مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    تحرير الجزيرة (فك شفرة المليشيا!!)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    كريستيانو يقود النصر لمواجهة الهلال في نهائي الكأس    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انتخابات الخسارة الكبرى: بانوراما لانتخابات السودان الأولى منذ ربع قرن .. بقلم: محمد عثمان

إن في السودان هويات متقاطعة، تجذر بعضها في التاريخ الضارب في قدم الصخر المنحوت في الشمال وإهرامات مروي، كما تجذر بعضها في عقائد كتابية وأخرى غير كتابية، في بعضها سمات أفريقية وبعضها سمات عربية... وكلها موزعة على أقاليم السودان الشاسع، غربه وشرقه جنوبه وشماله.
مكوّنات إيجابية
وما الصراع الدائر الآن، ومنذ عقود توالت بعد نيل السودان استقلاله عام 1956، إلا حلقة من حلقات تشكل الهوية واعتدالها قواماً سوياً.. وأن هذه الهويات تتداخل في ما بينها وتتواصل، لتجد في ثقافة أبناء النوبة في جبال النوبة غربي السودان، شبهاً كبيراً وإرثا لغوياً مشتركاً مع النوبيين في شمال السودان، وأيضاً في جنوب مصر. وتجد بين عرب دارفور وعرب أواسط السودان وشماله، وكذلك بين قبائل في جنوب السودان وقبائل في غربه، أواصر من القربى، وصفحات من التلاحم الاجتماعي، يقع أحياناً على استحياء، لكنه يقع على أية حال.. وقمين بأن يستمر ويتواصل، وكثير من السودانيين على قدر من التفاؤل بأنه بات بالإمكان تجاوز حلقات الصراع والاقتتال، سواء في جنوب السودان أو في غربه في دارفور، لو سما الوعي لدى النخب السياسية بالقدرة المطلوبة لاستقصاء مسببات هذا التنازع والاقتتال.. إن استلهام التاريخ البعيد، فيه عبر ودروس يجدر أن يستهدى بها. ليس مطلوباً من سكان البلاد أن يتنطعوا فلسفة تقودهم لإدراك مكونات هوياتهم، كأنهم فلاسفة منقطعون للفكر، كما ليس مطلوباً منهم أيضاً، أن يكونوا قتلة وجلادين.. إن الأجيال التي تعاقبت على السودان حتى سنواته الدامية الأخيرة، تحمل تاريخها وإرثها ومكوناتها فوق أكتافها. في التاريخ إرث ثقيل خلفه السكان الأوائل، ليس آباء الاستقلال فحسب، بل الآباء الذين وضعوا لبنات الهوية منذ بداية الحضارات الفرعونية جنوبي مصر وشمالي السودان، وحتى نشوء الممالك والدويلات في السودان الجغرافي العريض، بما يشمل السلطنة الزرقاء التي سادت في السودان القديم حول النيل ( 1500م – 1520م)، ثم الحكم التركي الاستعماري للسودان في القرن التاسع عشر بين 1820م و 1885م، حتى بروز حكم المهدية وبدايات تشكل السودان في حدوده المعروفة حالياً بعد غزوه عام 1898 على يد الجنرال كتشنر، باسم مصر وبريطانيا.
أم درمان: هوية جنينية
الإمام المهدي، جد السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة الحالي، هو الذي تشكل على يديه عام 1885 السودان الأقرب إلى شكله الجغرافي الحالي، مستقلا عن حكم استعماري من أتراك ومصريين وبريطانيين. اختار المهدي مدينة أم درمان وتقع على الضفة الغربية لملتقى النهرين: النيل الأبيض والنيل الأزرق، عاصمة لدولة المهدية والتي لم تعمر أكثر من خمس عشرة سنة، انتهت بمعركة كرري عام 1898 على يد الجنرال البريطاني الشهير كيتشنر، وبقوات بريطانية وتحت راية مصرية وبريطانية، لتمهد لاستعمار تواصل حتى نيل البلاد استقلالها في 1956.
