ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسكوت عنه في الثقافة السودانية: "الشيخ" كمؤسسة .. بقلم: د. محمد عبدالرحمن أبوسبيب
نشر في سودانيل يوم 27 - 12 - 2020

قدمت هذه الورقة في مؤتمر كتاب "طبقات ودضيف الله" والذي إنعقد في قاعة الشارقة بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، جامعة الخرطوم، في أغسطس 2015. والورقة إسهام، مع آخرين كل من منظوره، لإستكشاف ما يمكن أن يفصح عنه هذا النص التاريخي الفريد من جوانب في الثقافات السودانية وملامح من حياة المجتمع والبيئات الجغرافية والأوضاع السياسية والإقتصادية التي ترد عرضاً في سطوره، وذلك رغم موضوعه الذي أراده مؤلفه أن يكون سرداً لأخبار أولياء وشيوخ عاشوا في عقود مختلفة في دولة الفونج. ونعيد نشر الورقة مع قليل من التعديل والحذف إقتضاه النشر للقارئ العام. كذلك نشير، من باب ضبط المصطلح، إلى ما نعنيه هنا بلفظ مؤسسة institution وهو لفظ إتسع معناه فى الدراسات الإجتماعية، كما هو معروف، ليشمل ليس فقط الوجود المادى القائم للكيانات والهيئات ومشمولها من الأنظمة التي تحكمها ولكن يتضمن أيضاً أنماط السلوك الإنسانى والتقاليد التى نمت وإستقرت مع الزمن وأمكن إدراكها على الدوام ضمن هذا الوجود المادى والتنظيمى.
المسكوت عنه
في كل جماعة هناك جانب من حياتهم مرئي ومتداول وآخر مخفي ومسكوت عنه، وتلك سمة عامة لدى كل الشعوب. ويختلف نوع ودرجة المسكوت عنه في كل ثقافة بإختلاف طابع الحياة الفكرية والسياسية والأعراف والقيم الإجتماعية والأخلاقية السائدة. وفي كل الأحوال، يظل ما هو مخفي وما هو مسكوت عنه جزءاً لا يتجزأ من حياة الجماعة يؤثر بدرجة تزيد أو تنقص في المسلك والقرار وفي ما هو فردي خاص وما هو عام، فهو أشبه بالعقل الباطن الجمعي يؤدي وظيفته في التأثير غير المدرك. وهناك أوقات يتم فيها الإفصاح عن المسكوت عنه في سياق سياسي أو إجتماعي أو ثقافي أو ديني أو مناسبة ذات أهمية خاصة، لكن يظل مدى هذا الإفصاح مرهوناً بالشرط الإجتماعيوالسياسي والقيمي السائد. فمثلاً، في إحتفالها ببداية الألفية الثالثة خصصت إذاعة البي بي سي أحد برامجها لمناقشة قضايا الديانة المسيحية، تطرق فيها متخصصون وشخصيات كنسية ذات رتب عليا إلى أسئلة محورية غاية في الخطورة تناولت حتى هوية المسيح نفسه، وكانت أسئلة وآراء يجري النقاش فيها عادةً في أوساط الدوائر الفكرية رغم تواترها دون شك في أذهان الكثيرين، لكنها لم تأخذ طريقها إلى هذا المنبر الإعلامي العام إلا في هذه المناسبة، كذلك لم يكن ممكناً الخوض فيها إلا في مثل تلك المجتمعات الغربية ومساحة الحرية الفكرية التي توفرها. لكن هناك أيضاً مسارب أخرى مثل المنابر العلمية والأعمال الفنية والأدبية تتكشف فيها صفحات غير مطروقة في حياة الجماعة. وعموماً، تناول المسكوت عنه في أي مجتمع باب معروف في العلوم الإجتماعية وكذلك في كل الأجناس الفنية. من ناحية أخرى فإن التعاطي مع المسكوت عنه يصبح خطوة أولى للكشف عنه، وهو كشف في غالبه ذو توجه نقدي، غايته فهم وتفسير ما هو مطروح. من هذا التوجه الكشفي النقدي يمكننا النظر إلى كتاب الطبقات من جانبين. فهو أولاً، يوثق لطرف من حياة المجتمع السوداني في الماضي، أي زمن ودضيف الله، كطرف "مسكوت عنه" في الحاضر، وثانياً، يهيء الفرصة لمقاربة هذاالمسكوت عنه في إمتداده وإتصاله الزمني حتى وقتنا الحاضر وتفسيره ونقده. نتناول الجانب الأول في الفقرات التالية بالنظر في علاقة الكاتب ودضيف الله بنصه كمدخل يقود إلى جملة من القضايا، ونناقش الجانب الثاني بقدر من الإسهاب بمصاحبة نصوص منتقاة من كتاب الطبقات حول شيوخ أكثر شهرة كمدخل أيضاً يفضي إلى محاولتنا هذه في النقد والتفسير.
