"هؤلاء هم وزراءنا وحكّامنا في المستقبل"، هكذا بادرني صديقي بلهجة استسلام للأمر الواقع لا تخلو من السخرية والمرارة وهو القادم من مجتمع خاضع للهيمنة الانصارية. وكان حديثه يشير الى مجموعة طلاب من آل المهدي كانوا يدرسون بالجامعة الاردنية جاءوا للدراسة بها من ضمن حصة سنوية خصصتها الحكومة الاردنية حصراً لطلاب العلم من آل المهدي، وكنا حينها في فترة دراسية بالمملكة الاردنية الهاشمية في تسعينات القرن الماضي. والعبارة تعكس بجلاء ان مفهوم سيادة البيتين الطائفيين في المجتمع قد سيطر تماماً على العقل والوجدان السوداني واصبح ذلك من المسلمات التي لا تدعو للتعجب، والا لماذا استكان صديقي ورضي مستسلماً ان يكون هؤلاء حكامه في المستقبل بينما هو قانع بمصيره في القاعدة بعيداً عن مزاحمة هؤلاء في القمة؟ وهو الذي اتت به عصاميته ومقدراته الذاتية للدراسة بينما هؤلاء جاءوا ضمن حصة كفلتها لهم انسابهم. وهنا بيت القصيد في آلية الفرز المختلة نحو تقلد الوظيفة الدستورية القيادية في السودان، والتي تعمل بشكل معكوس، حيث تمكّن اصحاب النَّسب مهما كانت قدراتهم في تقلد هذه الوظائف، بينما تعمى عن الموهوبين من العامة. فسيطرة مفهوم سيادة البيتين الطائفيين في المجتمع السوداني وتحكم هذا المفهوم في مسار السياسة السودانية منذ مؤتمر الخريجين، وربما قبل ذلك، وحتى الآن، لم يأت من فراغ وانما له جذوره في عمق التاريخ وبدأ في التشكل منذ دخول الاسلام الى السودان. فالطريقة التي دخل وانتشر بها الاسلام في السودان كان لها الاثر الاكبر في سيطرة مفهوم الطائفة الدينية على الوجدان السوداني, فنشاءة البيتين الطائفيين استندت في البدء على البعد الديني الصوفي والذي كفل لهما نفوذ واسع في المجتمع السوداني، تم استثماره لاحقاً من قبل زعيمي الطائفتين في بدايات القرن العشرين بذكاء وبراغماتية لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية ونفوذ مؤثر في شأن الحكم في السودان. فخلال مسيرة طويلة بدأت منذ العام 1445م، توطنت الطرق والطوائف الدينية بالسودان واستطاعت، مستغلةً انتشار الجهل والخرافة، توظيف الدين في ترسيخ مفهوم الطائفية وتجذيرها عميقاً في العقلية السودانية، لتصبح ذات نفوذ كبير على المجتمع، والسلطة الحاكمة علي حدٍ سواء. وتعزز النفوذ السياسي والاقتصادي بصورة اكثر وضوحا لبعض الطوائف والاعيان خلال الربع الاول من القرن العشرين. فكل من طائفة الختمية والتي كان يتزعمها حينها السيد علي الميرغني وطائفة الشريف يوسف الهندي، وطائفة الانصار التي كان يتزعمها السيد عبد الرحمن المهدي، استغلت مكانتها الدينية والاجتماعية في كسب ود الادارة البريطانية والتي كانت في حاجة الى هذه الطوائف في كسب تأييد السودانيين في حروبها اثناء الحرب العالمية الاولى، وايضا في تأييد مواقفها المناوئة لمصر، كما كانت هذه الطوائف وسيلة الادارة البريطانية لبسط سيطرتها في الحكم. فقد كانت اول اشارة لاعتراف الادارة البريطانية بزعماء هذه الطوائف حصرا كقوى حليفة له يمكن الثقة بها للمساعدة في ادارة البلاد، هي تلك الزيارة التي قام بها الوفد المكون من بعض زعماء الطوائف وعلماء الدين ورجالات الادارة الاهلية الى ملك بريطانيا في 1919م بإيعاز من الادارة البريطانية، وخلو ذلك الوفد من خريجي كلية غردون والكلية الحربية. هذا الامر مع العقلية الطائفية التي كانت تسيطر علي المجتمع السوداني، دعّم النفوذ السياسي لهذه الطوائف وجعلها في موضع الوصاية على المجتمع ولاحقا على الاحزاب السياسية السودانية، بل الهيمنة الكاملة على اكبر الاحزاب والقاسم المشترك الاعظم في حكم السودان حتى الان. وعلى خلفية هذا الواقع السوداني الذي تسيطر عليه العقلية الطائفية المتدثرة بالتدين الصوفي، نجد ان النخبة المثقفة من خريجي المدارس وكلية غردون خلال النصف الاول من القرن العشرين، والتي كان