ماذا بعد انتخاب رئيس تشاد؟    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    حمّور زيادة يكتب: من الخرطوم إلى لاهاي    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تزييف العملة والضرائب على النقود بين الحقيقة والوهم .. بقلم: د. حسب الرسول عباس البشير/استشاري واقتصادي علوم التمويل
نشر في سودانيل يوم 29 - 07 - 2020


28 يوليو 2020
كثر الحديث طيلة الأشهر الماضية عن تغيير العملة بادعاء أن كثيرين من أزلام النظام السابق يمتلكون أرصدة نقدية يفوق وصفها الخيال ولا سبيل للوصول اليها الا عبر تغيير العملة. فضلا عن أنهم (هؤلاء الازلام) أيضا يمتلكون مطابع لتزييف العملة (على حد قول أحدهم بأنهم يطبعون العملة "رب..رب..رب")، ويستدعي ذلك بالضرورة حتمية تغيير العملة لمواجهة أجرامهم هذا. ويروج الإدعاء بالتزييف الواسع للعملة، في الوسائط الاجتماعية المختلفة، كأحد أقوى المبررات لتغيير العملة الوطنية. وهو مما يعني أيضا ضمنيا القول بأن أجهزة الدولة المعنية بمكافحة هذه الجريمة الخطيرة غير معنية، أو غير قادرة على الوصول الى هذا النشاط الهدام ومروجيه وكبح أفعالهم على الرغم من دور أجهزتنا الشرطية والاستخباراتية وبكل قواها المادية والبشرية، والتي ما فتئت تكتشف مثل هذه الجرائم وغيرها من الجرائم المشابهة بالفعل، يوما بعد يوم، ومع تنامي دور القوى المجتمعية المختلفة الحريصة على حماية مكتسبات ثورتها من مختلف أوجه الأنشطة الاقتصادية الهدامة.
وكنا نظن أن هذه الدعوة ستخفت وستنتهي مع مرور الأيام لعدم مصداقيتها، على الرغم من تبنيها من قبل العديد من النشطاء السياسيين والتجمعات الاقتصادية، ولكن ذلك لم يحدث. بل على العكس من ذلك فان الدعوة ظلت تتصاعد وأضيفت اليها فكرة ثانية وقول جديد، يتمثل في أن تغيير العملة سيكون أداة للوصول الى الثروات وفرصة لفرض ضرائب على الأرصدة النقدية الموجودة لدى الافراد والاعمال عند تغيير العملة، بل وربما يؤمن البعض، كفكرة وقول ثالث، أن تغيير العملة يمكن أن يكون علاجا (سحريا) للأزمة الاقتصادية أو أحد مكونات العلاج، ولكنهم لا يوضحون لنا آليات عمل هذا العلاج السحري. سنغفل في هذا المقال فكرة السحر الأخيرة هذه. فهذا المقال يذهب الى دحض الفكرتين الاوليين، والتنبيه الي مخاطرهما. وسأبدأ مقالي هذا أولا مفندا خطل فكرة تغيير العملة بسبب وجود كميات كبيرة من العملات المزيفة خارج سيطرة البنك المركزي، وبسبب أن هناك جهات لا زالت تعمل في تزييف مستمر للعملات. وقد وصل الى علمي، سماعا، أن فكرة تغيير العملة قد طرحت بالفعل من جهات سياسية مؤمنة بالفكرة الى الحكومة قبل شهور مضت والتي اعترضت عليها بحجة نفقاتها المالية العالية، وقد يفهم من هذا ايحاءا بأن الحكومة لا تستبعد حدوث الظاهرة وحجمها، ولكني لست على ثقة من ذلك.
والدفع الأول بخطل هذه الفكرة هو أن أصحاب الادعاء بوجود كميات مهولة من الأرصدة النقدية لدى هذه الجهات "السادنة" لا يملكون دليلا ولا يشعرون بأن عليهم عبئا منطقيا لإثبات دعواهم هذه: لا من حيث حقيقة وجود أرصدة نقدية ضخمة من العملات لدى أزلام النظام السابق، (أو استمرارهم في انتاج هذه العملات بصورة دائمة يغرقون بها الأسواق حتى لحظة كتابة هذه السطور) ولا بالحاجة لإثبات مقدار هذه الكميات النقدية المدعاة وأنها من الضخامة بحيث تستدعي تغييرا للعملة.