أم درمان هي التي يرى فيها السودانيون مصهراً لهوياتهم، وأنموذجاً لتعايش وتسامح يتطلع إليه أهل البلاد، وحدة وتماسكاً، سكانها خليط قزحي من إثنيات تداخلت مكوناتها، وتفاعلت عناصرها، فتجد أحياء لسودانيين بيض البشرة من أصول مصرية أو مغربية أو تركية بعيدة، وآخرين سمر البشرة أصولهم القديمة من شمال وأواسط البلاد وغربيها وشرقيها، وفئة ثالثة سود البشرة من أصول ترجع لقبائل سوداء في جنوب السودان، وبين الجميع تفاعل وتزاوج وتداخل لا تصح معه أية محاولات لإيجاد حدود فاصلة بين مجموعة سكانية وأخرى. وما إشارتي إلى اللون إلا لتقريب صورة التباين الإثني الذي عليه البلاد، على خلفية الاسم الذي عرف به عبر التاريخ: السودان. لا بد من أن نشير هنا إلى أن من أطلق هذا الاسم على الحزام السكاني الممتد جنوبي السواحل الإفريقية الشمالية، من ساحل البحر الأحمر وحتى أطراف الساحل الأطلسي، هم من «البيضان» مجازاً، ولا تشي مثل هذه المسميات – ويا للأسف التاريخي - إلا بإسقاطات عنصرية، لا يقبلها كثيرون في عصر عرف عميقاً قدراً من اعتماد التعايش والتسامح وقبول الآخر المختلف، لغة ولونا ولسانا، على كل هذه المساحة الشاسعة والتي يقع معظمها تحت تأثير الثقافة العربية تتفاوت درجته من منطقة لأخرى، بما في ذلك دارفور بولاياتها الثلاث، غربي السودان الحالي..
في فترة من الفترات، شغل الناس في السودان الحالي، بمبادرات من قيادات سياسية لم تمضِ طويلا لتغيير مسمى السودان النيلي الحالي إلى اسم آخر ينأى بالبلاد عن هذه الإسقاطات العنصرية، إذ البلاد بالفعل ليست بلادا يقطنها «رجال سود»، أكثر من كونها بقعة في الأرض الإفريقية تلاقت وتفاعلت فيها ثقافات شتى، وأجناس شتى وعقائد شتى، فكانت مكوناتها المتداخلة تاريخا عرف الفرعونية والمسيحية واللادينية والإسلام، وجغرافيا شملت غابات غنية في الجنوب وسافنا أقرب إلى الجفاف إلى الشرق والغرب، ووسط نيلي يمتد من أواسط القارة الإفريقية بمنابع نيلها الأبيض والأزرق، ممتدا إلى شمال البلاد، حتى مصباته في مصر .
اتفاق السلام الشامل: مدخل لحياة أو ممات دولة :
بعد عقود طويلة من الاقتتال توقف نزيف الدم بين شمال السودان وجنوبه بالتوصل إلى اتفاق للسلام جرى توقيعه في كانون الثاني يناير 2005، وصف بأنه «شامل»، للإشارة إلى أنه يجوز الأخذ به لإعادة رسم خارطة ودور جديدين للسودان في موقعه الحالي. وضع الاتفاق نهاية لنزاع تاريخي طويل، بل هو الأطول أمداً من بين كل النزاعات الإفريقية، وما تم ذلك إلا بعون من أطراف إقليمية ودولية، شملت منظمات وهيئات دولية، إضافة إلى دولٍ كبيرة مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا والنرويج .
أقر الاتفاق من بين مقرراته المفصلية، إتاحة الحق للمواطنين في جنوب البلاد الاختيار الحر وعبر استفتاء للبقاء في إطار السودان الموحد أو اختيار الانفصال وإنشاء دولة جديدة مستقلة في جنوب السودان. على أن ذلك وفق اشتراطات من أهمها أن يجري الاستفتاء المصيري على يد حكومة منتخبة ديمقراطياً وبرقابة دولية. لقد تضافرت الجهود والمساعي السياسية منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005، للوصول إلى المحطة الحالية التي تجرى فيها انتخابات حرة مباشرة لاختيار رئيس للجمهورية، وانتخاب ولاة يديرون ولايات البلاد السبعة والعشرين وانتخاب مجلس للنواب (برلمان). على أن النزاع الناشب في دارفور غربي البلاد، وما آلت إليه الأمور هنالك من ترد وانهيار، قاد إلى تدخلات دولية، شملت استقدام قوات دولية، تجاوزت العشرة آلاف، هددت بتقويض هذه الجهود.
.
