واجه الجنيه السوداني في الاسابيع الماضية أخطر وأكبر ازمة انخفاض في تاريخه امام الدولار والعملات الاخرى، من حيث معدل الانخفاض والفترة الزمنية التى حدث فيها، حيث وصل سعر الدولار في السوق غير الرسمية الى 270 جنيهاً، علما بأن السعر الرسمى لشراء الدولار هو 55 جنيهاً، وحيال هذا التراجع لم يأت الرد من طرف بنك السودان المركزي المسؤول عن وضع السياسات المالية والنقدية لكن جاء الرد امنياً ودائماً محاولة السيطرة والقبضة الأمنية لا تأتي بنتائج تساعد في علاج العلة الرئيسة للأسباب الانخفاض بل بالعكس تأتى بنتائج عكسية بصورة عامة حيث ينخفض سعر الدولار لبرهة بسبب اختفاء التجار وعمليات البيع ثم ما يلبث أن يحدث شح في السوق ومن ثم ارتفاع جديد في الاسعار نتيجة للتعامل مع الدولار كسلعة؛ وهناك عدة محاولات جرت للسيطرة الامنية لمنع انخفاض الجنيه منذ بداية الثماننيات في عهد الرئيس نميري مرورا بالانقاذ والآن حكومة دكتورحمدوك كلها باءت بالفشل لأن العلاج بدء بالاعراض وانتهى بها. ايضا تم تجاوز أسباب انخفاض الجنيه الحقيقية امام العملات الاجنبية بالقفز نحو تحليلات بعيدة عن لب المشكل من قبيل وجود جنيهات مزورة، وان هناك من يسعى لتدمير الاقتصاد، متناسين الوضع الاقتصادى الذى بدء في التدهور قبل مبارحة الانجليز للسودان بسبب انخفاض اسعار القطن وتذبذبها عالمياً، وكان هيكل الاقتصاد مزدوج الطبيعة بطبيعته التقليدية الواسعة كقطاع حديث وصغير؛ هيكل الإنتاج هذا أثر على النظام المالي في جانب تعبئة الموارد الذى اعتمد على الضرائب التي كانت السبيل إلى تحصيل ايرادات الموازنة من القطاع التقليدي، ايضا ادى الاعتماد علي القطن الى اهمال المحاصيل الزراعية الاخرى وقطاع الثروة الحيوانية التي لم تشكل اكثر من 3% من صادرات السودان حتي العام 1956م، واهمال القطاع الصناعي الذى شكل فقط نسبة 1% من اجمالي انتاج القطاع الخاص واهمال قطاع التعدين. ويبدوا واضحاً وجلياً ان المستعمر هدف من ذلك الى جعل السودان مستهلكاً اكثر منه بلداً منتجاً؛ ومنتجا في حدود ما تحتاجه مصانع بريطانيا؛ لذلك بعد ان استقل السودان عام 1956م قُدر الناتج المحلي الإجمالي في ذلك الوقت بمبلغ 284 مليون جنيه إسترليني (795 مليون دولار أمريكي)، وبلغ نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي 28 جنيهاً إسترلينياً أو حوالي 78 دولاراً؛ مما صنف السودان من بين أفقر البلدان في العالم. تميزت الفترة من 1978 إلى 1981 بعدم الاستقرار الاقتصادي الناجم عن صدمات الاقتصاد الكلي التي نتج عنها عجز ميزان المدفوعات، وهذه الصدمات تسبب فيها عرض النقود، الضرائب، الانفاق الحكومي. ولتصحيح الوضع لجأت الحكومة إلى خفض القيمة الاسمية للجنيه السوداني في العام 1980 بنسبة 25% امام العملات الصعبة، بعد أن اجبرها على ذلك صندوق النقد الدولي؛ نتيجة لمشاركتة في وضع سياسات سعر الصرف في السودان، وكان سبب أول خفض لقيمة الجنيه الاسمية في تاريخ السودان إحداث زيادة في قيمة العملة المتداولة لزيادة السيولة داخل البلاد ولكسب الأسواق الخارجية، وتغطية العجز في ميزان المدفوعات ولزيادة الإنفاق في عمليات التنمية؛ وحصرنا خفض العملة في هذين المجالين لأن قيمة الجنيه السودانى لم تكن متدهورة عند اتخاذ القرار بخفض قيمته. أثر الخفض على قدرة الحكومة على سداد أقساط الديون وفوائدها للدول الأجنبية حيث يصبح الدين بعد الخفض اكثر عبئاً. رغم وضع خطة خمسية سبقت خفض قيمة الجنيه، وكانت ذات أهداف وتوقعات متفائلة رغم الوضع الاقتصادي المتدهور في ذلك الوقت، الذي تميز بتضخم الجزء الاكبر منه جاء نتيجة لتمويل خطط التنمية بالعجز (طباعة النقود)، وزيادة تكاليف التطوير بسبب ارتفاع الأسعار في جميع أنحاء العالم، وارتفاع تكاليف رأس المال الخارجي. وبمضي السنة الثانية من الخطة الخمسية، لم يكن هناك