فالتزييف، كما هو معلوم، ظاهرة في كل الاقتصادات ولكنها لا تصل الى مرحلة تستدعي تغيير العملة الا أذا وصلت حدودا أفقدت العملة قيمتها وشكلت إزاءها تهديدا وجوديا (في مثال الظاهرة التاريخية المعروفة التي يطرد فيها النقد الحسن النقد السيئ). وكما لا يخفى على الجميع، فان عملية تغيير العملة، كعلاج للظاهرة عوضا عن كبح جماح مرتكبي الجريمة، عملية معقدة وتكتنفها صعوبات عديدة وتتطلب نفقات مادية كثيرة وباهظة. وتتمثل هذه النفقات ليس فقط في تكلفة إصدار العملة الجديدة واستبدال العملات القديمة، ولكن أيضا في ضياع ملايين ساعات العمل في كافة الأسواق وميادين الإنتاج وأثر ذلك في تدهوره، وتؤدي لفقدان ثقة المتعاملين في عملتهم الوطنية ونظامهم المصرفي والتي هي أصلا لم تتعاف من آثار عمليات تجميد حسابات الجمهور المصرفية، وإبقاء أرصدة ودائع الجمهور قسرا لدى المصارف بتحديد تسييل طلباتهم للحصول على جزء منها نقدا خلال أيام الإنقاذ الأخيرة (وفي تقديرنا أن ذلك يمثل إخلالا للتعهد بين المودع والمصرف بالحصول على النقد (عند الطلب) مما قد يرقى الى إعلان المصرف في حالة إفلاس فني فوري.). وبالتالي فان المقايضة بين منافع ونفقات عملية التغيير التي يدعوننا اليها لا بد أن تحسب بدقة وفقا لأسس اثبات قوية تتجاوز الحدس والظنون ولا يفكر فيها جديا (إذا صدق الحدس) إلا إذا اثبتت الفكرة جدواها بدرجة عالية من اليقين، وأن منافعها تفوق نفقاتها الباهظة - الظاهرة منها والمخفية والكامنة. ومن المحزن حقا أيضا أن تصدر، مؤخرا، دعوة ممن ذات الجهات للحكومة بالعمل على إبقاء الكتلة النقدية داخل النظام المصرفي، وهو ما يوحي بعمل ذلك قسرا، وهو ما يعني أننا لم نتعلم من درس أيام الإنقاذ الاخيرة شيئا. وما يعني أن من يصدرون مثل هذه الوصفات يجهلون أن المتعاملين فاعل رئيسي في عملية تحديد حجم الكتلة النقدية (بتحديد حجم الأرصدة النقدية التي يفضلون أبقاءها لأغراض تداولهم) ويشاركون في ذلك السلطة النقدية التي تصدر القاعدة النقدية من طرف والجهاز المصرفي الذي يؤثر على حجم الائتمان بتحديد نسبة احتياطياته غير القانونية، من ضمن أمور أخرى، من الطرف الآخر.
وانطلاقا من الموقف الداعي الى توفير الإثباتات الموثقة حول إدعاء ظاهرة التزييف كمبرر لتغيير العملة، ندعو لحسم هذا الامر من قبل دولة رئيس الوزراء والبنك المركزي (وهو الجهاز المكلف قانونا بإدارة العملة بكافة اشكالها وحمايتها وحماية النظام المصرفي بالبلاد) الى تقص كامل حول هذا الادعاء وإعداد تقرير تفصيلي وشامل حول ظاهرة التزييف المدعاة وذلك بالتنسيق الدقيق مع الأجهزة الأمنية المختصة يتم نشره على الناس لحسم الامر حتى لا يكون الأمر مصدرا للإشاعات والادعاءات والجدل.. وسيكون من المفيد أن يعتمد التقرير، الذي نأمل أن تعده وتصدره الحكومة، حول عمق وتفشي ظاهرة التزييف على معلومات إحصائية جادة تشمل عدد ومعدلات جرائم التزييف للعملة المحلية والعملات الأجنبية وقدرها ونسبتها الى المؤشرات الاقتصادية القومية عندنا في راهننا وعبر تاريخنا الحديث وهل تشكل، هذه المعدلات، بالفعل نسبا تفارق ما خبرناه عبر تاريخنا ومقارنتها مع معدلات الدول الافريقية المجاورة لنا حتى لا يساق البلد الى قرارات مضرة باقتصاده غير مبنية الا على أقاويل وتوهمات لا تؤدي الى الا إهدار نحن في غنى عنه. وحتى لا تؤدي أيضا الى ضعف الثقة في النظام المصرفي والعملة الوطنية.