محمد النور بن دضيف الله (1727-1810)
النظر إلى الطبقات كنص يحيلنا بالضرورة إلى مخرج النص والبحث في المعطيات والمصادر التي أدت إلى إنتاجه ومن بينها الجانب المتعلق بشخص الكاتب وقدراته. هناك ما يجمع بين كتاب الطبقات ونص آخر معلوم في المكتبة السودانية هو كتاب "حياتي" لبابكر بدري - (لا أعلم إن كان هناك من سبق في هذه المقارنة)- وهو هذه الجسارة البينة في توثيق معان ومواقف إنسانية دون المرور بغربال اللغة والتوقف في كل لحظة أمام الأعراف الإجتماعية والمحاذير الأخلاقية. هذا المستوى من الجسارة أكثر ما نجده عند الفنانين والكتّاب والفلاسفة. ومنبع هذه الجسارة في هذه الفئات يبدو في الجمع بين إمتلاك مستوى من القدرة على التعبير وبين دافع طاغي إلى الإفصاح عن مكنون النفس أو الفكر أو الواقع وتسجيله كما تراه وتعتقد. من هنا نلحظ هذا الطابع الصريح والأمين والواثق في إثبات وقائع التجربة الخاصة في حالة بابكر بدري، وفي إثبات كل ما يقال وكل ما هو متواتر من أخبار وإقراره في النص كما هو حرفياً إن تطلب الأمر في حالة ودضيف الله. ومن هنا يمكن وضع ودضيف الله في موضع الكاتب المبدع بالمعنى الذي نراه في مصطلح "الكتابة الإبداعية creative writing"، ليس بمعيار إمتلاكه ناصية اللغة وفصاحتها، لكن بمعنى القدرة على إستغلاله كسبه منها لإنجاز مشروعه، فأخرج عملاً نادراً أخذ منه الكثير من الوقت والجهد الفكري، وبمعنى إختياره للجانب الصعب من الكتابة وهو الصدق تجاه قناعاته وما يحسه من مسئولية نحو توثيق واقع ثقافي يعيشه. فعملية الإبداع هنا ليست مقرونة بمعيار جنس أدبي محدد – حتى وإن كان أدب السيرة - وإتقان أساسياته وقواعده بقدر ما هي مرتبطة بالفكرة ومصدرها أو الدافع إليها والإصرار على تنفيذها بما توفر له من التحصيل الأدبي والأسلوبي في زمنه وتحت ظروفه وتطويره لأسلوبه الخاص في إخراج النص. في هذا الإتجاه ينطرح السؤال حول الدافع والهدف من الفكرة وتنفيذها عند ودضيف الله.
ربما تفيد المقارنة مع مذكرات بابكر بدري أيضاً في محاولة تقصي شخصية ودضيف الله في موقعها الإجتماعي وعلاقة ذلك بمضمون نصه، ويبدو أن هناك إختلافاً هاماً بينهما إلى جانب ما ذكرناه من تشابه. فعلى ضوء ما ذكرناه حول التوجه النقدي في التعاطي مع المسكوت عنه وكشفه يشك المرء في أن تكون مبادرة ودضيف الله في إخراج نصه هذا مدفوعة بموقف نقدي واعي بمقصده تجاه ما إحتواه النص من أخبار وكرامات مثلما يمكن الإحساس بمثل هذا الموقف النقدي الواعي عند بابكر بدري. فود ضيف الله عاش في القرن الثامن عشر وعقداً في التاسع عشر، وهو بحكم تعليمه ومهنته كفقيه وقاضي ينتمي إلى طبقة إجتماعية صاعدة يصفها بعض المؤرخين بطبقة وسطى ضمت شريحة تجارية أسلاف الجلابة وشيوخ الطرق الصوفية والعلماء خريجي المؤسسات الدينية كالجامع الأزهر. إتسع النفوذ الإقتصادي والسياسي والإجتماعي لهذه الطبقة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وشرعت في إستكتاب النسابة لتأليف أشجار نسب تصلهم بقبائل وأسماء إسلامية كبرى حتى تخلق لنفسها هوية عربية تعينها في تحقيق طموحاتها ولتضيف إلى هالة الإسلام الذي نشطت في تبني مؤسساته وشعائره ليتحول في كنفها، مع الهوية الجديدة، إلى آيديولوجية دينية إستندت عليها، كما جاء في أعمال المؤرخين خاصةً أوفاهي وسبولدنق. وعليه من الممكن الإفتراض بأن ودضيف الله بإخراجه لهذا النص على وفاق مع الحراك العام للتمذهب الصوفي في مجتمعه وتمثلاته في ظهور شيوخ التصوف وأدائهم ودورهم في تلك المجتمعات.
لكن، من ناحية أخرى، تقود هذه المحاولة لإستقصاء الدافع والهدف من إنتاج نص الطبقات إلى تساؤل آخر يحيلنا إلى مستوى آخر من فضاء النص وإمكاناته في مدنا بما يفيد في فهم الواقع الثقافي في ذلك الوقت ومدلولاته وصلته بالحاضر. فما يثبته النص هو تواتر للأخبار والأحداث عبر إسناد شفاهي متصل ربما بعضه مكتوب يعود إلى قرون ماضية. فما هي الضرورات والمتغيرات التاريخية والثقافية التي أفضت إلى هذا الإتصال التاريخي الشفاهي لما أثبته نص الطبقات وكيف نفسرها؟ علماً بأنها ضرورات ما زالت قائمة حتى الآن كما سنرى في الصفحات التالية.