يحمد لدولة قطر ضلوعها بدورٍ فعالٍ لتوسيع فرص التفاوض والحوار بين الحكومة التي يقودها البشير، وحركات التمرد في دارفور. ومن بين كل الدول العربية فإن دولة قطر رسّخت لنفسها دوراً ايجابياً فاعلاً على الساحة العربية، تعزّز بعد نجاح دورها في حل الأزمة اللبنانية التي استعصت على أطراف كثيرة بينها الأمانة العامة لجامعة العربية، وذلك بين 2006 و2008. غير أن ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية للرئيس البشير لاتهامها له بمسؤوليات تستدعي محاكمته دوليا، ألقت ظلالا ثقيلة على مصداقية الرئيس البشير وشرعيته المتأرجحة بين ضرورات إقرار العدل بمحاكمته، وبين التزاماته نحو مقررات «اتفاق السلام الشامل»، وهو الذي وقع عليها عام 2005 في نيروبي. تضغط كل الأطراف، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وهما من شهود «اتفاق السلام الشامل»، على ضرورة التوصل إلى محطة الاستفتاء المفصلي فبراير عام 2011، في أن يبقى السودان دولة واحدة أو ينقسم إلى دولتين.
.
يرى «المؤتمر الوطني» الحاكم وقيادته في السودان، مشهداً محفوفاً بمخاطر شتى، لعل أهمها الأطماع التي يتربص أصحابها بالبلاد، والمحاصرة التي تحكم خناقها عليه، وآخرها ملاحقة المحكمة الدولية للرئيس البشير، فيما تتقاصر المسافة وصولاً لاستحقاقات دستورية مفصلية قد تودي بالبلاد، إما إلى إقرار وحدة بعيدة المنال، أو إلى انقسام صار هو الخيار الأقرب. ثمة أسباب تعزز تلك التوقعات، أهمها:
1-إضعاف أزمة دارفور لسيطرة المركز على أطراف البلاد، كما أدت إلى تشتيت الجهود للحفاظ على الاستقرار فيها، بما عزز من مواقف أطراف معينة، يصفهم المراقبون بأنهم «الصقور» في حكومة جنوب السودان، والتي تحكم باسم «الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان»، ترى أن من الخير الجنوح نحو انشاء دولة مستقلة في الجنوب، بعيداً عن حكومة «المؤتمر الوطني» ذات التوجهات الاسلامية التي لا يوافق عليها أبناء جنوب السودان .
2- ما زالت فجوات انعدام الثقة بين طرفي اتفاق السلام الشامل تشكل مهدداً لجهود تنفيذ هذا الاتفاق، وتتواصل حملات التشكيك من طرف حكومة جنوب السودان بأن البشير وحكومته ليسوا جادين في الوفاء باستحقاقات اتفاق السلام، وأنه ربما الارجح ان يختار الجنوبيون الانفصال وإنشاء دولتهم بعيداً من ملاحقات محكمة دولية تلاحق رئيس البلاد، علاوة على السيطرة على حقوقهم المشروعة في عائدات آبار نفط الجنوب التي يتشككون في حساباتها لدى وزارة النفط الاتحادية في الخرطوم.
3- يرى مراقبون أن ثمة أطرافاً في «المؤتمر الوطني» - أي حكومة «الانقاذ» التي يقودها البشير - لا ترى من جدوى في الحفاظ على جنوب السودان في إطار البلد الواحد، وأن هؤلاء، ويصفهم المراقبون أيضا أنهم «صقور الانقاذ»، يديرون همساً معركة للحفاظ على التوجه الإسلامي للنظام الحاكم، ويرون أن الاحتفاظ بجنوب السودان قد يؤدي إلى تسويات وتنازلات تكون على حساب هذه الالتزامات والتوجهات الإسلامية.
