إكتمال الترتيبات اللوجستية لتأهيل استاد حلفا الجديدة وسط ترقب كبير من الوسط الرياضي    تواصل دورة شهداء معركة الكرامة بمدينة رفاعة    كساب والنيل حبايب في التأهيلي    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    كأس العالم.. أسعار "ركن السيارات" تصدم عشاق الكرة    تقارير تكشف ملاحظات مثيرة لحكومة السودان حول هدنة مع الميليشيا    شاهد بالفيديو.. على طريقة "الهوبا".. لاعب سوداني بالدوري المؤهل للممتاز يسجل أغرب هدف في تاريخ كرة القدم والحكم يصدمه    شاهد.. المذيعة تسابيح خاطر تعود بمقطع فيديو تعلن فيه إكتمال الصلح مع صديقها "السوري"    شاهد بالفيديو.. البرهان يوجه رسائل نارية لحميدتي ويصفه بالخائن والمتمرد: (ذكرنا قصة الإبتدائي بتاعت برز الثعلب يوماً.. أقول له سلم نفسك ولن أقتلك وسأترك الأمر للسودانيين وما عندنا تفاوض وسنقاتل 100 سنة)    رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية يهاجم تسابيح خاطر: (صورة عبثية لفتاة مترفة ترقص في مسرح الدم بالفاشر والغموض الحقيقي ليس في المذيعة البلهاء!!)    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    شاهد الفيديو الذي هز مواقع التواصل السودانية.. معلم بولاية الجزيرة يتحرش بتلميذة عمرها 13 عام وأسرة الطالبة تضبط الواقعة بنصب كمين له بوضع كاميرا تراقب ما يحدث    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    انتو ما بتعرفوا لتسابيح مبارك    شرطة ولاية الخرطوم : الشرطة ستضرب أوكار الجريمة بيد من حديد    البرهان يؤكد حرص السودان على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع برنامج الغذاء العالمي    عطل في الخط الناقل مروي عطبرة تسبب بانقطاع التيار الكهربائي بولايتين    رونالدو: أنا سعودي وأحب وجودي هنا    رئيس مجلس السيادة يؤكد عمق العلاقات السودانية المصرية    مسؤول مصري يحط رحاله في بورتسودان    "فينيسيوس جونيور خط أحمر".. ريال مدريد يُحذر تشابي ألونسو    كُتّاب في "الشارقة للكتاب": الطيب صالح يحتاج إلى قراءة جديدة    مستشار رئيس الوزراء السوداني يفجّر المفاجأة الكبرى    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشفافيّة الغائبة في إدارة الشؤون الاقتصادية .. بقلم: محمد الحاج
نشر في سودانيل يوم 17 - 01 - 2021

قد يكون من الصعب إن لم يكُن من المستحيل إيقاف التدهور المُريع في الأوضاع الاقتصادية وظروف عيش الناس، دعك عن تحسينها والنهوض بالبلد، في غياب الشفافيّة. فبالإضافة إلى كونها قيمة تليق بثورة الشعب العظيمة، فهي أيضاً أصبحت مطلباً مشروعاً للناس من حكوماتهم في هذا العصر، الذي اتّضحت فيه المضار البالغة لتغييب المواطنين عما يدور حول مسائل تمسّ صميم عيشهم ومستقبل أطفالهم. فكما أنّك تتوقّع من الطبيب أن يصارحك بطبيعة مرضك، حتى إن لم يكُن لديه العلاج المطلوب له، فمن المُهمّ أن يطلع القائمون على الحكم الناس على أسباب تدهور أحوالهم الاقتصادية ومعائشهم.
يُمكِن أن يتفهّم الناس عدم تمكُّن الجهة التي تتصدّى للقيادة من إحداث طفرة اقتصادية في أوضاعهم، ولكنهم يتوقعون أن يكون لديها على الأقلّ تفسير واضح وسليم لا تُخفيه عنهم، لتراجع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية تحت إداراتها. إيقاف التدهور يدخل في باب أضعف الإيمان، ولا ينبغي أن يبدو وكأنّه يُشكّل تحدياً خارقاً للسُلُطات على هذا النحو الذي نُشاهده الآن.