الطبقات من منظور تاريخي
ما يرويه النص عبارة عن كرامات وصفات وأفعال لمائتين وسبعين شيخاً صوفياً جلهم في منطقة جغرافية معينة في الوسط النيلي وعاشوا في فترة زمنية ممتدة لعدة قرون. وما يرويه هي حقائق في معتقد شريحة واسعة من مجتمع تلك المنطقة، وأي محاولة لفهم وتفسير هذه الظاهرة لا بد من النظر إليها ضمن السياق التاريخي الثقافي العام للمنطقة وكيفية مجيء الديانة الإسلامية إليها وأسباب ودلالة إنشغال الناس بالتمذهب الصوفي. وإستدعاء هذا السياق التاريخي هنا، وضمنه التحول إلى الإسلام، هو محاولة مستمرة للبحث في ظاهراتنا الإجتماعية والثقافية، من أقلها إلى أعظمها، على ضوء هذا السياق التاريخي السوداني بهدف التدقيق فيه والكشف عن خصوصيته تجاوزاً للمنهجية التاريخية القديمة وما أوجدته من خارطة تاريخية مبهمة أورثت وعياً خاطئاً بتاريخ المنطقة وأصول وتطور ثقافاتها. فبحسب المعطيات العلمية المتفق عليها، خاصةً ما أرسته علوم الآثار والتاريخ والآنثروبولوجي واللغويات حول تطور الحضارة السودانية وقيام دولة كوش، والتي إزدهرت بين القرن العاشر قبل الميلاد والرابع الميلادي وشملت مساحات واسعة من السودان الحالي، فقد نشأت ديانات وعقائد وتطورت بنيات إجتماعية ونظم إقتصادية ضمن منظومات ثقافية وإثنية شكلت في سيرورتها التاريخية هذا الكيان الثقافي للشعوب السودانية في غناه وتنوعه. تفككت دولة كوش إلى ثلاث دويلات وتحول السكان إبتداءً من القرن الخامس إلى المسيحية القادمة من مصر وظلوا كذلك لعشرة قرون. في القرن السابع، وتحديداً في العام 651 حاولت الجيوش الإسلامية غزو السودان بعد فتح مصر لكنها إصطدمت بمقاومة الدولة السودانية، وترتب على ذلك أن ظل السودان خارج المظلة السياسية للدولة أو الدول الإسلامية في كل أشكالها وعهودها، وظل بعيداً عن مراكز التأثير الثقافي الإسلامي وتجاذبها الفكري والمذهبي. لكن بدأ الإنسان السوداني في التعرف على المعتقد الإسلامي من خلال التداخلات التجارية وقدوم جماعات عربية إلى المناطق الشمالية بحثاً عن الذهب أو المراعي. في بداية القرن السادس عشر نشأ ما عرف بدولة الفونج التي أعادت توحيد الدولة السودانية، ومنذ ذلك الوقت تيسر لبعض المتصوفة القدوم إلى السودان والدعوة لمذاهبهم وانتشر الإسلام تدريجياً عن طريق الطرق الصوفية. مثال ذلك الطريقة القادرية التي كانت من أوائل الطرق الصوفية التي دخلت السودان والتي أسسها تاج الدين البهاري البغدادي الذي إستقدمه من الحجاز التاجر السوداني داوود عبدالجليل في سنة 1577. وهكذا إكتسب الإسلام في السودان طابعاً صوفياً غالباً كان له مردوده الثقافي الذي يعنينا هنا.
لكن لا يجب أن ينظر إلى هذه النقلات فى المعتقد الديني من منظور ذلك المنهج التاريخي الإنتقائي والمتعسف والذي يختزل عمليات التفاعل الثقافي في المنطقة في ثنائية الإسلام وما هو غير الإسلام ليخلص إلى مقولة الأسلمة/التعريب كناتج نهائي لتفاعل ثقافي قوامه إنتصار حاسم لتيار الأسلمة/التعريب، بل وتحويله إلى بوتقة تنصهر فيها كل الثقافات السودانية الأخرى، وبهذا يناقض هذا المنهج كل ما أنجزته العلوم الإجتماعية والإنسانية حول طبيعة عمليات التفاعل الثقافي بشكل عام وكما جرى تطبيقه في الحالة السودانية. ولعل أفضل توضيح لهذا التناقض ماكتبه سبولدنق في نقده للمدرسة التاريخية القديمة وجذورها في فرضيات ماكمايكل مطابقاً بين منهجها وما أسماه بالنموذج الإستشراقي orientalist paradigm في تفسير التاريخ. يصف هذا النموذج ومضاره بالنسبة لواقع الثقافات السودانية وتطورها وإنعكاس ذلك على التعاطي مع راهن القضايا والمشكلات السودانية في ما يلي:
"النموذج الذي يطرحه الإستشراق للتاريخ، كما طبق على السودان في الفترة المتأخرة لإستعماره، نموذج مثالي، بمعنى أنه يختزل الواقع المعقول لكيانين متعارضين ومجسدين يطلق عليهما (العرب) أو (المسلمين) من ناحية و(غير العرب) أو (غير المسلمين) من ناحية أخرى. وهو نموذج شبه داروينى، بمعنى أنه يفترض التفوق الضمني للكيان الأول ... وفي النموذج الحالي والشائه للإستشراق نجد أن التفاعلات التاريخية بين نفس الكيانين المتعارضين والمثاليين تخضع بدورها لعملية تجسيد تحيل هذين الكيانين لكيانين تتحد وجهتهما في عملية توصف ب (الإستعراب) و(الأسلمة). وبينما أن هذين التعبيرين بحد ذاتهما ربما يكونان مجرد وصفين من باب المجاز ولا غبار عليهما عندما يستخدمهما مؤرخون على إستعداد لتفكيكهما لعناصر ذات مغزى موضوعي، نجد أن الإستشراق التقليدي يوظفهما ليلعبا دوراً شاملاً كجوهر شبيه بجوهر النار، وهو جوهر يحشره الإستشراق التقليدي بسخاء في شقوق المادة التجريبية وصدوعها كلما أثير موضوع السببية. إن حيوية النموذج الإستشراقي لم تعتمد في أي وقت من الأوقات على قدرته على إيصال الحقيقة التاريخية؛ إن هذا النموذج قد بقي وإزدهر لأنه خدم مصالح معينة ذات جذور راسخة داخل السودان وخارجه. إنه نموذج يضرّ السودانيين ويؤذيهم لأنه يطرح مشكلات البلد بشكل لا يجعل حلها ممكناً."
