في بقعةٍ ما من بقاع السودان، ولكن للاسف ومن خلال تمدده كماً وكيفا وزمناً وزخماً، يبدو انه قد تسللت اليه اجندات مغرضة ليس لها علاقة بأهداف ومطالب المعتصمين المشروعة، وهو رغم الصورة الزاهية التي تحاول قحت وبعض النشطاء من المعتصمين (من بعض مكونات دارفور الاثنية) رسمها عنه، الا ان شبهة تلك الاجندات التي تصطاد في الماء العكر ظلت تتضح رويدا رويدا من خلال المحاولة المستمية لابقاء مقر الاعتصام نشطا، عبر تلميع الشخصيات المغمورة التي تتصدر مشهده (والتي يبدو التلقين واضحا في حوارتها المرئية)، والتركيز الاعلامي المكثف على حراكها، وتسخير ماكينة المركز الاعلامية والسياسية الضخمة (كالعادة) لامتداح سلمية الحراك ودقة تنظيمه، تماماً كما فعلوا باعتصام القيادة من قبل، ثم خلق هالة من القومية حول نبل اهداف الاعتصام، عبر تنظيم القوافل (قافلة بعد قافلة) لزيارة الموقع، والتي اتوقع ان تتزايد ويتواتر قدومها يوما بعد يوم من شتى بقاع السودان وربما من المهاجر البعيدة، بل ليس من المستبعد ان يبادر بعض السفراء الغربيين من امتطاء الطائرات الخاصة ميممين شطر نرتتي لزيارة مقر الاعتصام واعلان تضامن دولهم مع المنشط واهدافه. هذا الملف المتصاعد، هو ملف شديد الخطورة، بل هو في رأيي المتواضع لايعدو عن كونه احد اخطر نقلات لعبة القط والفأر بين الجنرال حميدتي وقحت، والذي اذا صدق الظن فربما سرعان ما تتكشف تمظهراته ويتحول الى صراع مكشوف ومعركة صراع ارادات اخرى في مقبل الايام مسرحها دارفور. واعتقد ان خطورة ملف اعتصام نرتتي وحساسيته تتمثل في كونه يبدو كمحاولة اخرى لاستدراج الجنرال الى فخ محكم كما حدث من قبل، تتلاقي وتتقاطع فيه اجندات عديدة، منها ما هو محلي، ومنها ما هو اقليمي ومنها ما هو دولى. فعلى المستوى الاقليمي والمحلي لا تغيب عن فطنة اهل دارفور والاقليم ابعاد دقات طبول استنهاض شعارات الفرز العنصري البغيض من جديد بين مكونات دارفور، والرجوع الى مربع فتنة (عرب وزرقة)، في تمظهراتها الاليمة حول الارض (الحواكير) والنشاط الاقتصادي (رعاة ومزارعين)، التي يجتهد بعض نشطاء الحراك في اخفائها بعناية وراء عبارات اللافتات والشعارات البراقة، وهي فتنة نائمة في ظني لبعض العنصريين من نشطاء دارفور مكاسب جلية من ايقاظها، تارةً لاثبات الوجود من باب (نحن هنا)، وتارةً اخرى للتبضع بافرازاتها ان كانت لها افرازات، في منابر مفاوضات السلام، اما دولياً، فهي فرصة لاعادة الزخم والادوار لبعض العناصر واللوبيات والمنظمات الاجنبية المشبوهة التي خمدت بعد استنفاد كرت نزاع دارفور لقيمته في اطار معادلات السياسة الدولية وإعطائهم مجالاً جديداً للظهور اعلامياً والتكسب مالياً في الخارج، ولن يحصد الاقليم والوطن من كل ذلك الا مزيد من المآسي والنزاعات، اذا لم يتدخل العقلاء، والتي ربما قادت دارفور مرة اخرى الى اتونٍ لن يكون مختلفاً عن سابقه الذي اقام العالم ولم يقعده. والجانب الآخر من خطورة هذا الملف هو امكانية استغلاله بنفس الطريقة التي تم بها استغلال منبر اعتصام القيادة الذي رغم الاشراقات ونبل الغاية وجمال الاهداف، الا انه في مرحلة من المراحل تحول الى ثغرة خبيثة لانتهاك سيادة السودان واضعاف نسيجه السياسي والاجتماعي، ثم نهايته المأساوية التي ازهقت فيها ارواح بريئة، وعمقت الشروخ بين مكونات الثورة، تاركةً ورائها علامات استفهام وجروحاً عميقة يتكسب من ورائها الساسة، في الوقت الذي يتجه فيه الوطن وثورته العملاقة الى المجهول. ومع ذلك يبقى بصيص امل في وعي الثوار والشعب السوداني وفي مكونات انسان دارفور والشرفاء والاوفياء من عناصر الاحزاب الوطنية وقوى الكفاح المسلح في افشال المخطط اللئيم الذي يسعى عبره البعض، تحت لافتات الثورة الى تمرير اجندات خائبة او تصفية حسابات قبلية او سياسية او شخصية متوهمة ربما قد تجر البلاد والعباد الى ما لا يحمد عقباه لا سمح الله. لذلك حذاري ثم حذاري.. محمد علي مسار الحاج الخرطوم 7 يونيو 2020 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.