ولعله من المفيد أن نذكر الناس، وخاصة من غير المختصين في الاقتصاد وعلومه، والذين لا شك أن بعضا منهم ربما بدأ يتقبل فكرة تغيير العملة دون تفحص دقيق لمنطقها (بحسب كثير من المنشورات في الوسائط الإسفيرية، والتي تطرح بحماس كبير هذه الفكرة كأحد الحلول السحرية لمأزقنا الاقتصادي الراهن) دون وعي بأن أحد المسببات الرئيسية للارتفاع المرعب في الأسعار والتضخم النقدي هو النمو المتسارع في الكتلة النقدية وهذا أمر متفق عليه. ولكن قد لا يعلم الكثيرون أيضا أن الطلب على الأرصدة النقدية نفسه هو طلب على ما يعرفه الاقتصاديون "بالأرصدة النقدية الحقيقية" وهو ما يعني أن التضخم نفسه يخلق، بالضرورة، حلقة أخرى دائرية من الطلب على الأرصدة النقدية (لمواكبة ومقابلة الاحتياجات اليومية للأرصدة النقدية التي تتزايد يوميا بسبب التضخم النقدي المفرط). وهو ما يوجب، بدوره، على السلطات النقدية الاستجابة لهذا الطلب لكي لا تختنق حركة التبادل التجاري في الإنتاج والاستهلاك. وقد يكون هذا سببا مهما يخلق التوهم بان هناك عمليات تزييف إجرامية كبيرة تطبع النقود رب...رب..
لا ينتابني خوف وهلع كبير من فكرة اقدام الحكومة على عملية تغيير العملة لثقتي ويقيني أن المبالغ الباهظة لكلفة تغيير العملة لا تتوفر للحكومة في الوقت الحالي. يدفعني للكتابة حول هذا الموضوع التنبيه لمخاطر التشخيص الاقتصادي للظواهر غير المدعوم بقياس موضوعي لعلل هذه الظواهر الحقيقية والارتقاء بحواراتنا حول القضايا الوطنية الحساسة في مجال الاقتصاد للإعتماد على الموضوعية والمعلومات الموثوقة. والبعد عن الاعتماد على التوهمات والفرضيات الهشة المتعجلة .
أما الشق الثاني من هذا المقال فهو حول خطل الحديث عن تغيير العملة بهدف فرض ضرائب على الأرصدة النقدية: فهذا أمر جد مستغرب وما كنا سنتناوله في هذا المقال لولا أنه صدر من جهة تعتبر نفسها مرجعية اقتصادية لأحد الواجهات التي يعتبرها العديدين من المراقبين من القوى المؤثرة في قرارات الحكومة، ولها دور في التأثير على، وصنع السياسات الاقتصادية الراهنة وربما المستقبلية في البلاد.
لا يعلم كاتب هذا المقال عن أي تجربة في العالم المعاصر انتهجت فرض ضرائب على الأرصدة النقدية أو غيرت عملاتها كواحد من الحلول لقضايا الاقتصاد القومي الكلي المركزية. وعندما يتحدث الناس عن تجارب إنهيار عملات دول مثل زمبابوي وألمانيا وبعض دول أمريكا اللاتينية التي عانت اقتصاداتها من التضخم المفرط، والذي آمل الا نكون في طريقنا اليه، فيجب أن نعلم أن هذه البلدان التي الغت عملاتها، فأنها قد فعلت ذلك لأن هذه العملات فقدت قيمتها (عمليا وفعليا) بسبب معدلات التضخم النقدي المفرط وليس بسبب أنها قد تم تغييرها في إطار علاج اقتصادي مدروس. لا يجب أن نستسهل أمور إدارة اقتصادنا النقدي كما عودنا نظام الإنقاذ. وقد كتب الدكتور عبد الوهاب عثمان تقييما وافيا حول تجربة تغيير العملة التي تمت في أول سنوات الإنقاذ مما كنا نظن أنه قد اقنع الناس بخطل الفكرة.