وبناءً على هذا المنظور التاريخي الثقافي الأشمل يصبح الدين، أي دين، جزءاً من البنية الثقافية وأي تحول رئيسي فيها لا يجري بمعزل عن أجزاء البنية الأخرى. فتحول الإنسان السوداني من الديانات الكوشية القديمة إلى المسيحية لم يكن بمعزل عن التحولات السياسية والإقتصادية وتفكك الدولة وما إستتبع ذلك من تحولات إجتماعية وفراغ آيديولوجي وأزمة لازمت المؤسسة الدينية. وهذا ما حدث أيضاً مع التدهور العام للدويلات المسيحية وضعف الكنيسة وإحتدام الصراع السياسي في منطقة وسط السودان في نهايات القرن الخامس عشر. وقبل ذلك في القرن الرابع عشر أعلن عبدالله برشامبو إسلامه وهو في سجن المماليك في القاهرة ليتم تنصيبه ملكاً على عرش المقرة في دنقلا وليحول كنيسة دنقلا إلى مسجد في العام 1317. ومن ناحية أخرى هناك قاعدتان تحكمان مثل هذا التحول. فهو أولاً يتم في فترة زمنية ممتدة، وثانياً تجري عملية إستيعاب للدين الجديد ضمن المكون الثقافي المحلي ومنظوماته من المعتقدات والقيم والتقاليد. وهذا ما حدث للإسلام، إذ تنطبق عليه "قوانين" ومقولات التلاقح الثقافي وآلياته أينما حل. وقد كتب أحد مؤرخي الفن الإسلامي المعاصرين مبيناً هذا "القانون" وهذه الآلية في سياق وصفه لإستيعاب الفنون الإسلامية ضمن التقاليد المحلية في الثقافات الأخرى:
"كانت هنالك خلفية ووجود لأشياء قامت عليها أو بسببها ما إبتكره المسلمون، كما أن مستوى تفرد وأصالة العنصر الإسلامي يعتمد على طبيعة وقوة وحيوية التقاليد الفنية المحلية. وبإستخدام مثالاً مشابهاً من الطبيعة يمكن تصور الثقافة الإسلامية عموماً والفن الإسلامي خاصةً كنوع من اللقاح مضاف إلى كائنات حية، أما الدرجة والأشكال التي إتخذها اللقاح فقد اعتمدت في أحد جوانبها على الجسم الذي أضيف إليه اللقاح."
ونجد ما يطابق هذا التشبيه في وصف سبولدنق لحالة الإسلام في القرون السابقة كغلالة شفيفة تتبدي من تحتها عناصر الديانات وملامح الثقافات السودانية المحلية.
على ضوء هذه المنهجية التاريخية الثقافية يمكن الرجوع إلى التساؤل حول الضرورات التاريخية والثقافية التي دعت إلى هذا الإتصال الشفاهي لما جاء في الطبقات. ويمكن بدايةً القول بأن هذا التواصل الإسنادي الشفاهي للأخبار والأحداث والكرامات ممتد بالطبع حتى يومنا هذا، كما أن أشكال الممارسات وأنواع السلوك الراهن هي الحلقة الأخيرة في سلسلة لم تنقطع. ولهذا التواصل الشفاهي والسلوكي منطقه التاريخي المعروف، فهو قائم أصلاً في تواصل البيوتات والأسر عبر الميراث المنظم من خلال إنتقال "البركة" بظهور "كرامة" ما تقنن هذا الإنتقال من رأس السجادة في زعامة الطريقة الصوفية إلى أحد أبنائه ومعها بالطبع أملاكه أو يتم هذا الميراث بالتعيين المباشر من الأب. كذلك ينبغي التأكيد بأن الدخول في الإسلام من باب التمذهب الصوفي لم ينشأ نتيجةً لفراغ روحي بحسب الرؤية الميتافيزيقية في تفسير الأديان ونشأتها، خاصةً وهناك الإعتقاد بأن أي مجتمع غير مدين بإحدى الديانات الثلاث الموحدة فهو في متاهة روحية. فالتحول التدريجي من المسيحية أو من الديانات السودانية المحلية إلى الإسلام جاء نتيجةً لشبكة العلاقات السياسية والإقتصادية التجارية التي بدأت تزداد تدريجياً مع المحيط الإقليمي الإسلامي وظهور تشكيلات إجتماعية جديدة تبلورت في طبقة وسطى في القرن الثامن عشر كما ذكرنا. ونموذج التاجر داوود عبدالجليل ومقابلته لتاج الدين البهاري في الحجاز في موسم الحج ودعوته للحضور إلى السودان داعياً للطريقة القادرية في منتصف القرن السادس عشر خير مثال لشبكة العلاقات هذه. وعليه فإن البحث في هذه الضرورات التاريخية والثقافية في أصل هذا التواصل الشفاهي هو، في الواقع، بحث في إنتاج وإعادة إنتاج الشيخ "كمؤسسة" دينية صوفية، بالمعنى الإجتماعي الواسع لمصطلح مؤسسة والذي يشمل نمط من السلوك مكرس ومستقر وملاحظ. وهذا يعني الشيخ، حياً أو ميتاً، وما إرتبط به من موجودات كالخلوة أو القبة وما إقترن به من مريدين وما إستتبع ذلك من أنماط السلوك والمعتقد والكرامات. ويعني أيضاً البحث في هذه المؤسسة في سياق موقعها ضمن الواقع السياسي الإقتصادي للمجتمع والدوله القائمة، وبذلك يمكن فهم وتفسير هذه المؤسسة في ضوء التطور التاريخي الثقافي العام للمنطقة وشروطه كما ناقشناها في الفقرات السابقة. في الصفحات التالية نحاول تلخيص هذا الفهم والتفسير.
نصوص مختارة
ونبدأ مهمة إستكشاف هذه المؤسسة الصوفية من خلال عينات مختارة من نصوص الطبقات، وهي نصوص تتحدث عن شيوخ معروفين ما زالت قباب بعضهم قائمة يرتادها مريدوهم، كما أن القصد من إختيارهم هو الإشارة إلى نماذج معينة من الكرامات والخوارق ومسلك بعضهم كتمثلات للشيخ. ونضيف إلى جانب كل نص بعض القراءات والتساؤلات "كمجازفات" في تفسيره ومحاولة إستنطاقه قبل أن ننتقل إلى نقاط محددة تلخص مجمل محاولتنا في إستكشاف ظاهرة الشيخ ونقدها. والشيوخ المعنيين هم: حسن ودحسونة ومحمد الهميم وإسماعيل صاحب الربابة "الدقلاشي" وإدريس ود الأرباب وحمد النحلان.