إذا كانت الحكومة الانتقاليّة تواجِه، على سبيل المثال، حرباً اقتصادية من أنصار النظام السابق والآخرين الذين استفادوا من وجوده، وهذه الحرب الاقتصادية هي التي تُفسِّر تدهور الأوضاع، فلماذا لا تُصارح الناس بلغة واضحة ومفهومة بذلك، وتطلُب مساندتهم؟ الشارع هو الذي ثار ضد الوضع السابق، مُقدِّماً تضحيات جسورة وباهظة ليُعطي الشرعيّة للحكومة الحاليّة، وهو لن يتخلف عن دعمها إذا ما صارحته بخفايا ما يجري، ووثقت به.
وفيما يتعلّق بتدهور الأوضاع الاقتصادية، من المُحزن القول إن نوع المشاكل الاقتصادية التي تُكبّل السودان حاليّاً قد تجاوزتها مُعظم إن لم تكُن كلّ الدول الإفريقية التي كُنّا قبل عقود في أوضاع اقتصادية أفضل منها أو على الأقلّ شبيهة بها. فلا تُوجد اليوم تقريباً دولة غيرنا عجزت عن السّيطرة على التضخّم المُنفلِت، أو دولة تنعدم فيها السلع والخدمات الضرورية بهذا القدر الفادح المُلاحظ عندنا. ربما تجد بعض أو أغلبية هذه الدول صعوبات في وضع خُطط وبرامج اقتصادية وطنيّة تُحقِّق مستويات مرتفعة من النمو الاقتصادي وتُلبِّي أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لأن ذلك يتطلب اكتساب القوى العاملة لديها لمعارف ومهارات عصريّة كبيرة تتطلّب وقتاً طويلاً، بالإضافة إلى مصاعب خوضها لمُنافسة مُحتدِمة على الصعيد الدولي مع دول مُتقدِّمة لها باع طويل في ذلك المجال. لكن كلَّ هذه الدول تقريباً قد خرجت، وأغلبها فعل ذلك منذ عقود، من مستنقع التضخم وانهيار سعر العملة الوطنية وصفوف الخبز والوقود، الذي قبعت فيه لفترة خلال السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، عندما اكتوت بالارتفاع الكبير الذي حدث وقتها في أسعار النفط الدولية.
والسبب في ذلك، أنّ تصحيح الاختلالات المالية والتحكُّم بها لا يحتاج إلى قُدرات فنيّة هائلة أو الاستعانة بالخبراء الأجانب، فهو يتطلّب فقط الإرادة السياسية والعزم في التنفيذ الذي يضمن ألا يزيد إنفاق الحكومة عن الحدود التي تتناسب مع إيراداتها من المصادر الضريبية وغير الضريبية، وألا تُجبِر المصرف المركزي لديها على اتباع سياسة نقديّة توفر التمويل للعجز المالي الحكومي من مصادر غير حقيقية، أي بطباعة النقود، مما يقود إلى إشعال فتيل التضخّم وانهيار سعر صرف العملة الوطنية. والمُحزن في الأمر، أن ننشغل الآن بهذا النوع من مشكلات الإدارة الاقتصادية، والذي كُنّا نتحكّم فيه بسلاسة ويُسر قبل انقلاب الخامس والعشرين من مايو العسكريّ. وبعضنا ما زال يذكر أنّ تلك الإدارة الحكيمة للموازنة الحكومية قبل انقلاب مايو العسكريّ، هي ما سمحت لعملتنا الوطنية بأن تُحافظ على سعر الجنيه السوداني في حدودٍ تقارب أربعة دولارات للجنيه الواحد.
