فتح الإعلان السياسي الموقَّع بين تجمع المهنيين وعبد العزيز الحلو في 26 يوليو 2020 باب النقاش على مصراعيه في تحديد علاقة الدين بالدولة في دستور السودان. هذا الإعلان السياسي يأتي في إطار ممارسة ديمقراطية، ويستحق أن يأخذ حقه من التحليل لمقاربة وجهات النظر المختلفة. إلا أن ما يستوقف حقاً هو موقف السيد الصادق المهدي الذي عبّر عنه في خطبة عيد الأضحى التي نشرتها سودانايل بتاريخ 1 أغسطس2020 تحت عنوان "سودانايل تنشر نص خطبة عيد الأضحى المبارك التي ألقاها الإمام الصادق المهدي بساحة مسجد الهجرة بودنوباوي". في هذه الخطبة يدّعي الصادق أنه يحمل "مشروعاً وطنياً ديمقراطياً"، لكن بالنظر الى محتوى خطبته يتضح، كما سنرى، ان الصادق لا يملك مشروعاً سياسياً وطنياً حقيقياً، ويسعى إلى أن يحتكر الوطنية باتهام الاخرين بالاستلاب دون وجه حق ولا دليل، ويضيق بالديمقراطية فيغازل الدعم السريع والجيش، الذي يفترض أن يكون على مسافة واحدة من الجميع في اللعبة الديمقراطية، ويدعوهم ليتحالفوا معه ضد خصومه. يتهم الصادق الحزب الشيوعي (الذي يدعو للدولة المدنية الديمقراطية) وتجمع المهنيين وحركة تحرير السودان بتكوين تكتل علمانوي مرتهن للخارج يسعى لتقسيم السودان، ويرى أن هذا التكتل سيُواجه بتكتل إسلاموي،حيث يقول: «هكذا تكوّن تكتل علمانوي يحظى بدعم خارجي تقدمه القوى اليمينية الأمريكية الإنجيلية، فهؤلاء يدعمون تقرير المصير مستهدفين تقسيم السودان. هذا التكتل العلمانوي من شأنه بما يعلن من سياسات أن يمد التكتل الإسلاموي بمزيد من مبررات الوجود والإقدام.». لكن الحقيقة هي أن الصادق هو من يسعى لإفشال الحكومة الإنتقالية وصنع الإصطفافات لتكون مبرراً له لتكوين كتلة يتحالف فيها مع العسكر والاسلاميين، حين يقول: «تجربة الفترة الانتقالية وقعت برداً وسلاماً على قوى الردة ذات السند الإخواني، ما سوف ينكب البلاد بتكتل إسلاموي يبرره فشل تجربة الحكم الانتقالي، ويحظى بسند خارجي قوي.». هنا يقول الصادق الشيء ويفعل نقيضه، حين يتنكّر لمشروعه الإسلاموي، ليس كموقف أصيل، بل كموقف انتهازي، لأنه يعرف أن الشعب السوداني قد لفظ الاسلاميين في ثورة 19 ديسمبر2020 المجيدة، وأنه ليس من الحنكة السياسية تبني شعاراتهم (التي كانت شعاراته على الدوام) جهراً. والحقيقة أن الصادق يعرف أن الحزب الشيوعي لا علاقة له بالوثيقة التي تم التوقيع عليها من قبل تجمع المهنيين والحلو، وان الوثيقة لا تتحدث عن العلمانية، وانما تحتوي بنود شبيهة بمقررات اسمرا 1995 التي وقّع عليها حزب الأمة، ويبدو أن الصادق هو الذي يتوق ويدفع لمثل هذا التكتل ويكيل اتهامات العمالة لخصومه، لا ليجد المبرر للتحالف مع الاسلاميين والعسكر فحسب، بل لإستغلال ضعف الإسلاميين بعد الثورة لتكريس زعامته الدينية والسياسية بهذا التحالف، حين يتحدث عن قوى هذا التكتل ويقول «نحن على رأسها». والحقيقة الأخرى هي أن الصادق يتهم الحزب الشيوعي زوراً وبهتاناً بانه يدعو للعلمانية، في حين ان القاصي والداني يعلم أن الحزب الشيوعي في كل أدبياته وبياناته يدعو للدولة المدنية الديمقراطية. لكن الصادق يفعل هذا بوعي، إن لم نقل بخبث سياسي، ليستثمر في الحمولات السالبة التي تحملها كلمة علمانية عند رجل الشارع العادي، نتيجة للدعايات السالبة للإسلاميين التي حاولت ربط العلمانية بالإلحاد. ويمهّد الصادق لطرح مشروعه السياسي حين يقول: «مع إخفاق المرحلة الانتقالية يقدم التشكيل الحالي مصير البلاد إتجاهان متناقضان، احدهما يسعى لسودان الردة الظلامية، والاخر يسعى لسودان الاستلاب وتفكيك المصير الوطني .... وكلا الاجندتين تتناقضان مع شروط بناء الوطن، وكلا الاجندتين بدعم خارجي.» ثم يسارع الصادق بتقديم مشروعه الذي يدعّي فيه أنه يمثل «القوى الوطنية الديمقراطية» وأن هذه القوى «ساعية لتحقيق السلام الشامل العادل ولتحقيق المساواة وضبط التوجه الإسلامي والعربي والإفريقي بصورة توفق بين التأصيل والتحديث، ونحن على رأسها». ويوعدنا بأنه سوف «يعمل على أن نكون قوى الوسط السياسي الذي يجمع قوى بناء الوطن وخلاصه من براثن الإسلاموية والعلمانوية» لكن الواضح أن حديث الصادق هنا لا يعدو أن يكون مجرد حديث إنشائي لا قيمة له، لأنه لا يحدد موقف واضح في علاقة الدين بالدولة، وهي النقطة المحورية التي تدور حولها الاصطفافات التي يتوق لصنعها. كذلك، برغم أن الصادق يسعى لتكوين تحالف يسميه "القوى الوطنية الديمقراطية"، إلا أننا سرعان ما نكتشف ضيقه بالديمقراطيه عندما يغازل الجيش والدعم السريع ويدعوهم بالمكشوف للوقوف بجانب مشروعه لهزيمة العلمانيين والإسلامويين، حين يقول: «القوات المسلحة بمختلف مكوناتها والدعم السريع والقوات الوطنية ترفض هوية المخلوع وتنحاز للشعب .. وهي الان مطالبة لاجندة بناء الوطن وحمايته من الإنجراف نحو الرِّدة الإسلاموية والإستلاب العلماني». ولا يخفى على أحد أن الصادق هنا يعني (العلمانيين)، ولكنه يحشر الإسلامويين حشراً ليظهر في موقف المتماهي مع الثورة التي لفظت الاسلاميين. هكذا يتضح أن الصادق المهدي لا يملك مشروعاً سياسياً سوى تكريس زعامته الدينية والسياسية عبر إفشال الحكومة الإنتقالية والتحالف مع الاسلاميين، بلا رؤى واضحة لعلاقة الدين بالدولة، وأنه لا يؤمن بالديمقراطية التي يتشدق بها، إذ أنه لا يسعى لتحقيق مشروعه بالوسائل الديمقراطية وإنما بدعوة الجيش والدعم السريع صراحة لأن يتحالفوا معه لهزيمة خصومه. 3 أغسطس 2020 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.