الشيخ حسن ودحسونة 1
يقول النص عن الشيخ حسن ودحسونة المتوفي في سنة 1665م ما يلي : "أحيا عفيشة ولد أبكر، غرق في بحر الخشاب فمكث في البحر ثلاث أيام وانقضى نحبه وقالوا له صلي على حوارك فقال : 'أنا ماني حسن الأول عند سيدي، أنا حواري غرقان له ثلاث أيام ما أخبره.‘ فلما رآه قال له قم فقام فتمالت روحه وتزوج بعد ذلك وولد له ولد أسماه أبكر." ص 143.
ربما يتساءل المرء عما إذا كان في "وقوع" مثل هذه الكرامة/المعجزة في إحياء الميت وتداولها أي أثر مسيحي، فإحياء الميت سابقة دينية على أي حال في ميراث ديني ممتد في المنطقة لعشر قرون، ومن المفهوم هذا التماذج بين تعاليم المعتقد الديني وما يبدعه الخيال الشعبي ويضيفه من خوارق ومعجزات ينسبها إلى الأنبياء والأولياء، وسبب ذلك، كما يقول بعض الباحثين، إما محاولة لشرح وتفسير بعض الأحداث أو بسبب الصراع والمنافسة بين أصحاب الديانات أو المذاهب المختلفة. وفي يومنا هذا تنتشر الكثيرمن الكرامات/المعجزات التي يتداولها أتباع بعض الطرق الصوفية عن شيوخهم لا تختلف في جوهرها عن إحياء الميت. تقول إحدى روايات أتباع الطريقة الختمية، والتي سمعتها من بعض كبار السن، أن الإنجليز جهزوا وليمة فاخرة في القصر لضيوفهم من كبار أعيان السودانيين وفيهم السيد علي الميرغني والسيد عبدالرحمن المهدي (ويبدو أن المقصود هنا هو الوفد الذي ذهب للتهنئة بالإنتصار في الحرب العالمية الأولى) وأن الإنجليز، كما تقول الرواية، فكروا في "إختبار" هؤلاء السادة إذ كانت أصناف اللحوم المطهوه في الواقع لحوم قطط وكلاب. وعندما هم الجميع بالأكل إذا بالسيد علي يأمرهم بالتوقف، ثم يطرق بعصاه الصحون الواحد بعد الآخر ويقول في لهجة آمرة "بإذن الله تقوم" فإذا باللحم المطهو يتحول إلى قط أو إلى جرو واقفاً في منتصف الصحن. إستمعت كثيراً إلى كبارنا يروون هذه الكرامة في سياق تفوق شيخ طريقتهم على البقية وفيهم "ودالمهدي". وهناك رواية تُنسب إلى الأنصار، ربما تتضمن رداً على أتباع الختمية. تقول الرواية أنه حدث خلل ما في طائرة وهي في الجو، وكان ضمن ركابها السيد عبدالرحمن المهدي مما أثار الهلع في الركاب ولم يتمكن العاملين من معرفة مكان العطل، عندها نهض السيد عبدالرحمن وأمر كابتن الطائرة بفتح بابها. خرج السيد عبدالرحمن وصلى ركعتين فوق السحاب ثم عاد ليحدد مكان العطل للعاملين وجرى إصلاحه.
الشيخ حسن ودحسونة 2
يقول النص عن الشيخ حسن ودحسونة : "وجاءت له خادم إسمها مهيوبة قالت له أكتب لي ورقة قبول. كتب لها في الورقة : 'حموزة مهيوبة حمرا مقلوبة، تلعب بها الهوبة في جزاير النوبة.‘ فحظيت به حظاً وافراً. فقدمت فجابتها للجلاد فقراها. فقال لها، من كتب لك هذه الورقة؟ فقالت له : الشيخ. قال لها الشيخ نبزك فيها. فانقطع حظها." ص 146-147.
هذا المسلك من جانب شيخ مثل ودحسونة ما زال له شهرته ومكانته لدى مريديه، لا بد من التأمل في مصادره. فهل هذا المسلك صادر عن حالة فردية خاصة بشخصية هذا الشيخ وتكوينها؟ أم يمكن رده إلى الطبيعة المنفتحة والمتسامحة التي توصف بها المذاهب الصوفية؟ أم أن الأمر راجع إلى جانب أصيل في الثقافة المحلية متعلق بنظرة معينة ضمن المنظومة القيمية الأخلاقية السائدة في التعاطي مع هذه الظاهرة الإجتماعية؟
الشيخ حسن ودحسونة 3
يقول النص عن الشيخ حسن ودحسونة : " سعى العبيد وركبهم الخيل وقال بحرس بيهم سعيتي. والمتواتر عن الناس خمسمائة عبد كل واحد شايل سيف قبعته وإبزيمه ومحاحيره فضة ولهم سيد قوم وجندي وعكاكيز." ص 137.
هنا مؤشر على تراتبية إجتماعية وتمازج شريحتي شيوخ الصوفية والتجار كطبقة وسطى مؤثرة سياسياً وإجتماعياً. وهناك إختلاف في مكانة الشيوخ السياسية والإقتصادية كما تروي نصوص الطبقات. بعضهم فاحش الغنى وله مكانته ونفوذه لدى السلطة في سنار، وبعضهم رافض بل ومحتج على هذا المسلك مثل الشيخ خوجلي عبدالرحمن، ويمكن بالطبع مشاهدة مثل هذه الفوارق بين الطرق الصوفية وفرقها في أيامنا هذه.
الشيخ محمد الهميم
يقول النص عن الشيخ محمد الهميم وهو أول شيخ للطريقة القادرية في منتصف القرن السادس عشر : "واللوم الفعلو الشيخ رضي الله عنه نسوانه يلحقن التسعين، وغصب خادماً هول ناس أربجي إسمها زريقة حسبها سرية، وأخد بنات الشيخ بان النقا أبويعقوب إثنين كلتوم وخادم الله وقال له السيد ما يمنعوه خدمه وجمع بنات أبوندودة في رفاعة إثنين." ص 318.