في ضوء ما تقدّم، تجدر الإشارة إلى أنّه نُسِب إلى السيّد رئيس الوزراء في شهر أغسطس من العام الماضي، تصريحاً مُفاده أنّ 18 في المائة فقط من إيرادات الدولة تحت سيطرة وزارة المالية*. وجاء هذا التصريح على خلفيّة المعلومات المتداولة بكثافة المُشيرة إلى أنّ الشركات العسكريّة والأمنيّة مُمسِكة برقبة الاقتصاد السوداني في قطاعاته المدنيّة، وما ترتّب على تلك المعلومات من مطالب بأن تؤول أرباحها إلى الخزينة العامة، كخطوة أولى قبل خضوع هذه الشركات صاحبة الأنشطة الاقتصادية ذات الطابع غير العسكريّ، للإدارة المدنيّة تحت إشراف وزارة المالية الراعية للأموال العامة. ويُذكر أنّ هذه المطالب أثارت حفيظة السيّد رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش، والذي انتقدها وسط جمع حاشد من ضباطه، بعد أن فهم على ما يبدو أنّ هذا هو مضمون تصريحات السيّد رئيس الوزراء حول الموضوع.
في الأسبوع الأوّل من العام الجاري على ما أذكُر، قال السيّد المُستشار الاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء، في لقاء تلفزيوني ما معناه إن السيّد رئيس مجلس الوزراء كان يقصد بتصريحه سالف الذكر ذلك الجزء من موارد البلد الذي يخضع لسيطرة الحكومة. وشتّان ما بين القولين. فإيرادات الدولة، هي ما يدخل إلى الخزينة العامة من المصادر الضريبية وغير الضريبية، أما موارد البلد فهي مفهوم أكبر من إيرادات الدولة، وربما من الأنسب ربطها في هذا السياق بالناتج المحلي الإجمالي الذي يُسهِم فيه القطاع الخاص بالنصيب الأكبر.
وليسمح لي السيّد المُستشار لأقول له إن مُحاولته إعطاء تفسير جديد لتصريح السيّد رئيس مجلس الوزراء لا تتّسِق مع الجزء الآخر من حديثه هو-أي المُستشار- في ذات اللقاء التلفزيوني، الذي ذكر فيه أنّ الإيرادات الحكومية في السودان هي في حدود 6 في المائة نسبة للناتج المحلي الإجمالي، بينما المُعدّل السائد في الدول الإفريقية الشبيهة بنا يصل إلى 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك لأنّ تصريح السيّد رئيس الوزراء كان يدور حول نسبة 18 في المائة كما جاء أعلاه وليس 6 في المائة.
كذلك نأمل في سماع الخبر اليقين من السيد المُستشار أومن غيره من السادة المسؤولين، عن عدد وأسماء هذه الشركات العسكريّة العاملة في المجال الاقتصادي، والقطاعات الاقتصادية المدنيّة التي تنشط فيها، والحجم الفعلي لأعمالها. كما نأمل في توضيح الأثر المُترتِّب على كفاءة الإدارة الاقتصادية للبلد، الناجم عن حجب أرباحها عن إيرادات الحكومة الاجمالية، وبالذات أثرها من حيث الأرقام على درجة القصور الشديد في حجم هذه الإيرادات مقارنة بالدول المُماثِلة لنا، الذي تحدّث عنه السيّد المُستشار وغيره من المُختصّين.
سأحاول في بقية هذا المقال تسليط الضوء على جوانب في الشأن الاقتصادي تستلزم قدراً أكبر من الشفافيّة والوضوح في تناولها:
أوّلاً: لا يُمكِن الاكتفاء بالقول بشكل مُجمل إن الإيرادات الحكومية، والمقصود منها على وجه الخصوص هنا، الإيرادات الضريبية تقلّ نسبتها في السودان بكثير عن النسب المُماثِلة في الدول الإفريقية وغيرها، المُشابِهة لنا في مراحل تطورها. لا بُدّ من توضيح أسباب ذلك.