وعندما يتحدث الناس عن الضرائب (على الأرصدة النقدية) فأول العناصر التي يجب أن يتحدثون عنها عند إقرار السياسات الضريبية هو قاعدة الضريبة The Tax Base. وتعرف القاعدة بالقيمة للأساس الذي تطبق عليها فئة الضريبة مثل الثروة الشاملة أو مكوناتها من أرصدة الممتلكات العينية أو المالية أو التدفقات مثل الدخل أو الاستهلاك أو تدفقات حركة التجارة كالاستيراد او الصادر. وتحدد فئة الضريبة على هذه القاعدة الضريبية وفقا لمعايير اتفق عليها الاقتصاديون الغرض منها أن تحقق الضرائب أهدافها المثلى مثل الكفاءة الضريبية والعدالة وعديد من الأسس التي لا نرى أن هذا المقال مكانها، فعلم "المالية العامة" تخصص كامل في الاقتصاد يهتم بهذه القضايا.
ما يهمنا هنا هو مناقشة عدة أمور حول هشاشة فكرة فرض ضريبة على الأرصدة النقدية:
أولها بعدم ملاءمة الأرصدة النقدية كقاعدة للضريبة لأنها لا تمثل ثروة في كل الاحوال. فاذا كان المقصود هو فرض ضرائب على الثروة لا بد ان يعلم مقترحو الضريبة على أرصدة النقد أن هذه الأرصدة تمثل جزءأ من الثروة التي يمتلكها الفرد، وقد لا تمثل جزءا منها حيث أن الحيازة لا تعني الملكية في كل الأحوال كما سنبين أدناه. فالثروة يحتفظ بها في صور أصول عديدة عينية ومالية ولا تشكل الأرصدة النقدية الا جزءا يسيرا من الأصول المالية. وإذا كانت تركيبة الضرائب الحالية تتكون من الضرائب غير المباشرة من ضريبة قيمة مضافة وضرائب أخرى على الاستهلاك والجمارك التي تشكل حوالي 75% من الضرائب الكلية إضافة الى الضرائب المباشرة على الدخل الفردي وارباح الاعمال فانها تشمل أيضا مكونا منها على الثروة خاصة الضرائب على العقار والممتلكات (وتعود عائدات معظمها الى الحكم الولائي بحكم أنه اكثر مقدرة على التعرف على قواعدها الضريبية (tax Base) وهذا ما جرى عليه العرف في معظم دول العالم). فما هي الحكمة في فرض ضرائب على الأرصدة النقدية؟
الطلب على النقود يتمثل في ثلاث مكونات مرتبطة بثلاث أغراض لامتلاك النقد: الاول لأغراض التداول والثاني لحفظ الثروة والثالث للمضاربة (أي الاستفادة من ارتفاع أسعار الأصول، عينية كانت او مالية). وينشأ الطلب لأغراض التداول لتلبية حاجات التبادل وهو يعني أنك تسعى لان تمتلك نقدا لشراء حاجيات الاستهلاك ومدخلات الإنتاج أو التبادل التجاري. أما المكون الثاني فيتمثل في تخزين الثروة وهو إنك عندما تحصل على النقد من العمل أو بيع النشاط التجاري تستهلك جزءا منه وتدخر الآخر ويمثل تراكمه الثروة. أما الثالث وهو المضاربة وهي تملك الأصول بسبب الرهان على ارتفاع أسعارها مستقبلا وتحقيق أرباحا رأسمالية. والمضاربة عملية سيئة السمعة في السودان مع أنها مشروعة قانونا فوق أن اثبات حدوثها نفسه قد يكون صعبا أو مستحيلا قانونا.
ويتأثر الطلب على الأرصدة النقدية، بكل أنواعها سلبا، بمعدلات التضخم وهو ما يعني ان الأرصدة النقدية يحتفظ بها دائما في حدودها الدنيا لان المتعاملون يعلمون اثر التضخم على تدني القيمة الحقيقية للنقود ويحولونها لأصول ثابتة أخرى (تعرف بتحقيقها عائدا ماليا أكبر) وتكون أكثر حفاظا على القيمة الحقيقية لثرواتهم. فعند معدلات التضخم الحالية بالسودان (بمعدل 130% في العام) فان امتلاك رصيد نقدي لنصف عام يفقدك أكثر من نصف القيمة الشرائية لرصيدك النقدي. فأي ضريبة أكبر من هذه يود هؤلاء فرضها على من يمتلك رصيدا نقديا (قد لا يشكل جزءا من ثروة الفرد). وأكاد أجزم أن الطلب على النقود وحرص الناس على الاحتفاظ بأرصدة نقدية تفي لأغراض تخزين القيمة والمضاربة يكاد يكون صفرا وذلك بسبب العائد السلبي الضخم الذي يفرضه عليهم إمتلاك جزء من ثروتهم نقدا لتخزين الثروة أو للمضاربة. ويتحول الطلب على النقود في هذه الحالات التضخمية العالية من العملات المحلية الى العملات الأجنبية فيما يعرف بالدولرة أو إمتلاك أصول أخرى أعلى عائدا وإن كانت أقل سيولة من النقد.