من منظور تاريخ هجرة الطرق الصوفية ومذاهبها إلى المنطقة، من الصعوبة تصور محمد الهميم عضواً أصيلاً ضمن التيار الملاماتي الذي نشأ في خراسان ونيسابور في القرن الثالث الهجري، فالهميم من أوائل سالكي الطريقة القادرية وهو أول شيوخها بعد مغادرة مؤسسها تاج الدين البهاري للبلاد. وربما أسقطت عليه صفة الملامة هذه في وقت لاحق من قبل أتباع الطريقة، خاصة على ضوء محاولات المريدين، حتى في وقتنا الحاضر، إلحاق هذه الصفة بالشيخ من باب تبرير بعض الأفعال ورفع الحرج عن شيوخهم. من ناحية أخرى، من منظور ثقافي فإن تعدد الزوجات بأشكاله وأحكامه وشروطه المختلفة تقليد متأصل في الثقافات السودانية.
الشيخ إسماعيل صاحب الربابة 1
يقول النص عن الشيخ إسماعيل الدقلاشي صاحب الربابة، وهو شاعر وعازف ربابة: "والنساء التي يتغزل بشعره فيهن هيبة وتهجة. وتهجة هذه جعلية كرنانية. وقال رضي الله عنه في هيبة : 'صب مطر الصعيد وطلق علينا بَرَدو؛ خشم هيبة شبه طيات البحردو؛ تعجبك في الرقيص حين ما تهردو؛ يا هنية من حواها وقضّى غرضو." ص 94.
من المشروع الحكم على الدقلاشي كشاعر من منظور جمالي aesthetic، خاصة ومقولة الإبداع تتسع للبحث في حالته هذه. ودون الإسترسال في تفاصيل لا تتناسب وموضوع هذه الورقة، يمكن القول بأن الدقلاشي، في واقع الأمر، شاعر ناضج طغى فيه درب الشعر على مسالك التصوّف ومقولات التَديّن، فهو قد ترك شاعريته لتعبر عما يجيش بداخله وتسترسل دون كابح حتى تمثلت فيه صيحة حمزة الملك طمبل المعروفة في الشعراء أن "أصدقوا وكفى".
الشيخ إسماعيل صاحب الربابة 2
يقول النص عن الشيخ إسماعيل صاحب الربابة : "وأخبرني تلميذه الفقيه أبوالنور الرياشي قال أول ما تقوم عليه الحالة يمشي في حوشه ويحضر البنات والعرايس والعرسان للرقيص ويضرب الربابة، كل ضربة لها نغمة يفيق فيها المجنون وتزهل منها العقول وتطرب لها الحيوانات والجمادات حتى أن الربابة يضعوها في الشمش أول ما تسمع صوته تضرب على نغمته من غير أحد يضربها." ص 92.
الشيخ إدريس ودالأرباب
يقول النص عن الشيخ إدريس ودالأرباب : "ثم نزل عليه الفيض الإلهي والعلم الرباني فتكلم في علوم الأولين والآخرين والأمم الماضية من غير أن ينظر ذلك في كتاب، فكان أكابر العلماء يكونون بين يديه كالأطفال ولا يوجد له كتاب إلا متن رسالة في علوم الأولين والآخرين وجد في عيبته بعد وفاته." ص 51.
هذا رجل لا علاقة له بالكتاب حتى ما توفر منه في ذلك الوقت، ويمكن المجازفة بالقول بأن هذا دليل على ضعف التحصيل المعرفي لدى كثير من شيوخ الحركة الصوفية في الماضي والحاضر، كما أن هناك الكثير من المبالغة حول الإسهام الفكري للحركة الصوفية في السودان خاصةً بالمقارنة مع بعض رصيفاتها في العالم الإسلامي.
الشيخ حمد النحلان
يقول النص عن الشيخ حمد النحلان : "ومكث في الخلوة إثنين وثلاثين شهراً وشال معاه ثلاث سلقاً قرض وسبع تمرات والخلوة فيها طاقة يناولوه بها الماء وكل ليلة مطالة قدر عين الجمل لفطوره. فلما خرج من الخلوة وجدوا القرض والتمرات على حالها والركوة ملانة ماء فجميع من شرب منها وقع مغشياً عليه وصار ولياً من أولياء الله." ص 162.
ربما تستبطن هذه "الكرامة" رسالة إلى المريدين أو عامة الناس أن من الممكن تحمل العطش ومجالدة الجوع من خلال العبادة، وربما تعكس هذه الرسالة واقع الحياة وبؤس العيش لدى شريحة من المجتمع وقتها.
وفي ما يلي من نقاط نشير إلى عدد من الملاحظات التي تشكل في مجموعها إطاراً نظرياً مكملاً لما سبق نقاشه حول مادة كتاب الطبقات ومحاولة لفهم وتفسير سجل هذا الكتاب ضمن السيرورة التاريخية الثقافية للسودان ودلالات إستمرارية التمذهب الصوفي وموروثه في ظاهرة الشيخ.
أولاً
يمكن النظر إلى الإطار التاريخي الثقافي العام الذي جرت فيه الأحداث والمرويات التي وثّقها كتاب الطبقات بإعتباره مرحلة ركود حضاري عام في المنطقة ومحيطها الإقليمي الإسلامي، وهو ركود حل بالعالم الإسلامي منذ القرن الحادي عشر مع غلبة التيار الأشعري وضمور الفكر الإعتزالي والفلسفي بشكل عام وحتي إحياء السلفية والمذهب الحنبلي على يد إبن تيمية في القرن الثالث/الرابع عشر ومحمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر. وعلى مستوى الواقع المحلي السوداني لم تحدث دولة الفونج نهضة حضارية مؤثرة ولم يتهيأ لها الإستقرار السياسي الكافي لإحياء ما ورثته من الحضارة الكوشية والبناء عليه.