المؤتمر الوطني: حزب يفرّق ليسود :
يجمع المراقبون على أن «الجبهة الاسلامية» التي كان يتزعمها الدكتور حسن الترابي حتى 1989، والتي أحكمت سيطرتها على السودان منذ ذلك التاريخ، قد اعادت انتاج كيانها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين 1999-2010 في شكل جديد باسم «المؤتمر الوطني»، وهو اسم يخلو من صفة «الإسلامية»، كما هو واضح، بقصد استقطاب أكبر عدد من شرائح السكان في السودان، بطرح سياسة تتوجه نحو بناء الوطن وإنمائه، وتفتح الأبواب لشراكة واسعة مع الجميع. ذلك طرح ظلت تتبناه كوادره وقياداته ومؤسساته، طيلة العقد الثاني لحكم الانقاذ (1999- 2010)، تحت قيادة الرئيس البشير، وذلك بعد أن نجح في إقصاء الدكتور حسن الترابي، زعيم «الجبهة الإسلامية» والعقل المدبر لانقلاب «الإنقاذ» على الحكومة الشرعية في عام 1989. ولقد أفلح هذا التنظيم السياسي في السيطرة الكاملة على الساحة السياسية منذ ذلك التاريخ وحتى الزمن الحاضر، بحفاظه على تماسكٍ نادر، فيما تشظت مختلف الكيانات السياسية التقليدية في السودان، وانقسمت على نفسها، ربما بفعل فاعل أو لتآكل داخلي اضعف بنياتها. لكن أطرافاً عديدة في المعارضة السودانية تكيل، انتقادات عديدة للمؤتمر الوطني، تتمحور حول التالي:
1- يتبع «المؤتمر الوطني» الحاكم في السودان، سياسة «فرِّق تسُد» القديمة للحفاظ على تماسكه في الساحة والعمل على إضعاف الكيانات السياسية الأخرى. ها هو حزب الأمة الذي يرأسه تاريخيا الصادق المهدي، حفيد الإمام محمد أحمد المهدي الذي أنشأ أول دولة سودانية إسلامية مستقلة في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، يرأس حزباً منقسماً على نفسه، منقطعاً عن مرجعياته في مختلف أقاليم السودان، خاصة في غربي البلاد، في دارفور وفي كردفان. إلى ذلك أيضاً، نجح «المؤتمر الوطني» في شق صف الحزب «الاتحادي الديمقراطي»، وهو الحزب التاريخي الذي حقق استقلال البلاد في 1956م، بحيث بات جناح منه مشاركاً في تحالف وثيق مع حزب الرئيس البشير، بينما يطرح جناح آخر أصيل في المعارضة، مرشحاً رئاسيا ينافس الرئيس البشير.
2-استهدف «المؤتمر الوطني» الحاكم وبتصميم مخطط، الأحزاب التقليدية، خاصة الأمة والاتحادي الديمقراطي، وهما حزبان لعبا أدواراً رئيسية في إدارة البلاد منذ نيله الاستقلال في عام 1956، وأنه جرى تآكل منظم لعضوية هذين الحزبين التاريخيين، بسبب هيمنة «المؤتمر الوطني» على الساحة السياسية في السودان طيلة العقد المنصرم، وهو الحزب الذي يجوز أن نسميه حزب «الانقاذ»، وهو الاسم الذي طرحه البشير منذ يونيو 1989، ثم تحول حزبا باسمه المعروف الآن وهو: «المؤتمر الوطني».
3- فيما تحالف «المؤتمر الوطني» الحاكم مع حليفٍ جديد هو «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بعد اتفاق السلام الشامل الذي أعاد السلام لربوع جنوب السودان في 2005، ليكوّن ما يعرف ب«حكومة الوحدة الوطنية»، حسبما ورد في الاتفاق، إلا أن لا أحد يشير للحكومة الحالية بهذه الصفة، وإن ظل عدد من وزراء «الحركة الشعبية» يشاركون فيها بلا فعالية تذكر. على سبيل المثال لا الحصر، هذا وزير الخارجية السيد «دينق ألور»، وهو من كان يدير ملف العلاقات الخارجية ل«الحركة الشعبية» التي قاتلت حكم البشير لأكثر من خمسة عشر عاماً، لا يسمع له صوت في أي محفل اقليمي عربي أو افريقي أو إسلامي كوزيرٍ لخارجية السودان. ذلك يعكس تردداً من طرف «الحركة الشعبية» التي تحكم جنوب السودان، بل عجزها عن المضي بجدية في شراكة فاعلة مع حزب «المؤتمر الوطني» الذي يرأسه البشير. فيما بدأ العد التنازلي للانتخابات الرئاسية والولائية والبرلمانية في السودان، فإن إشارات الانقسام الداخلي في صفوف «الحركة الشعبية» التي تحكم الجنوب، بدت أكثر وضوحاً بين تيارات فيها من هم أقرب إلى الشمال توجهاً وانتماء، كما فيها عناصر ميلها الأكثر نحو الانفصال، توجهاً سياسياً وانتماء. ثمة صقور عينهم على الاستفتاء في أوائل العام القادم، والذي يأملون أن يحقق لهم نصراً بإنشاء دولة جنوب السودان المستقلة، كما هنالك «حمائم» لا زالت عيونهم ترنو على استحياء، للحفاظ على وحدة البلاد والبقاء تحت مظلة «المؤتمر الوطني» برئاسة البشير وعصبة «الانقاذ» التي تدير البلاد معه، وإن بقوا ذلك الشريك الأضعف.