يعوّل عليها في تغيير هذا الواقع، لم تنج هي نفسها من سيطرة المفهوم الطائفي الابوي الذي تشكل خلال اربع قرون خلت وحفر عميقاَ في الوجدان والعقل السوداني. فكانت النخب المثقفة مثلها مثل عامة المجتمع مهيأة وجدانياً لمبدأ الوصاية والرعاية من قبل الزعماء الدينيين، مما مكن زعماء الطوائف الدينية التدخل في شئون مؤتمر الخريجين، اول مؤسسة مدنية وطنية سياسية في السودان انشاها الخريجون، وتحويلها الى منبرٍ موالٍ للطائفية. فقد ارتمى مثقفو تلك المؤسسة في احضان الطائفية وتوزع ولاءهم، الا قليلا منهم، بين الطائفتين الكبيرتين، الختمية والانصار. وكان هذا الامر نقطة فارقة في مستقبل السودان السياسي، مكّن للطائفية من بسط نفوذها علي الفضاء السياسي السوداني منذ ذلك التاريخ وحتي الان، واصبحت النخب المثقفة تحت رحمة قوى رجعية طائفية، راضيةً بالتبعية لها وهي تنظر اليها ولكل المجتمع من منصة السيادة. وهكذا ترسخت سيادة البيتين الطائفيين الختمية والانصار في العقل السوداني نخبه وعامته، معلنةَ فشل النخب المثقفة في تحرير المجتمع من وصاية الطرق والطوائف الدينية عليه. يقول المفكر السوداني د. حيدر ابراهيم واصفاً مؤتمر الخريجين وسيطرة الطائفية عليه: "كان ميلاد الأحزاب من أحشاء هذا الكيان المتخلف والمتنافر والذي تخلى بناته عن أهم مبادئهم: محاربة الطائفية. وقد مهدوا للطائفية بكل رجعيتها وتقليديتها أن تكون الحاضن لظاهرة حديثة هي الأحزاب. وخرج لاحقا من هذا التعميم أحزاب صغيرة شكلتها القوى الجديدة المعارضة للطائفية وشبه الإقطاع. ولكنها ظلت محدودة الجماهيرية حتي اليوم، وذلك لأن الكتلة الضخمة من الخريجين الإنتهازيين وقفت مع الطائفة المحتضرة، وظلت تنفخ فيها الحياة كلما حان أجلها" [1]. كما يضيف واصفاً خضوع النخب المثقفة المنتمية لمؤتمر الخريجين للطائفية ومآلات ذلك: "... كانت لحظة الهروب من مؤتمر الخريجين الي أحضان الطائفية هي اللحظة التي وقّع فيها المثقف السوداني صك انهياره، وقد تكلل مشروع الهرب بالخيبة التي لا زالت مستمرة الآثار، إنها اللحظة التي قطعت الطريق علي المشروع العلماني في الحياة السودانية وفتحت الباب أمام النفوذ الديني الذي تسترت به الطائفية " [1]. اصبحت النخب السياسية السودانية منذ ذلك الارتماء في احضان الطائفية خاضعةً خضوعاً تاما لها، وارتضت ان تكون تحت هيمنة النفوذ الطائفي ومنقادة له بدلاً من ان تكون قائدة لعملية تغيير المجتمع وتحريره من ربقة الطائفية. واصبحت الزعامات الطائفية هي صاحبة الكلمة العليا في توجيه الفضاء السياسي السوداني والمتحكم الاول في تحديد مساره بعد ان وضعت النخب المثقفة تحت عباءتها الطائفية. فهذه السيطرة الطائفية والتبعية الانتهازية من النخب المثقفة هو ما شكل واقعاً مختلاً في المشهد السياسي السوداني وعلي وجه الخصوص فيما يتعلق بالمنصب الدستوري ومتطلباته. فالبيتين الطائفيين هما من يتحكم في تشكيل ممثلي الشعب في البرلمان، وهما من يتحكم في تشكيل الجهاز التنفيذي، ودائماً المرجعية في شغل هذه الاجهزة ليست الكفاءة او المؤهلات وانما الولاء لزعيم الطائفة. فزعيم الطائفة هو حجر الزاوية للطائفة وللحزب معا ويلتف حوله الجميع ومكانة أي من منتسبي الحزب تحدد بمدي القرب والبعد من الزعيم، وعلي هذا المعيار يكون الفرز في تقلد الوظائف داخل الحزب او في الحكومة. وهذا الامر يفسر بوضوح لماذا نجد ان مدخل الوظيفة الحكومية لأبناء الطائفتين الكبيرتين في السودان لا يقل عن وزير او نائب برلماني او عضو في راس الدولة او مساعداً للرئيس او حتي رئيسا للوزراء، هذا بغض النظر عن المؤهلات وملائمة الوظيفة لمقدرات هؤلاء. فوزيرة خارجية الثورة في الحكومة الانتقالية الثانية ليست استثناءً ولم تكن اول من يتقلد مثل هذا المنصب الدستوري كأول وظيفة له في العمل الديواني الحكومي، فهذا امتداد طبيعي لما ظل يمارس في