نمو اقتصادي، وزادت ضغوط الديون الخارجية، وفشل السودان في الوفاء بمدفوعاته المقررة، وانخفض الانتاج الزراعي والصناعي من حيث نصيب الفرد. من جانب آخر السودان كغيره من الدول النامية التي لديها ضعف كبير في حجم الادخار، وأن اقتصاداتها ريعية وفي معظم الحالات يكون مصدراً طبيعياً ليس بحاجة إلى آليات إنتاج؛ والفائض من الدخل بعد الاستهلاك عادة ما يوجه نحو قطاعات خدمية غير انتاجية هي في المقام الأول استهلاكية، وهذا يؤدى لارتفاع معدل الاستهلاك على حساب الادخار، وذلك بسبب تدني مستويات الدخل الفردي مع وجود ميل ونزعة لدى الافراد نحو الاستهلاك، بالإضافة الى مستويات التضخم المرتفعة وضعف القطاعات الانتاجية المحلية والاعتماد على الاستيراد أكثر من الانتاج والتصدير. في هذه الظروف لجأت الحكومات عبر تاريخ طويل إلى الاقتراض والاستدانة من القطاع المصرفي لتمويل عجز الموازنة. ورغم تطبيق خطة صندوق النقد الدولى انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنحو 6 % بالقيمة الحقيقية، وزاد العجز في ميزانية الحكومة المركزية حوالي 10 % من الناتج المحلي الإجمالي، وزادت القاعدة النقدية بمعدل سنوي في المتوسط أكثر من 40 % بالمقارنة مع المعدل المستهدف البالغ 16 % لمجموعة 1980-1981؛ وفي ذات الفترة ارتفع معدل التضخم إلى حوالي 35 % سنويا في المتوسط. استمر هذا التدهور مع استثناء الفترة التى اعقبت انتاج البترول حتى انفصال جنوب السودان، وتميزت فترات التدهور بتباطؤ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي ولم يتم ادارة التدفقات الناتجة من ايرادات البترول ورأس المال الأجنبي إلى القطاعات الزراعية بكفاءة مما أدى إلى فشل المشاريع وتسبب ذلك في مشكلة تراكم الديون الضخمة، وكان صندوق النقد الدولي قد أوقف مساعداته للسودان منذ 1984م. تفاقم الدين الخارجي بصورة كبيرة، وأثر على ثلاثة متغيرات اقتصادية مهمة هي الادخار، الاستثمار، والإنتاج، بالإضافة إلى عوامل الهجرة الداخلية نحو المدن، كانت هذه عوامل مهمة في التأثير على الانتاج، ايضاً تأثرت القدرة الإنتاجية نتيجة للنقص في قطع الغيار وانخفاض الطاقة، وعدم توفر مدخلات الانتاج الأساسية نتيجة لانخفاض موجودات العملات الصعبة، تحول موارد الإنتاج إلى الدفاع الوطني، بسبب اشتعال الحرب في شرق وغرب السودان؛ بسبب هذه العوامل دخل اقتصاد السودان في فترة طويلة من التباطؤ والضعف الاقتصادي، وادى ذلك الى اختلال ميزان المدفوعات، بالإضافة الى الظروف الغير المواتية في التجارة الدولية، وضعف برنامج الاستثمار العام وانخفاض معدل النمو. كان الانخفاض الحاد في عائدات النفط في أعقاب انفصال جنوب السودان في عام 2011، والنزاعات اللاحقة على النفط في الجنوب، ضربت الاقتصاد السوداني بشدة وأثرت بشكل كبير جداً على معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي وصل إلى سالب 4% لعام 2020م بعد ان كان سالب 2.6% في عام 2019م ؛ حيث بلغ إجمالي الناتج المحلي 18,90 مليار دولار في عام 2019م، بعد أن كان حوالى 74,29 مليار دولار في عام 2015م. في ظل وجود دين خارجي يتجاوز ال 55 مليار دولار، وضعف الانتاج الزراعي والصناعي وضعف الصادرات وعدم قدرتها على المنافسة، والاعتماد على توقعات تدفق المعونات الخارجية والصراع السياسي، وتضمين موازنة 2020 حزمة سياسات صندوق النقد الدولي المتمثلة في تحرير سعر الوقود وتخفيض قيمة الجنيه وزيادة الدولار الجمركي، وزيادة الكتلة النقدية بطباعة المزيد من النقد، وزيادة المرتبات زيادة كبيرة جدا دفعت دفعة واحدة فى خضم أزمة كورونا، ودخول الحكومة كمشتر للدولار من السوق الاسود، هذه العوامل تسببت في الانخفاض المتسارع لقيمة العملة الوطنية وسوف سيتمر الانخفاض اذا لم يتم النهوض بالاقتصاد. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.