4- يرى معارضون كثر أن البشير وحزبه، يراهنون على أصوات الشباب، وهم الفئة الغالبة في الانتخابات القادمة . ليس من بين الشباب من الجنسين ممن هم بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين من أعمارهم - وهم ممن يحق لهم ممارسة حق التصويت - أقول ليس فيهم من شهد تجربة انتخابية سابقة، إذ كانت انتخابات عام 1986 هي آخر انتخابات قومية على مستوى البلاد، وقطعاً لم يشهدها القسم الأكبر من هؤلاء. . يحق لنا أن نقرر أن خطاب «الإنقاذ»، عبر المؤتمر الوطني حقق انجازاً بما يماثل غسيل أدمغة لفئات من السكان، ولن تعرف تاريخ بلادها قبل 1989. كثير من الصحافيين رووا عن شباب جرى سؤالهم عن قيادات قومية حققت استقلال البلاد وأطلقت أسماؤهم على شوارع وميادين رئيسية في البلاد، فلا يكاد يعرف أحد من هؤلاء لماذا سميت شوارع وميادين بأسمائهم. ثمة انقطاع كارثي بالتاريخ القريب للبلاد.
رئاسة الجمهورية: شبهات حول مرشحين أساسيين:
تشمل القائمة التالية أسماء من طرحوا أنفسهم مرشحين لرئاسة الجمهورية وهي الانتخابات المهمة إلى جانب انتخابات أخرى متزامنة للولاة وللنواب:
مرشحون لرئاسة الجمهورية وهم:
1-الرئيس عمر البشير: رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وتعود أصوله إلى شمال السودان النيلي وأواسط السودان.
2– السيد حاتم السر: قيادي في حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يرأسه الزعيم الروحي السيد محمد عثمان الميرغني، ولربما حصد أصواتا مقدرة ولكن ليس له من فرصة في الفوز..
3- الدكتورة فاطمة عبد المحمود: أول امرأة تترشح لمنصب رئاسة السودان وهي تمثل الاتحاد الاشتراكي السابق الذي حكم باسمه الرئيس السابق جعفر النميري لخمسة عشر عاما، وتعود أصولها إلى الشمال النيلي، وليس من فرصة لها للفوز..
4- السيد محمد أحمد جحا: هو مرشح مستقل من كردفان، غربي السودان، وليس له فرصة للفوز ...
5– السيد عبد الله دينق نيال: مسلم من جنوب السودان، تلقى تعليمه في الأزهر الشريف، وهو من قيادييّ حزب «المؤتمر الشعبي»: الذي يرأسه الدكتور حسن الترابي، المعارض لحزب «المؤتمر الوطني» ومعارض لحكم البشير. لربما يحصد أصوات الكثير من الاسلاميين وبعض أبناء مسلمي الجنوب، ولكن دون فرصة كبيرة لإحراز نصر على الرئيس البشير.
6- الدكتور كامل الطيب إدريس، وهو أكاديمي وموظف دولي سابق مستقل ومن سكان مدينة ام درمان، ويرشح نفسه لرئاسة الجمهورية كمستقل، ولا يحظى بفرصة كبيرة للفوز..
7- منير شيخ الدين: من منطقة جنوب كردفان، غربي السودان ومرجعيته هي قيادته للحزب السوداني القومي المعروف بشعبيته وسط قبائل النوبة في كردفان. هو أصغر المرشحين سنا، ولكن فرصه ضئيلة للغاية.
8- عبد العزيز خالد عثمان قائد التحالف الوطني الديموقراطي، وليست له فرص كبيرة للفوز.
مرشحون منسحبون
1– القائد ياسر عرمان قيادي من «الحركة الشعبية لتحرير السودان» التي أسسها الراحل جون قرنق، وهي الشريك الرئيسي في حكومة البشير الحالية. تعود أصول عرمان إلى الجزيرة والسودان النيلي، ويتردد أن له صلة قرابة بعيدة بالرئيس البشير.
2– الإمام الصادق المهدي، وهو حفيد الإمام محمد أحمد المهدي والذي تشكلت على يديه بلاد السودان الأقرب لوضعه الحالي. يرأس السيد الصادق حزب الأمة القومي ومقره أم درمان، عاصمة الإمام المهدي التاريخية. .