ثانيها النقود والضرائب غير العادلة عليها بسبب التضخم : يبقى أن معظم الأرصدة النقدية (أو الجزء الأعظم من الكتلة النقدية والطلب على النقد) التي بحوزة المتعاملين في شكليهما المعروفين :النقد المتداول بيد الجمهور او المودع في المصارف بغرض التداول يذهب اليه المتعاملون مضطرون كونه سبيلهم الى التداول في محيطهم التجاري بيعا وشراءا للسلع والخدمات وليس بسبب أنه سبيلهم الى خزن ثرواتهم. وحتى هنا فان المتعاملون يحاولون الإحتفاظ بالأرصدة النقدية لغرض التداول في حدودها الدنيا بسبب النفقة الباهظة التي تسببها ضريبة التضخم على الأموال المقومة بالعملات المحلية والنقد هو أهمها. وبسبب أن ضريبة التضخم هذه هي ضريبة مرتفعة وعشوائية فهي تظلم الناس الذين تعوذهم إمكانية حماية ارصدتهم من أثره (فهم في الغالب من غمار الناس والذين لا يشملهم التطور النقدي والمالي ولا تتاح لهم ألياته)، فتكون هذه الضريبة آثارها من حيث العدالة معكوسة (regressive. خلاصة الامر ان الأرصدة النقدية والتي يضطر المواطن الى الاحتفاظ بها اضطرارا بسبب الضريبة الكبيرة الفعلية التي يلقيها عليه عبء التضخم هي أصلا ضريبة فاحشة وظالمة تنشأ بسبب فشل الدولة في الحفاظ على استقرار قيمة عملتها الوطنية، وبهذا تتكسب الدولة من فشلها... وهذا يكفي.
ثالثها سهولة انتقال النقد بين المتعاملين وعدم ثبات القاعدة الضريبية: نشأت فكرة فرض ضرائب على الأرصدة النقدية عند تغيير العملة استسهالا، وربما جهلا بمفهوم استقرار قاعدة الضريبة. فمع سهولة تحويل ما يكون بأيدي أصحاب الثروات وملاك المال من الأرصدة النقدية تكون فكرة تحديد ضريبة على قاعدة ضريبية غير مستقرة (ويسهل تحريكها للتهرب من الضريبة) أمر يفتقر الى الحكمة. فمن المعلوم أن الأرصدة النقدية أسهل أنواع الثروة انتقالا من فرد لآخر مما يسهل تجنب أي ضرائب عليها. فتحويل الأرصدة، خاصة التي تكون بشكل نقد في يد الجمهور(وهي هدف التغيير أساسا) لا تتطلب تسجيلا لملكيتها كبقية الأصول الأخرى حيث لا يتطلب إمتلاكها أو انتقالها من فرد لآخر أي اثبات لملكيتها او أي إجراء قانوني بتقييد تداولها ولذلك نجد أن الأنظمة التي استهدفت وضع ضرائب على الثروة ركزت أهتمامها على الأصول الثابتة كالأراضي والعقارات والأسهم وخلافه من الأصول العينية والمالية التي يكون التهرب من الضريبة فيها امرا مكلفا وشاقا.