ثانياً
منذ محاولة الغزو الفاشلة من قبل جيش عبدالله بن أبي السرح في سنة 651 م ظل السودان خارج المظلة السياسية للدول الإسلامية المتعاقبة، وظل بالتالي بعيداً عن مراكز التأثير الثقافي الإسلامي وتجاذبها الفكري والمذهبي. وحتى المذاهب الفقهية الأربعة لم يكن لأي منها رافعة سياسية أدت لتجذرها ناهيك عن المدارس الفكرية الكلامية والفلسفية، وساد علم الباطن على الظاهر في الإسلام السوداني.
ثالثاً
صحيح أن المذاهب الصوفية في عمومها لم تكن تسعى لتأسيس نظام سياسي يعبر عنها أو تدعمه كالمذاهب الفقهية السنية والشيعية أو المدارس الفقهية كالمعتزلة والأشاعرة. لكن، في ما أعتقد، عدم وجود مثل هذه المذاهب والمدارس وتحالفاتها السياسية وما ينتج عن ذلك من حراك فكري وآفاق معرفية جعل من الساحة السودانية في تلك الفترة الإنتقالية من تاريخ المنطقة حقلاً متاحاً كليةً لتيارات صوفية وافدة لا جذور لها في المنطقة. هذا الوضع أدى إلى حالة من "الإسترسال الكراماتي" المنفلت في ما هو متواتر من رواية وما هو متخيل أو مخترع.
رابعاً
إلى جانب ما ذكرناه في الفقرة السابقة، فإن ما وصلنا من تصوف، في مجمله، ليس تصوف الحلاج المصادم والناقد للفساد السياسي والظلم الإجتماعي ولا صوفية محمد أحمد عبدالله "المهدي" التي أشعلت ثورة طردت المستعمر، وليس كذلك تصوفاً هروبياً منصرفاً عن مشاغل الدنيا والناس، لكنه تصوف هجر أولى مقامات التصوف وهو الزهد وأقبل على الحياة من واسع أبوابها، خاصةً عندما ولجت أحدث طوائفه عالم السياسة وتبعها كثير منها. ففي القرن التاسع عشر حدث تطور نوعي في مسيرة التصوف وذلك عندما إنتشرت الطريقة الختمية، أحدث الطرق الصوفية الوافدة، وتمددت بسرعة في كنف السلطة التركية ودعمها مما أكسبها جذوراً إجتماعية تحولت مستقبلاً إلى قاعدة سياسية لحزبها. (مؤسس الطريقة محمد عثمان الميرغني وكان تلميذاً لأحمد إبن إدريس. أعلن عن طريقته "الختمية" أثناء وجوده في جنوب مصر حيث إبتعثه أستاذه للدعوة إلى الطريقة الإدريسية، ودخل السودان في 1817 داعياً لطريقته الجديدة. ويعد إبنه الحسن (1819 1869) المؤسس والناشرالفعلي للطريقة في السودان.) كذلك تأسست مع إنتصار الثورة المهدية طائفة الأنصار بقاعدتها الإجتماعية السياسية العريضة منذ البداية. وكانت الطوائف الصوفية الأخرى قد شيدت قواعدها عبر خارطة إجتماعية وإثنية متشابكة. وهكذا أصبح للتصوف في السودان أنيابه وأظافره السياسية والإقتصادية. ويشرح المؤرخ أوفاهي هذا التطور الصوفي في القرن التاسع عشر ضمن سياق تاريخي متصل من الحراك الديني والسياسي كما يلي:
"نفس الأسر أو العشائر التي إكتسبت مكانة في أواخر دولة الفونج مازالت مهيمنة على مركز السودان ... وكلما حدث تحول سياسي وديني كلما جُندت أسر جديدة. لذلك مع حلول الطرق الصوفية الجديدة في بداية القرن التاسع عشر برز عدد من الأسر أو الفروع الجديدة ... و منذ عام 1900 وحتى عام 1947 كان الحوار بين المستعمرين والمستعمرون في السودان وقفاً على البريطانيين والنخبة السودانية الشمالية. كان حواراً فعالاً بين مجموعتين صغيرتين يكنان التقدير لبعضهما البعض، وكانت حصيلته بالنسبة للسودان خلق جيل "حديث" من السودانيين الشماليين لكن بجذور ممتدة في الفونج والتركية والمهدية. جيل إستطاع أن يؤدي وظيفته بشكل كامل في الدولة الإستعمارية."
وكان على رأس ما أضافته هاتين الطائفتين لمسيرة التصوف هو تكريسهما لمؤسسة الشيخ وذلك من ناحيتين: فقد أصبحتا نموذجاً للشيخ الصوفي السياسي تحتذيه بقية الطوائف، وكانتا، من ناحية أخرى، حريصتين كل الحرص، من خلال علاقتهما بقواعدهما، على تبعية هذه القواعد لمؤسسة الشيخ بحجب كل ما من شأنه أن يفتح نافذة حقيقية للوعي والإدراك.