3- السيد مبارك الفاضل، وهو مستشار رئاسي سابق عمل مع الرئيس البشير ويرأس حالياً «حزب الأمة/ التجديد والاصلاح»، الذي انشق عن الحزب الذي يقوده الصادق المهدي وهما أبناء عمومة . .
4- محمد ابراهيم نقد، وهو زعيم الحزب الشيوعي العريق، وهو يعد من جيل الدكتور الترابي ذاته، وفي منتصف سبعينياته.
من هم هؤلاء المرشحون ومن أين أتوا ؟
لن يكون ذلك سؤالاً من قبيل أسئلة الراحل الطيب صالح حين بهته ما فعل الانقاذيون بالبلاد السودانية، فسأل: من هؤلاء ومن أين أتوا؟، ولكنه سؤال مشروع لما نرى من خلفيات مذهلة عن معظم الذين طرحوا أنفسهم مرشحين لرئاسة الجمهورية في السودان، ينافسون البشير - الملاحق دولياً - على كرسي الحكم. نعرض فيما يلي لخلفية بعض المرشحين ممن ينوون منافسة البشير:
مرشح أول هو الرئيس الحالي نفسه ولن نحتاج لكثير إفصاح عن موقعه وخلفيته، إذ هو جالس على دست الحكم ودست الحزب الحاكم، لما يزيد عن عقدين من الزمان، ويطرح نفسه مرشحاً للرئاسة ليتواصل عهده لسنوات أخرى قادمة. تحيط بالرجل برغم نجاحات هنا وهناك، إخفاقات كبيرة، إذ في عهده وقعت البلاد أسيرة لمجلس الأمن الدولي ففرضت على السودان من القرارات ما فاقم من حصار بلاده وادخال قوات دولية بلغ عددها الآلاف، وبعتاد يفوق ما تملكه دول راشدة كبيرة، وانتهى مطاردا من قبل المحكمة الجنائية الدولية. لا يملك الرجل أن يتحرك حراً خارج بلاده بيسر، ويكفي أن نلحظ اضطراره للغياب عن تسعٍ من المؤتمرات الدولية المهمة، ومن بينها اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، خلال الأشهر القليلة الماضية. جاء الرجل إلى الحكم بعد أن أجهض حكماً ديمقراطياً منتخباً واعترف بمكر لاحقاً، أنه جاء من فوق دبابة يقود انقلابا ل«انقاذ» السودان، فيما الحقيقة هي أنه نفذ انقلاباً قاده حزب «الجبهة الاسلامية» بقيادة د. الترابي، صاحب الأقلية في ذلك البرلمان الذي أطاح به البشير صباح 30 يونيو 1989. لم يحاسبه أحد على القتل والتشريد والتعذيب والإقصاء الذي مورس لعقدين من الزمان تحت حكمه.
يبقى السؤال مطروحاً: هل للرجل أهلية ومصداقية كافية لتعتمده مفوضية الانتخابات في السودان مرشحا لرئاسة السودان من جديد، وهل تملك المفوضية المعنية قدراً من الجرأة لتفعل..؟
مرشح ثان، من بين هؤلاء المرشحين، ويحمل اسماً كبيراً، وقع فريسة لمؤامرة لا نعرف مدى صدقها، إذ سعت سيدة بريطانية تطلب اعترافه بابن لها منه. ذلك وقع في السنوات الأخيرة من التسعينات في القرن الماضي، حين ساءت علاقة النظام الحاكم في السودان بالرجل فشجع تلك السيدة البريطانية لتنبش فضيحة تزلزل سمعة الزعيم السياسي والديني الكبير. شبهة هي أم غير ذلك، لكنها قصة تترك لونا فضائحيا على سمعة من يسعى ليتبوأ منصب رئيس الجمهورية، عبر انتخاب حر ونزيه. يظل السؤال قائما حول دور مفوضية الانتخابات في السودان في تمحيص مصداقية المرشحين لرئاسة البلاد.
