إذا ما كان على النقود أن تعمل كوسيلة دفع مبرئة للذمة في مقابل قطرات الدم والعرق المبذولة من قبل العمال والأجراء وأصحاب الحقوق، كان من الواجب على تلك الشاكلة من النقود أن تحمي حقوق حامليها، بحيث يفترض فيها أن تكون مأمونة في المحافظة على مصالح أولئك الأُجراء وحقوقهم، من خلال عملها كمستودع للقيمة، على الأقل ما بين اللحظة التي تقاضوا فيها تلك النقود كمقابل للأجرة، واللحظة التي يقومون بإنفاقها فيها. ما يحدث في واقع الأمر هو أن الأُجَراء في مقابل ما يبذلونه من قطرات العرق والدماء، أو حتى مقابل مجهودهم الإبداعي الذهني، فإنهم يُنقدون أجورهم ومستحقاتهم من قبل النظام العالمي الجديد بواسطة أوراق البانكنوت، المبرئة للذمة والمسنودة بسطوة القوانين السارية والمفروضة بواسطة النظام. هذا على الرغم من أن أوراق البانكنوت قد ظلت تخضع فيما بعد بريتون وودز لتقلبات وتراجع مستمر في قيمتها التبادلية وأن ذلك قد ظل يحدث بكثافة حتى ما بين ليلة وضحاها. إن التراجع في قيمة الصكوك النقدية من فئات البانكنوت قد يحدث نتيجة لظواهر عدة، معظمها إن لم يكن كلها، يخضع لتحكم عناصر مهيمنة في النظام نفسه، ومن تلك الظواهر على سبيل المثال وليس الحصر، ندرج ما يلي: - المضاربات التي تنشط فيها بورصات تجارة العملة وصناديق الإستثمار المالي، حيث أن عناصر في تلك الصناديق والبورصات يعملون بصورة دائبة في إستخلاص أرباح باهظة لمُشغِّلِيهم من خلال المضاربات ما بين العملات المختلفة شراء وبيعا، وذلك بخلق دوامات وهمية من العرض والطلب (تيكنيكال تريدينغ)، الشئ الذي ينعكس آخر الأمر في تجريد تلك الأموال المحفوظة في حسابات الجمهور كودائع من البانكنوت، تجريدها من قيمتها التبادلية وإضمحلالها بصورة ناعمة وتدريجية، وبالتالي تراجع مردوداتها من خلال ما يكافئها من العملات الأخرى القابلة للتداول. - أي تعديلات تفرضها السلطات النقدية في البلد المعني في سياساتها بصورة روتينية بحيث يتم فيها زيادة المعروض من النقود في الإقتصاد المحلى، أو تخفيض سعر الفائدة على القروض، للحد الذي تنشأ من جرائهِ ضغوط تضخمية وتتراجع بصفة تلقائية القوة الشرائية لمدخرات الجمهور تلك الموجودة بحوزتهم من أوراق البانكنوت، أو كمستحقات مؤجلة ومعاشات، أو تلك التي تقبع لدى المصارف في شكل ودائع مصرفية جارية أو ذات أجل. - قيام السلطات بتشريع وفرض رسوم وفئات ضريبية إضافية الشئ الذي يراكم الأسعار النهائية للسلع والخدمات المتاحة بالتجزئة في رفوف العرض لجمهور المستهلكين، حداً تتراجع بموجبه مقادير وكميات السلع والخدمات التي كان بإمكانهم أن يتحصلون عليها لقاء ما بحوزتهم، في لحظة ما، من الأوراق النقدية. الأنظمة النقدية بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية ما بعد بريتون وودز قد قررت، بالقوة، إبطال العمل بمعيار الذهب كقيد كان يلزم البنوك المركزية ويحدد صلاحياتها في صك وضخ المزيد من العملات وأوراق البانكنوت بموجب إتفاق عصبة الأمم فيما بعد الحرب العالمية الثانية. قررت تلك العناصر المهيمنة على النظام