خامساً
إذا تحرينا المزيد من الدقة في إتجاه الفهم والتفسير سنلمح في هذا المستوى من الأفعال والمعتقد الصوفي منطقاً معيناً ووظيفة ودور في النسيج العام لحياة الجماعة يتسق مع درجة الوعي لديها. فالمعتقد الصوفي هنا يصيغ المفاهيم حول نظام عام للوجود، أي بالمعنى الذي يقصده عالم الآنثروبولوجي كليفورد قيرتز في الدين عموماً. فالعقيدة الصوفية هنا تمد صاحبها بتفسير ومعنى كامل للوجود، وتمده كذلك بقيم وأنماط سلوكية مرتبطة مباشرةً بحاجاته اليومية ومشاكله وأشواقه في هذه الحياة. هنا يبرز عنصر آخر في المذهبية الصوفية وهو الطقس وشكله المعبر عن خصوصية الطريقة وإرتباطه بالقبة وصاحبها. يرى المختصون في "علم تكوين الشخصية" Ethology، أن الطقوس rituals ذات أهمية قصوى في وسائل الإنسان للعيش والبقاء. تقول إلين دساناياكي المختصة في هذا العلم، أن الطقس كسلوك إنساني هو وسيلة للسيطرة بالمعنى الواسع الذي يقصد به التأثير في أمور معقدة وفهمها والتعامل معها من أجل تحقيق حاجات مادية وعاطفية ونفسية، كما أن الفنون ذات صلة بغالبية الحالات كوسيلة ضرورية ومؤثرة في بنية الطقس نفسه. فالطقس في شكله اليومي البسيط الذي يؤديه الفرد عند زيارة القبة أو في شكله الإحتفالي في المناسبات المعتمدة لدي الطريقة يتحول في كل مرة إلى مناسبة يتجدد فيها الولاء والثقة في هذا التصور الصوفي للعالم وفي هذه المصفوفة السلوكية العملية في حياة المريدين. فالقبة تصبح مصدر إطمئنان وملجأ ودليل وإعتماد وفرح، ومصدر إلهام جمالي ومظاهره في المدائح والذكر والإنشاد والإيقاعات والأداء الراقص. وتتشعب أبعادها الإجتماعية والإقتصادية بل والسياسية كما حدث في التطور الحديث للدولة السودانية والصراع السياسي حولها.
سادساً
مقاربة الطرق الصوفية من منظور تاريخي ثقافي يتجاوز دورها كحركة دينية وافدة أسهمت في نشر العقيدة الإسلامية إلى البحث في موقعها ضمن السيرورة التاريخية للتطور الحضاري في وادي النيل الأوسط، وأثرها الفعلي في تطور مستوى الوعي والمعرفة لدى قطاع هام من المجتمع السوداني. يمكن القول بأن الحركة الصوفية قد أسهمت أيضاً في خلق وتكريس ثقافة روحانية غيبية لاعقلانية ما زال أثرها قائماً، تبدو تجلياته في تناسخ مؤسسة الشيخ هذه من جيل إلى جيل وكذلك إنسانها الذي أذعن لها وأسلم قياده. ويمكن الربط في هذه الحالة بين واقع الإضمحلال الثقافي الراهن في كل أركانه وبين طبيعة العقائد الصوفية السودانية في إرتكازها على المعين والمجسد، أي القبة وشيخها، دون العقلاني والمجرد، وذلك كوسيط روحي في البحث عن المخارج والحلول. لدينا إذن قطاع من المجتمع أصبح أفراده أقرب إلى العقائد القديمة في جانب أساسي منها وهو، بحسب تحليل قيرتز، كيفية مواجهتها للمشكلات، إبتداءً من الخاص منها مثل المرض إلى العام مثل الصراعات والعنف والسياسة وحتى كرة القدم. وهكذا، ضمن هذا القطاع من مجتمعاتنا الحالية أصبح لكل أسرة شيخ ولكل حلة شيخ ولكل بطن قبيلة شيخ ولبعض فرق كرة القدم شيوخ ولبعض حكامنا شيوخ بعضهم من ذوي "الوزن التقيل" مستوردون من غرب أفريقيا. تعود الأسباب، كلها أو بعضها، في إعتقاد هؤلاء، ليس إلى علل موضوعية أو علمية، حتى وإن وجدت، ولكن لا بد أن هنالك أسباباً خفية أدق وأقوى، وهناك من هم أدرى بها وأقدر على إدارتها والتحكم فيها وعلى رأس هؤلاء شيخ الطريقة المتوفي أو الحي.
سابعاً
على الرغم من كل ما يقال ويعتقد دينياً ودنيوياً حول الشيخ في مجتمعاتنا إلا أن هنالك "ثقافة" متأصلة في هذه المجتمعات غير راضية عنه، بعضها ظاهر وبعضها خفي مسكوت عنه. وتبدو نماذج هذه الثقافة مترسبة في الأدب الشفاهي، نسرد منها نموذجين:
كمثال لما هو ظاهر هناك قصيدة مشهورة للشاعرة شغبة (منتصف القرن 18) تنتقد فيها بشكل حاد أسلوب حياة إبنها، وهنا بعض من أبياتها:
متين يا حسين أشوف لوحك معلّق
لا حسين كتل لا حسين مفلّق
لا حسين ركب للفي شايتو غلّق
قاعد للزكاة ولقط المحلّق
وهنا إشارة غير مباشرة لشيخ الخلوة، كما يبدو التوتر واضحاً بين قيم الفروسية والرجولة والتفاخر وبين حالة القناعة والكسل وفتور الهمة وإنتظار ما يجود به الآخرون (المحلق عملة معدنية متداولة في فترة دولة الفونج).
وكمثال للمخفي من هذه الثقافة الناقدة يقول أحدهم في هذه الأبيات المعاصرة:
ما بصوم أنا ما بصلي
وما بتوب أخرب شبابي
وما بجاور خلوة فكي
ولا حساب الآخرة الله في
وهنا أيضاً توتر واضح بين إنطلاقة الشباب في الحياة وبين الكابح الديني مرموز له هنا بشيخ الخلوة.
ومثال مخفي آخر نعيد صياغته بتصرف في هذه الصيغة من التساؤل المحتج عادةً من جانب أفراد المزارعين تجاه شيخ الخلوة: "هو الفقير فاضي من قطع الجمار؟"
جملة يرددها المزارع في إشارة محتجة إلى تعطّل شيخ الخلوة، كما يراه، وركونه طوال اليوم في الخلوة بدون عمل منتج سوى إنتظار مواعيد الصلاة ورفع الأذان، وذلك مقابل كدح المزارع ومعاناته، خاصة وهناك نصيب من إنتاجه (بلح، قمح أو عيش، الخ) من المفترض أن يوهبها لفكي الخلوة بعد كل دورة محصول.
وما يبدو في هذه النماذج ليس بالطبع إنكاراً لمعتقد ديني بقدر ما هو رد فعل وإحتجاج على مسلك ونهج إنساني معين في الحياة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
//////////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.