وكما هو معلوم، هناك أربعة جوانب أساسيّة للإيرادات الضريبية تُحدِّد حجم حصيلتها في البلد المعنيِّ، هي أنواع الضرائب المعمول بها، ومُعدّلاتها، والقاعدة الضريبية التي تُجْبى منها، ومستوى إدارة الضرائب بمعنى كفاءة أساليب تحصيلها وتوريدها للخزينة العامة.
الأنواع الرئيسيّة من الضرائب، هي الضرائب على الدخل والأرباح شاملة الضرائب على دخل الأفراد وعلى الشركات، والضرائب على السلع والخدمات شاملة ضرائب القيمة المُضافة وضرائب المبيعات، والضرائب على الرواتب والأجور، والضرائب على التجارة الخارجيّة وأهمّها الضرائب والرسوم الجُمركيّة.
والسؤال الذي لا بُدَّ من الإجابة عليه بوضوح هو: هل سبب نقص الإيرادات الضريبية هو انخفاض مُعدّلاتها في السودان عن نظيراتها في الدول الشبيهة، أم ضيق القاعدة الضريبية التي تُجْبى منها، أم الإعفاءات التي تُمنح لبعض الجهات منها، أم ضعف الإدارة الضريبية وانتشار التهرُّب الضريبي، أم كلّ هذه الأسباب مجتمعة؟
وبالنسبة للإدارة الضريبية، من المُهمّ، بالإضافة الى النظر في جوانب الضعف التي قد تكون فيها، التّفريق بين المبالغ التي يتم تحصيلها فعلياً من الجهات التي تُفرض عليها الضرائب، وما يصل منها إلى خزينة الدولة، لأن الأمرين قد لا يكونا مُتطابقين. قد يحدُّث تجنيب للإيرادات من قبل بعض الإدارات الحكومية والرسمية وحجبها بالتالي عن الخزينة العامة، كما قد تكون هناك مُمارسات غير سليمة وأشكال أخرى من تسرُّب الإيرادات الضريبية.
لا بُدّ من سعي السُلُطات للحصول على إجابات دقيقة وموضوعية على هذه التساؤلات، وتوضيحها للناس، ومن ثمّ الشروع في إصلاح ضريبي حقيقي يؤدِّي للنتائج المرجوة، ويجيب كذلك على شكوى المسؤولين من انخفاض حصيلة الإيرادات الضريبية في السودان.
ثانياً: عمليّة مُعالجة الاختلالات المالية الحكومية لا يُمكن أن تُركِّز فقط على جانب الإيرادات، مُتجاهِلة الشق المقابل في الموازنة المُتمثِل في حجم الإنفاق الحكومي والآثار المُترتِّبة عليه. وفي هذا الصّدد، وحسب بعض المعلومات المتداولة والتي لست مُتأكِّداً على وجه اليقين من دِقّتها، فإن الإنفاق على الأجهزة العسكريّة والأمنيّة والجهات الدستوريّة، ما زال في حدود ثُلثي الإنفاق الحكومي الإجمالي. وعلى ذكر ذلك، نأمل في أن يوضح لنا السادة المسؤولون، متوسِّط نِسب الإنفاق على الأجهزة العسكريّة والأمنيّة والدستورية في الموازنات الحكومية في الدول الإفريقية، بل وفي سائر بلاد العالم، مقارنة بنسبتها في موازنتنا الحكومية، لنكون على بيِّنة.
ليس من الحكمة أو المنطق تصحيح الاختلال في ميزانية أيّ بلد من خلال العمل على زيادة الإيرادات الحكومية، دون أن يكون ذلك قد تمّ بالتزامن مع مجهودات مُماثلة للحد من الإنفاق الحكومي في القطاعات غير المُنتِجة التي تستأثر به. وليس من الإنصاف تحميل الناس العاديّين محدودي الدخل والموارد، العِبء الأكبر لتصحيح اختلالات مالية واقتصادية لم يسهموا في حدوثها، ولم يستشاروا بشأنها.