العالمي الجديد في وقت لاحق في بداية السبعينات من القرن المنصرم، إستبدال ذلك القيد بصكوك محررة هي أوراق البانكنوت الملزمة قانونا واعتبارها كأوراق دفع مبرئة للذمة، هذا في الوقت الذي ظلت فيه تلك الأوراق النقدية المتحللة للتو من معيار الذهب، تتراجع بصفة مستمرة في قيمتها التبادلية حول العالم وتفقد في نفس الوقت، خاصيتها التي كانت تتمتع بها كصكوك نقدية أثناء سريان بريتون وودز وما قبلها، ألا وهي خاصية كونها تعمل ك "مستودعات مأمونة للقيمة". ربما ليس هناك ما يدعو للدهشة إذا ما علمنا أن أوقية واحدة من الذهب في أوائل السبعينات من القرن المنصرم، قد كانت تعادل في قيمتها ورقةً واحدة من فئة المائة دولار أمريكي، هذا بينما نفس الأوقية من الذهب يتم تداولها اليوم في بورصات الذهب حول العالم، بما يقارب الألفي دولار أمريكي. إن الأجير الذي سبق أن تقاضي بضع مئات من الدولارات الأمريكية في سني السبعينات، ثم حدث أن إحتفظ منذ ذلك الوقت بتلك النقود كمدخرات في وديعة مصرفية، وأكتفي بما تدره عليه عوائدها السنوية، فإن هذا الأجير قد خضع لعملية نهب وأحتيال جريئة ظلت تتضاءل فيها ثروته بصورة فادحة، بحيث أن ما يعادل ثمانين بالمائة من قيمة الجهد والعرق الذي قام ببذله ومراكمته يوما قد ذهبت أدراج الرياح، وتم فقدانها إلى الأبد. إذا ما تجاهلنا كل ما تم إراقته من الحبر وإهداره ذات يوم، بل وكافة الأفكار التي تم تردادها بحثا عن الإنصاف والعدالة الإجتماعية، إذا ما تناسينا ما كتب عن نظريات فائض القيمة، والأجور التي تكفي فقط أن تحفظ الأُجَراء على قيد الحياة وهم في حد الكفاف. إذا ما تناسينا كل الحقائق والمحاذير التي أطلقها توماس بيكيتي في دعوته لإعادة النظر في تقاسم الدخول والثروات حول العالم حتى يعم السلام ربوع العالم، بعد أن عثر وسط بياناته على براهين في أن كل الثورات العظيمة والحروب التي نكّلت يوما بسكان العالم، كانت قد أعقبت أزمنة وصلت فيها الفوارق في الدخول وتقاسم الثروات حدودا لم تكن محتملة. في كلا الأحوال فإن ما يتم سداده كأجور للعمال، سواء كان في الولاياتالمتحدةالأمريكية أو خلافها، لدليل كاف بأن الحقوق ستظل تهدر على مدار الساعة. يحدث ذلك ويتكرر حدوثه في أي وقت يُنقد فيه العاملون أجورُهم من خلال ما يقابلها من أوراق البانكنوت، بحسبانها تعويضا ملائما ومبرئا للذمة، في مقابل ما يبذلونه من الجهد وقطرات العرق والدماء. إذا ما سيطر علينا ذلك الوهم حيناً من الدهر، وإذا ما قُدِّرَ لحقيقة شائهة كتلك أن تصمد رغم كل الكفاح لمواجهتها وسحقها، فلا أقل من أن نعمل متضامنين على رفع درجة الوعي بوجودها والعمل على تلافيها. إنه لأمرٌ في غاية الأهمية أن يكون سكان العالم على درجة كافية من الدراية تمكنهم من كشف مواطن الخلل والثغرات في النظام العالمي، والتي من خلالها يتسلل أثرياء مهيمنون على سدّة العالم، يعملون على نهب ثروات الناس وحقوقهم مجتمعين وأفرادا، وبصفةٍ راتبة. إنتهى.. عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. المدونة: www.nagibabiker.blogspot.com