مرشح ثالث، وقيادي في حركة رئيسية، خرج من الخرطوم، فيما تقول الشائعات، تطارده تهمة يتناقلها طلبة جامعة القاهرة فرع الخرطوم في ثمانينات القرن الماضي، حول ضلوعه في مجازفات وعنف طلابي قد يوقعه تحت طائلة القانون. ترى هل زالت تلك الشائعات، وهل نظرت مفوضية الانتخابات التي أنشأها دستور البلاد المؤقت، في ما يدحض أو ينفي أو يؤكد، خلو صحيفة هذا المرشح الرئاسي، من مثل هذه الشائعات المدمرة؟
مرشح رابع، ولأنه من الأهمية بمكان، نفرد له حيزاً أوسع لخلفيته ومرجعيته. المرشح المذكور هو اختصاصي في القانون الدولي ويحمل درجة الدكتوراة، كما ورد في سيرته الذاتية، ولاسمه وقع في المحافل الدولية، وهو ينحدر من أسرة مقامها في العاصمة الوطنية أم درمان، لكنه لم يعش في السودان لأكثر من ثلاثة عقود، هي سنوات صباه وشبابه، بسبب انشغالاته الدبلوماسية والأكاديمية والمهنية خارج السودان. عرفه المثقفون السودانيون كمدير عام للمنظمة الدولية لحقوق الملكية الفكرية «الوايبو»، وهي من المنظمات التي استحدثتها الأمم المتحدة، وكسبت أهمية عالية بعد ثورة الاتصالات والمعلوماتية، وللتاريخ، فإن للسوداني كامل الطيب يعود الفضل الكثير والجهد الكبير في إنشاء هذه المنظمة، ورفع الوعي بأهميتها ودورها، ووجد لذلك تقديراً لافتاً على المستوى العالمي. في أصقاع السودان الشاسع، سكان يقيمون فيه قد لا يهم أكثرهم في شيء، مثل هذه الانشغالات «الحضارية»، فيما الفقر يطحن الناس، عند حواف الهامش البعيد. لا معينات التثاقف أو حوار الحضارات أو حماية حقوق الملكية الفكرية التي هي شغل المرشح الرئاسي المستقل القادم من وراء البحار، تهم قطاعات ينهكها البحث عن لقمة العيش في السودان. يشكك الكثيرون ممن يعرفون خلفية الرجل وتفاصيل «إخراجه» قسراً من قيادة تلك المنظمة الدولية المرموقة في تسوية مُذلة بغير شك، في أن يحظى الرجل بمصداقية لنيل أصوات العوام من سكان السودان، حتى وإن جاب القفار والبوادي يروّج لترشيحه، ناهيك عما فعل مؤخراً، حين امتطى جملا عربيا وقف عليه ليخاطب جمعاً رتبه له منظمو حملته الانتخابية !
يبقى السؤال: هل لمفوضية الانتخابات من قدرة على تقييم شخص كالدكتور المذكور، والذي أُجبر للتنحي عن رئاسة منظمة دولية مرموقة، لأسباب تتصل بمصداقيته الأخلاقية، ليجري اعتماده مرشحا ينافس البشير على رئاسة السودان؟
شبهات محزنة في جانب، وطريفة في جانب آخر، لكنها تلقى ظلالاً قوية من الشك على كيفية إدارة الانتخابات من طرف لجنة جرى تكوينها وفق مقررات دستور انتقالي يحكم البلاد، وينتظر أن يمهد لانتخابات عامة يقدر أن تفضي إلى مآلات مفصلية تتعلق بمصير أكبر بلد على خريطة الوطن العربي والقارة الإفريقية. تساءل صحافي سوداني مرموق هو الأستاذ عمر جعفر السَّوري محقاً: هل أجدب السودان وما عاد فيه مرشحون غير هؤلاء؟
هل من ضوء في آخر النفق؟
هل تكون هذه الانتخابات التي سيخوضها السودان خلال أيام قليلة، هي انتخابات الخسارة الكبرى، أم هي انتخابات الربح المبين؟ فيما لو ربحها البشير، وفرصه للفوز تصل إلى ما نسبته مائة في المائة، أمام معارضة مستضعفة غير متماسكة، فإن الأوضاع ستنطوي على خسارات وانكسارات وتشظ، بلا أدنى شك. لا يعرف أحد إلى أي مدى يمكن أن تمضي المراقبة الدولية لهذه الانتخابات، فيما تتهددها التصريحات من طرف الرئيس البشير، وتعرقل مجهوداتها أوضاع لا تساعد، خاصة في دارفور والصراعات تدور فيها على قدمٍ وساق، ولا تزال. من جانب آخر تتحرك أطراف دولية، بينها مبعوث الإدارة الأميركية الفريق غراشون، حراكاً حذرا متأنياً. لكن لنرفع راية التفاؤل عاليا، والتوقعات إلى درجات أعلى، فيتبين الناس رؤية تنقذ البلاد من مصائر مهلكة، ومن انقسامات ماثلة على خطوط الإثنيات المتصارعة، ينتظر العالم والإقليم من حول السودان، كيف سيجري تجاوزها بأقل ثمن ممكن. يكون كل ذلك في المحصلة النهائية، وعلى الصعيدين العربي والإفريقي، خصماً على قضايا الوطن الملحة والمحورية، إذ ان إضعاف السودان، هو في الحقيقة إضعاف لدوره الايجابي المأمول، في دوائر انتمائه العربية والإفريقية والإسلامية. نقول مختتمين هذا المنظر البانورامي لأحوال السودان في منعطف انتخابات خطرة، أن ثمة مخاطر ستنعكس سلبا لما سيؤول إليه حال السودان، على أوضاع هشة في المنطقة. نشير إلى تحديات الأمازيغية في الجزائر، وإلى موريتانيا حيث تتصارع تحت السطح ثقافات عربية وزنجية، وفي مصر حيث يضيق النظام من تململ الأقباط. في لبنان لا تزال الطوائف تلهث بحثاً عما يجمع ولا يفرّق، ما يوحّد لا ما يشظّي، والمقاومة تنتظر على تململ، فيما الساسة على تلاسن وكأنهم لا ينصتون لاستفزازات عدو وقح التوجهات، لا يردعه خلق سياسي ولا وعي بحقوق الناس في الحياة..