الشفافيّة في هذه الناحية لا غنى عنها، فقبل فترة كثر الصّخب حول دعم الوقود بحسبانه العامل الذي أصاب الميزانية الحكومية في مقتل. ولقد تمت إزالة هذا الدعم، ليتحوّل الحديث إلى الكهرباء، والتي أُعلن زيادة أسعارها مؤخراً بقرابة أربعة أضعاف. ومع ذلك، ما زالت العملة الوطنية في غيّها تترنّح قيمتها في الأسواق، والغلاء الفاحش يطحن أفراد الشعب العاديّين الصابرين.
وليس في الأمر عجب. فقضية الدعم، التي لا غنى عن فهمها في إطارها الصحيح الذي يقع في سياق ضعف الإدارة الاقتصادية في البلد، جرى تضخيمها، ربما لصرف النظر عن مصادر الخلل الرئيسية المُتمثِّلة في قصور الإيرادات الحكومية مع الاستمرار في الوقت نفسه في الصرف على الأجهزة العسكريّة والدستوريّة بمُعدّلات لا تتناسب فقط، بل وتتجاوز كثيراً الإيرادات الحكومية. فلا غرابة أن يقود ذلك للاضطرار لتمويل العجز عن طريق طباعة النقود، وما يترتّب عليه من تضخّم يكتوِي أصحاب الدخل المحدود بنيرانه. وينبغي أن يُدرِك الكلّ أنّ استمرار الوضع بهذه الكيفيّة ليس في مصلحة القطاعات التي تستأثر حاليّاً بالنصيب الأكبر من الإنفاق الحكومي في المدى الطويل، إذ أنّ السقف قد ينهار فوق رؤوس الجميع مع تواصل سياسات إفقار أغلبيّة الناس. ولا يصحّ أن يطيب العيش لأحد في بيته الأنيق، والشارع المُلاصق لذلك البيت مُمتلِئ بالحُفر والمطبّات والأوساخ.
وعلى ذكر زيادة أسعار الكهرباء بتلك النسبة المهُولة دفعة واحدة، كيف يُمكن السماح بذلك؟ لماذا انتظرت السُلُطات المختصة كلَّ هذا الوقت إلى أن يصل الحال إلى الدرجة التي تجعلها تُقرّرِ رفع الأسعار ب 400 في المائة لتغطية تكاليف تشغيلها. في مُعظم بلاد العالم الأخرى فإنّ أيّ زيادة في أسعار السلع والخدمات بأكثر من 10 في المائة مثلاً تُقيم الدنيا ولا تُقعدها.
ثالثا: طالما أن المسؤولين يقارنون بين نسبة الإيرادات الضريبية المُنخفضة لدينا بالقياس بالدول الإفريقية، فمن باب أولى أيضاً أن يحيطونا علماً بنسبة استفادة الخزينة الحكومية عندنا من انتاج وصادرات الذهب مقارنة مع الدول الإفريقية مثل غانا وجنوب إفريقيا. سبق وأن صرح بعض المسؤولين بأنّ انتاجنا من الذهب يُقدر بنحو 120 طُنّاً في السنة، مما يضعنا في المرتبة الثالثة بعد جنوب إفريقيا وغانا، إن لم يكُن في الثانية بينهما.
ويقود الحديث عن الذهب إلى أمر مُهِمّ، وهو ضرورة التحلِّي بأقصى درجات الحذر والاستعداد عند تدبُّر أمر الاستثمار في الموارد الطبيعية لدينا، بعد إزالة اسم البلد من قائمة الدول الراعية للإرهاب. يجب أن تكون لدينا سياسة قوميّة تجاه الاستثمار الأجنبي في قطاعات الموارد الطبيعية، هدفها ومحورها الأساسي المُعلن بوضوح للجميع، تحقيق أعظم فائدة مُمكِنة منها لأوسع قطاع من أبناء وبنات الشعب في مناطقهم المُختلفة. وأن تخضع هذه السياسة لنقاش عام وشفاف، لتفادي الوقوع في براثِن الجهات التي دأبت على استغلال دول الموارد الطبيعيّة التي تتّسِم نُظمها السياسية بالهشاشة، وتغيب فيها الاستراتيجيات السليمة والمعرفة الكافية بخبايا هذا المجال المُرعِب. وهو مُرعب فعلاً، لأنّ العديد من دول الموارد الطبيعية عانت الأمرين مما أصبح يُعرف بلعنة الموارد، من حروب وعدم استقرار داخلي. والأمثلة على ذلك كثيرة من الكونغو إلى فنزويلا واكوادور مروراً بليبيا.
