توقفت السيارة الفارهة أمام محل تجاري كبير في وسط مدينة الخرطوم ظهيرة يوم شديد الحرارة، وترجل منها "الأستاذ" الذي كان يقود السيارة بنفسه. وقف "الأستاذ" يتلفت يمنة ويسرة وعلامات الرضاء الشديد عن الذات أو الإعجاب الشديد بها المرسومة على وجهه لا تخطئها عين. الوجه نفسه كان يحمل مشروع ابتسامة مصطنعة جاهزة للإهداء لأول من يتعرف عليه(أي يتعرف على الأستاذ) من المارة. بعد لحظات قليلة من الانتظار والتلفت كان له ما أراد فمد أحدهم يده له بالتحية ،دون معرفة شخصية بالطبع، فأمسك "الأستاذ" بتلك اليد يهزها بود ورضاء لا يخلو من التكلف والتصنع. بعد هذه البداية الطيبة دخل "الأستاذ" المحل التجاري. ما إن غاب "الأستاذ" عن الأنظار حتى جاء "حامد" يسعى ووقف بجوار السيارة وهو يكاد يلتهمها بنظراته الجائعة المتكسرة. "حامد" الذي لا يتجاوز عمره الثالثة عشر قادته قدماه لذلك المكان وهو في تجواله اليومي في السوق على غير هدى، ووقف في (الفرندة) أمام المحل التجاري يستمتع بنسمات التكييف الباردة التي تتسرب من الداخل. كان يتابع بفضول شديد "الأستاذ" منذ أن أوقف السيارة حيث هي الآن وحتى اختفائه داخل المحل التجاري. طاف "حامد" حول السيارة يتأمل فيها ثم توقف تماما عند المقعد الخلفي حيث كانت تستلقي كرتونة تفاح أمريكي بلونه المائل للحمرة الشديدة الذي يبدو واضحا من تحت غطاء الكرتونة البلاستيكي الشفاف. تلفت "حامد" يمنة ويسرة عدة مرات وابتعد عن السيارة بضع خطات ثم عاد يشاهد من جديد يطالع كرتونة التفاح التي ترقد أمنة مطمئنة على مرأى منه ومن كل المارة. أخيرا حزم "حامد" أمره وقرر أن يحصل على تفاحة واحدة من هذه الكرتونة. وقف الصبي يعالج باب السيارة الأيسر الأمامي بهدوء وخفة ولكن لدهشته الشديدة لم يكن الباب مقفولا بالمفتاح ولا يحتاج لمعالجة فانفتح بسهولة ومد النصف العلوي من جسمه الصغير برشاقة داخل السيارة وأزاح تأمين الباب الخلفي الأيسر. عاد من جديد فأغلق الباب الأمامي وفتح الباب الخلفي ومد يده الى الكرتونة فتناول تفاحة واحدة ثم سحب جسمه لخارج السيارة وأغلق الباب في هدوء. ما إن فعل ذلك حتى خطر له خاطر بأن تفاحة واحدة لا تكفي فقرر أن يتوج جهد يومه بتفاحة أخرى ، وكان له ما أراد وأغلق ذات الباب الخلفي الأيسر وصعد مرة اخرى إلى "البرندة" ليقف مستمتعا بنسمات الهواء الباردة المتسربة من أجهزة تكييف الهواء داخل المحل التجاري دون أن تلفت مغامرته انتباه أحد. كان حامد غائبا عن ضجيج الشارع والسيارات والسوق والعالم كله من حوله ويمناه مطبقة على تفاحة يقضمها ببطء شديد بمتعة لا يصفها قلم ويسراه مطبقة على تفاحة أخرى، وهو يعيش في دنيا اخرى وعالم غير العالم من حوله، ولكنه بلا سبب مفهوم غادر موقفه وذهب يتكيء على نفس السيارة وهو ما زال يقضم التفاحة بنفس المتعة والبطء. في هذه اللحظات خرج "الأستاذ" من المحل التجاري يرافقه ثلاثة أشخاص و"الأستاذ" لا يكف عن الكلام حتى وقعت عيناه على "حامد" وهو يتخذ من سيارته (اي سيارة الأستاذ) متكأ له. تطاير الشرر من عينيه (أي عيني الاستاذ) وأسرع نحو السيارة وأسرع معه مرافقوه الثلاثة دون أن يدركوا سبب انرعاج "الاستاذ" المفاجيء. "الاستاذ" اكتشف أن السيارة وكرتونة التفاح قد تعرضتا للعبث بفعل فاعل كل الدلائل تشير إلى أنه ليس سوى "حامد" الشقي. صاح "الأستاذ" بدرامية عرف بها : هي حصلت كمان يفتحوا عربيتي أنا؟ (مع التفخيم الشديد لكلمة أنا) أمسك المرافقون الثلاثة بتلابيب "حامد" دون أن يتريثوا لمعرفة التفاصيل، وبادر أحدهم بالسؤال: يا ولد الفتح عربية سعادتو منو؟ كان يمكن للولد أن يقول أنه لا يدري أو يدرأ التهمة عن نفسه بطريقة ما، ولكنه رد بهدوء وصدق وهو يواصل مضغ التفاحة: أنا الفتحتها يا عم. ولكن "العم" بادر الولد بصفعة على وجهه أفلح الولد في تفاديها ببراعة دون أن يتطاير شيء مما كان يواصل مضغه. عاد "الأستاذ" يكرر كلماته بنفس الدرامية: هي حصلت كمان تفتح عربيتي أنا يا ابن ال(.............) ؟ رد "حامد" بنفس الهدوء والثبات: أنا بس كنت عاوز "أضوق" التفاح. حضر شرطي قريب لموقع "الجريمة" . أدى التحية العسكرية للأستاذ. "الأستاذ" هو ممن لحقوا بالركب في بداياته ولم يجد في نفسه حرجا من أن يعلنها على الملأ أن الله سبحانه وتعالى قد من عليه بنور الهداية والإيمان، وكان القوم كرماء معه فلم يبخلوا عليه بالمناصب التي أتاحت له، رغم كثرة اللاعبين، البقاء دائما تحت دائرة الأضواء التي يعشقها. ذهب الجميع لمركز الشرطة القريب. الشرطي و"حامد" ومرافقو "الأستاذ" الثلاثة وسادسهم "الاستاذ". أمام ضابط الشرطة المسئول لم يغير "حامد" شيئا من أقواله ولم يفقد هدوءه ولا تصالحه مع ذاته. فتح السيارة تحت إغراء التفاح . أخذ تفاحتين إحداهما هي التي ما زالت يمناه مطبقة ببقاياها والثانية انتزعها من يسراه مرافقو "الأستاذ" وكان سيأكلها فيما بعد. قال لهم إنها أول مرة يتذوق طعم التفاح في حياته. لم يستطع مقاومة إغراء التفاح ومنظره الآسر وهو يطالعه من داخل السيارة. لم يأخذ شيئا آخر من السيارة ولم يكن يرغب في الحصول على شيء آخر سوى تفاحة واحدة، وإن أمكن تفاحتين. استمع الضابط في صبر واهتمام إلى أقوال وإفادات الجميع بمن فيهم "حامد" التعيس، ثم طلب إليهم إخلاء المكتب ما عدا "الأستاذ" الذي كان جالسا على الكرسي الوحيد أمام مكتب الضابط، باسطا ذراعيه بالوصيد. وجه الضابط الشاب حديثه بأدب شديد للاستاذ قائلا ، بعد تكرار المقدمات والإعتذار، إن الخطأ يقع علي سعادته (أي على الأستاذ) لأنه ما كان له أن يترك السيارة مفتوحة وما كان له أيضا أن يترك التفاح مكشوفا داخل السيارة بتلك الطريقة المستفزة التي تثير المتطفلين والجائعين. ثم تمنى على "الأستاذ" أن يشطب البلاغ ويتنازل عن الشكوى لأن القضية برمتها في نهاية الأمر تافهة ولا يجب أن ترتبط باسم سعادته. قال "الأستاذ" للضابط إن القضية ليست سرقة التفاح ولكنها مبدأ الاعتداء على سيارة من هو في مقامه في وضح النهار وفي قلب سوق الخرطوم، لكن "الأستاذ" لم يملك في النهاية سوى الرضوخ لمنطق الضابط الوجيه بعد أن وعد الضابط بمعاقبة الولد، ثم غادر مركز الشرطة مع مرافقيه الثلاثة وقد اختفت هذه المرة الابتسامة المصطنعة من على وجهه لتحل محلها "تكشيرة" مصطنعة هي الأخرى.ما إن غابوا عن الأنظار حتى خرج "حامد" ،بعد أن تركه الضابط يذهب حرا طليقا ،بلا عقاب، وفي يمناه بقية من تفاحة ما تزال. (عبدالله علقم)