ماذا ينتظر الإقليم من سودانٍ محاط بكل ما يتصور المرء من مخاطر؟
هو التحدي يظل ماثلاً الآن وأمام هذا الجيل في السودان، للعمل على ترسيخ إسهامه الإيجابي لبناء هوية السودان، في حلقة من حلقات التاريخ المفصلية، في الإقليم وفي محيطه العربي والإفريقي، بل وفي العالم. على السودانيين التسامي فوق ظلامات التاريخ، لا للتداعي لوأدها خجلا ً أو إخفائها وجلا ً، بل للإقرار بوقوعها، ثم السعي بقناعات صادقة، للوفاء بمقتضيات بناء هوية مميزة، يتخلّق عبرها بلدٌ «سوداني» يلعب دوره الاستراتيجي، موقعاً للتلاقي بين ثقافات شتى تاريخياً، وموقعاً عبقرياً بين قارتين، جغرافياً. إنّ في الهوية السودانية من العناصر الخلاقة وتنوّع طبائعها، ما سيدفع بالسودان وببنيه لتبوّءِ موقعهم المركزيّ في دوائر انتماء السودان، العربية والإفريقية والإسلامية. ليس صعباً أن نرى أن الوحدة والتماسك، الذي عليه الاتحاد الأوروبي وكذا الولايات المتحدة، ما تحققا إلا عبر معاناةٍ وعنفٍ وقتال ونزاعات، كانت فيها مظاهر لتطهير عرقي متواصل لعشرات بل مئات السنين، وأن على هؤلاء الاعتراف أن القارة الأفريقية وجلّ بلدانها، تمرّ الآن في أولى مراحل عملية «بناء دولة المواطنة»، خروجاً من القبلية والطائفية المهلكة. لم تكن الولايات المتحدة كما نراها الآن، هذا المارد الماثل أمامنا، إلا بعد حرب أهلية طاحنة بين شمالها و جنوبها في منتصف القرن الثامن عشر.
تظل الحاجة ماسة لاستظهار ممسكات وحدة قطرٍ كالسودان في عالمٍ - على تعاظم اتصالاته وتواصله - هو على قدرٍ كبير من الاختلاف والتنازع والاصطراعات. هي الرؤية الثاقبة لحقيقة الواقع الماثل، مطلوبة لتنفذ غير آبهة بمعضلات الحاضر وانشقاقاته وتشرذماته، فيتصل كسبها عوناً لتحقيقِ أمل أمةٍ تسعى لتبني ذاتاً فاعلة، متسامحة مع مكوناتها، لها قيمة في حراك التاريخ من حولها وفي اقليمها . بغير هذه الرؤية، يبقى السودان نهباً لأطماع تستفيد من غفلة بنيه ومن تنازعهم، ومن عزوف جيران وإخوة في الوطن العربي بل والأفريقي أيضاً، عن عونه بصدق، فيذهب دور بلادهم وكذا مواردها، هباء منثوراً في قارعة التاريخ.
([) مراقب سياسي سوداني
نقلاً عن صحيفة "السفير" اللبنانية عدد الجمعة 10أبريل/نيسان 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.