الشفافيّة في هذا الجانب لا غنى عنها هي الأخرى. وكم كُنت أتمنى لو أن الحكومة التي أتت بها الثورة أطلعتنا على حجم الأراضي الزراعية التي مُنحت للأجانب، وشروط ومُدد استغلالها والمسؤولين الذين تعاقدوا مع هؤلاء المستثمرين، وفوق كل هذا وذاك، تنويرنا عن الفائدة التي عادت للبلد من هذا النوع من الاستثمار.
إنّ التقييم السليم، أولاً وقبل كلّ شيء، لحجم الفوائد من الاستثمار الأجنبي، قبل الترخيص والسماح له بالعمل في البلد، هو ما كان يجب أن يكون معلوماً بالضرورة. ولكن المرء، عندما يستمع إلى مُقدِّمي البرامج التلفزيونية وضيوفهم الكرام، يُلاحظ أن هناك افتراضاً مُسبقاً لدى جميع المتحاورين بأنّ أيّ استثمار أجنبي هو أمر مُفيد، لا بُدّ من تشجيعه والاحتفاء به. ورغم أنّ الإنسان يتفهّم تطلّع الناس إلى تحُسن الأوضاع الاقتصادية وظنّهم أنّ الاستثمار الأجنبي أيّاً كان سيُحقّق ذلك، بعد أن ضاق بهم السبيل، إلا أنّ الافتراض المُعمّم بأن أيّ استثمار أجنبي يُعتبر بلسماً فيه استِسهال واستخفاف بأمر شديد الخطورة والتبعات.
وأخيراً، وعلى خلفيّة النزاع الدائر حالياً حول منطقة الفشقة الحدوديّة، هالني أن أقرأ لبعض القادة السياسيّين حديثاً مُفاده أنّه يُمكِن السماح للجيران الإثيوبيين بالاستثمار في تلك المنطقة بعد تعيين الحدود. وعلى الرغم من أهميّة علاقات حُسن الجوار، إلا أنّ أيّ ترتيب بهذا الشكل سيُمثل خطأً استراتيجياً سيعيد انتاج المشكلة في المستقبل. فالاستثمار الأجنبي الزراعي الحدودي، خاصة مع الذين يشاطرون البلد الحدود، سيترتّب عليه نشوء أوضاع جديدة مُجتمعيّة وثقافيّة، ومع مرور الزمن قد تقوم قرى ومدن جديدة غالبية أهلها إن لم يكُن كلّهم من الأجانب، مما سيخلق واقعاً مُعقّدا تصعب معالجته.
وتجدر الإشارة على هذا الصعيد، إلى أنّ دولة روسيا، والتي لا يوجد وجه للمقارنة العسكريّة بيننا وبينها، إذ أنّها تملك من الأسلحة النووية ما يكفي لتدمير الحياة في هذا الكوكب، لا تسمح للأجانب بالاستثمار الزراعي في المناطق الحدودية فيها لأسباب أمنيّة. كما أن المكسيك أيضاً تمنع ذلك، وفي ذاكرتها ما فقدته من أراضي لجارتها الواقعة على شمالها.
*: المصدر: قناة الحُرّة وفرانس برس وبعض المواقع الإلكترونية الموجودة على شبكة الإنترنت.
محمد الحاج
يناير 2021
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.