الديمقراطيات السودانية بفضل خضوع النخب السودانية لمسلِّمة سيادة البيتين الطائفيين. في اول ظهور اعلامي لها تعرضت وزيرة خارجية السودان لانتقادات واسعة على اداءها وتصريحاتها التي ادلت بها. ويرى المنتقدون ان اداءها عكس تواضعاً بيّناً في الالمام بأبجديات العمل الدبلوماسي، كما ادلت بتصريحات خلال المؤتمر رأى الكثيرون انه تفريط في سيادة السودان على اراضيه. ولعل في هذا الانتقاد ظلماً بيّناً في حق الوزيرة، فهذه هي مقدراتها في حقل الدبلوماسية وهي لا زالت تتلمس طريقها في هذا المجال، وهو اول منصب دستوري لها، فالمشكلة ليست مشكلتها وانما هي في المقام الاول مشكلة خضوع العقل السوداني لسيادة البيتين الطائفيين التي ظلت تسيطر على السياسية السودانية منذ بدايات تشكل الحركة السياسية السودانية في ثلاثينيات القرن الماضي الى يومنا هذا. فوزيرة الخارجية ما هي الا ضحية للممارسة السياسية المختلة في السودان التي تسيطر عليها عقلية الولاء الطائفي الاعمى، والتي تجعل من آل البيتين الطائفيين خارقي المقدرات لأي وظيفة دستورية، بحيث يمكن لأي منهم و دون أي خبرات سابقة لمتطلبات الوظيفة، ان يصبح رئيساً لمجلس السيادة (راس الدولة)، او رئيسا للوزراء، او مساعدا لرئيس الجمهورية، او وزيراً للخارجية، او الصناعة، او الداخلية، فقط لأنه من احد البيتين بغض النظر عن اهليته للمنصب. وهذا ما حدث لوزيرة الخارجية، فقد دفع بها حزبها من ضمن حصته الوزارية لهذا المنصب فقط لأنها من آل البيت الطائفي الكبير وليس لأنها اهل له، فسيرتها تقول انها حاصلة علي بكالوريوس من كلية الطب من الجامعة الاردنية، وربما أتيحت لها فرصة الدراسة هناك ضمن الحصة المحددة لآل المهدي. ثم تحصلت علي الماجستير من جامعة ليفربول ثم ماجستير من جامعة الاحفاد وبكالوريوس القانون من جامعة النيلين، اضافة الى نشاط مجتمعي مدني ورياضي وسياسي ونضالي ضد النظام البائد كقيادية بحزب الامة القومي [2]. ولكن هل تشفع لها هذه المؤهلات لقيادة الدبلوماسية السودانية كوزيرة للخارجية؟ وهل عقم الحزب الكبير واصبح خالٍ من الكفاءات في مجال الدبلوماسية ليدفع بمن لا خبرة له في هذا المجال؟ فالعمل الدبلوماسي يحتاج لأدوات وملكات ثم لدربة في اروقة الدبلوماسية، ولا يكفي فقط الحصول على مؤهلات اكاديمية مع الانتماء لاحد البيتين الطائفيين والنشاط الحزبي، الا ان يكون الغرض هو استغلال الفترة الانتقالية للتدريب والاعداد للمستقبل. فلا يعقل مثلاً ان نأتي بمن لا يعرف السباحة ونقذف به في النيل ونطلب منه ان يسبح الي الضفة الأخرى دون إخضاعه للتدريب اولاً على السباحة. ففي حقيقة الامر فالوزيرة لا ذنب لها فقد قذف بها حزبها في النيل طالباً منها العبور الي الضفة الأخرى وهي لم تتدرب بعد على السباحة. فهي ليست الا ضحية خضوع النخب السودانية لمسلِّمة سيادة البيتين الطائفيين على الشأن السياسي السوداني، والخاسر الاكبر كما ظل دائما هو السودان هذا البلد عاثر الحظ الذي ظل حقلاً للتجريب والتدريب علي الوظيفة الدستورية لأبناء البيتين الطائفيين منذ استقلاله وحتي الان. سمير محمد علي 11 مارس 2021م عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. المراجع: [1] http:// http://www.sudanile.com/index.php/%D9%85%D9%86%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A/124-6-8-2-3-2-7-8/43845- في الثلاثية .. بؤس الحاضر (2).. بقلم: د. حيدر إبراهيم علي [2] https://www.mariamalmahdi.com/%d9%85%d9%86-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%af-%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%b5%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%87%d8%af%d9%8a/ من سيرة د. مريم المنصورة المهدي | الدكتورة مريم المنصورة المهدي. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.