ثالثا أهمية النقد وادارته لنظام الائتمان الوطني: ومع ما ذكرنا فان النقد والارصدة النقدية المودعة لدى البنوك خاصة عند استقرار الأسعار تمثل الركيزة الأساسية للائتمان المصرفي. فالودائع المصرفية تمثل قاعدة النظام المصرفي والذي يشكل نظام الدفع في الاقتصاد كما يمثل أحد الاوعية الهامة لاستقطاب المدخرات وتخصيصها وفقا لآليات السوق وللموجهات التي تخدم الاقتصاد الوطني. وللمحافظة على تطور اوعية الادخار الرسمية وتطويرها فان ما نحتاجه هو الحرص على استقرارها وعدم تعريضها لهزات لا مبرر لها. ولا يكون ذلك بالإجراءات القسرية ولكن بجعل النقد أكثر استقرارا ليعود ويكون أساسا للتداول ولحفظ الثروات والتبادل التجاري. ولذلك منهج واحد هو الانضباط المالي والنقدي. بينما يمثل توقع الحلول في أي آليات أخرى، خاصة القسرية منها توهما لحلول سحرية.
رابعا فان الأرصدة النقدية التي تكون بحوزة المتعامل فردا أو منشأة لا تمثل بالضرورة ثروته خاصة إذا كان الغرض منها التجارة وإدارة الاعمال فوجود مليارات من النقد في حساب أحدهم لا يعني أن هذه ثروة يجب أن تدفع عنها الضرائب، وهو ما كررنا الإشارة اليه أعلاه. فقد تكون هذه الأموال قرضا من البنك او من مصادر شخصية أخرى بل قد تكون معدة للقيام بعمل تجاري او صناعي قد يكون صاحبه خاسرا او رابحا. فالثروة في علم "المال " هي الحقوق الصافية وهي الأصول المملوكة مخصوما منها الالتزامات. وهذا ما قصدناه بقولنا أن ما كل الأرصدة تمثل ثروة دون النظر في الالتزامات للأفراد أو المنشآت.
لا جدال في شرعية وعقلانية الضريبة على الثروة ولكننا يجب ان نأخذ بعين الاعتبار مكونات الثروة المختلفة من حيث استقرارها (كقاعدة ضريبية) وملاءمتها لتحقيق أسس العدالة والكفاءة الضريبية وعلاقة ذلك بمكونات الهيكل النقدي المصرفي للدولة. من هذا المنطلق فان الضريبة على الأرصدة النقدية ما هي الا مدخلا لإحداث الفوضى واضطراب النظام النقدي والمصرفي، في ظرف إقتصادي غير مستقر أصلا ويسعى الناس فيه الى تعافي مما أحدثته الهزات التي سببها النظام السابق (عندما حجر على الناس استخدام ارصدتهم النقدية) بدعاوى إصلاحية لا نفهم منطقها ولا نعلم الا انها افقدت الناس الثقة في نظامهم المصرفي وأضاعت ملايين ساعات العمل للمواطنين في الوقوف امام المصارف فهل نحاول نعيد تكرار تلك الممارسة المؤسفة مرة أخرى دون هدى ولا كتاب منير؟؟
ان مجرد الحديث عن فكرة فرض ضرائب على الأرصدة النقدية ذاتها مدعاة لأحداث القلق في الأسواق ونرجو من الاقتصاديين والسياسيين مراعاة أن النظام المصرفي يعتمد أساسا على الثقة غير المشروطة في مؤسساته وعملته الوطنية التي تديرها دون قيد أو شرط.
نعم...فرضت بعض الدول ضرائب على المعاملات المالية وعندنا بالفعل رسوم على المعاملات النقدية ولكنها هامشية في مقدارها والهدف منها ربما توفير موارد تغطي نفقات إدارة النظام النقدي والمالي، لأن كفاءة وسهولة التبادل التجاري وأوعية الائتمان والادخار الرسمية من اركان كفاءة اقتصاد الدولة. أننا من الداعين الى مراجعة عميقة وشاملة للنظام الضريبي لزيادة الموارد الذاتية للحكومة وكونها أحد أدوات تحقيق العدالة الاجتماعية، وقد أشرنا الى ذلك في مقال حول مكونات الإصلاح المؤسسي للدولة. ولكننا ندعو الى عدم التسرع والارتجال والاهتداء بالعقلانية عند وضع إصلاحات سياساتنا وممارساتنا المالية والضريبية والاستفادة من خبراتنا الداخلية وأي خبرات خارجية تتاح لنا في هذا المجال. سيكون هذا النهج أدعى الى ابتدار وتنفيذ خيارات إدارة اقتصادنا النقدي والإصلاح الضريبي السليم وبعد تقييم علمي صادق للأمور بدلا من نهج الدافوري...والله أعلم وهو من وراء القصد.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.