لقد منحت الإنتخابات الحكومة كوباً نصف ممتلئ و المعارضة كوباً نصف فارغ فلماذا لا نجعل كوبنا واحداً فيمتلئ بالخير و يترع؟ هل لا تزال كلمات و مصطلحات مثل "الوطن"، "الوطنية"، "الشعب" و "ما يريد الشعب" في قاموسنا و جزءاً من ثقافتنا أو أدبياتنا السياسية أم عفا عليه الدهر و غدت نسياً منسيا ؟ ***** استعرض المقال السابق المشهد السوداني و ما يتصل به في مرحلة ما قبل و أثناء الإنتخابات و يأتي هذا المقال كمحاولة لاستقراء ما بعدها. لنبدأ بالذين يعرفون ماذا يريدون و كيف يصلون إليه، الذين يخططون و ينفذون و الذين يفعلون و لا ينفعلون ..... و من هم سوى "الغربيين". وافق "الغربيون" على إجراء الإنتخابات بأي شكلٍ كان لأن ذلك أمر يخدم رؤاهم المتعلقة بالسودان، و قبل أن تظهر نتائجها تماماً أصدروا و بنَفَسٍ واحدٍ و بذات الصيغ و التعابير حكمهم عليها المحسوب بدقة شديدة و المفصّل بعناية فائقة و الذي يصب بطبيعة الحال في خانة خدمة مصالحهم و يتماشى مع ما يخططونه لجنوب السودان مع الحرص الشديد و الحذر الفائق على ألا يسدي ذلك الحكم أي خدمة للحكومة و حزب المؤتمر الوطني الحاكم أو الرئيس عمر البشير. لم "تبرِّد تصريحات "الغرب" بطن الحكومة" و أعطت الإنتخابات الحد الأدنى من المرور المشين و الذي هو في نظام رصد الدرجات في النظام التعليمي في "الغرب" الحرف (s) الذي يرمز إلى (satisfactory) بل إن بعض التقارير أعطاها أقل من ذلك أي الحرف (N) الذي يعني (needs improvement) و لولا الخشية من أن يُضار مخطط "الغرب" الذي لم يتحرج في الإفصاح عنه و القاضي بفصل الجنوب، لمنح الإنتخابات أكبر مفتاح إنجليزي لديه أي الحرف (F) رمز الفشل الذريع و لأوجد المسوقات و المبررات لحكمه. ليس هذا فحسب، ما أصدره "الغرب" من حكم ليس بالنهائي و سيظل مسلطاً على الحكومة كسيف "ديموكليس" و قابلاً للتعديل، باتجاهٍ واحد فقط، وفقاً لما يقتضيه الحال و يتطلبه سلوك الحكومة و حزبها في المرحلة القادمة. هذا و من غير المتوقع أن يُحدث إجراء الإنتخابات أو نتائجها أياً كانت تغييراً حقيقياً في موقف "الغرب" من السودان الشمالي. أما بالنسبة للعارفين بدرجة أقل لكن أفضل نسبياً من غيرهم من كافة الكتل السياسية السودانية أو "المُعرفين" بماذا يريدون و أعني بذلك "الحركة الشعبية" فإن موقفهم من الإنتخابات ظِلٌّ لموقف "الغرب" فهم لا يكترثون لما ينوب أو يصيب الشمال منها و لا تهمهم إلا بالقدر الذي يضمن استمرار الطاقم الحاكم في الجنوب الآن في الحكم و التزام الفائز في الشمال بالاستفتاء موعداً و نتائجاً. أما عن العلاقة بالشريك – و ياله من ابتذال للمصطلح - و بأحزاب الشمال و "تجمع جوبا" و غيرهم فسوف يكون الحال كما يقول "الغربيون" (business as usual) أي العودة لامتطاء أحزاب الشمال و استغلال ضعفها و حاجتها للإستقواء ب"الحركة" أمام "المؤتمر الوطني". و عينها و قلبها على حسم القضايا الخلافية لصالحها، سوف تعود الحركة للإبقاء على "المؤتمر الوطني" و الحكومة على "الطوَّه" مستغرقين، منهمكين و منهكين في مناوشات لا تنتهي و سوف يستأنف نافخا الكير "عرمان" و "باقان" عما قريب "الإرسال" بعد التعديلات التي يقتضيها الحال. ما تقدم يجعل "الحركة" الرابح السوداني الأكبر إن لم يكن الوحيد من الإنتخابات لأنها فكرت و قدرت و دبرت و استمعت و انصاعت و لا تزال. أما بالنسبة للأحزاب غير المتحالفة فيصدق فيها، شاءت أم لم تشاء أدركت أم تدرك، قوله تعالى "عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم". لقد أتاح إجراء الإنتخابات للأحزاب أن تفيق من سباتها العميق و أن تنفض عنها غباراً تراكم لأكثر من عقدين و أن تشرع في شحذ و تجريب أسلحتها التي ران عليها صدى السنين. لم تمض الأحزاب لآخر الشوط و لم تخض المباراة " لأن ركبها لم تسعفها" غير أنها أجرت مراناً لا بأس به و الأهم بكثير من كل هذا و ذاك أن الإنتخابات فتحت للأحزاب و غيرها نافذة حرية تعبيرٍ و حركة لم تكن متاحة بل لم تكن الأحزاب تظن أنها ممكنة من قبل. شاءت السلطة أم لم تشاء أدركت أم تدرك، لقد أطلقت الإنتخابات مارد الأحزاب أو جنيِّها من قمقمه و لن يكون من السهل كما هو ليس من الحكمة محاولة إعادته إليه. بعبارة أخرى "شمت الأحزاب الدم" و هذا ما يفسر من جهة جرأتها على الحكومة هذه الأيام و من جهة أخرى لهجة حزب الحكومة المهادنة. لم تُكسب الإنتخابات الأحزاب مقاعد أو مواقع لكنها أكسبتها تجربة و جرأة و مواقف و سيكون مكسبها أكبر لو عرفت كيف توظِّف كل ذلك بلا تهور أو تسرع أو استفزازٍ للآخرين و بفطنة و مسؤولية و ..... وطنية. "بالمناسبة، هل لا تزال هذه الكلمة موجودة في قاموسنا؟؟ أما بالنسبة لصاحب العرس، المؤتمر الوطني فسوف يحاول أن يقنع نفسه و الآخرين بأن العرس، لم يكن "حفل الموسم و كل موسم" الذي يريد، لكنه قد تم. لم يشارك كل الأهل في العرس و لم يزجِ المعازيم "الأغراب" من الثناء ما يُطرب و حتى الطهاة افسدوا بعض الطبخات و توزيع الأطباق، و لنعطهم هنا “the benefit of doubt" لكن ما حدث "يتسمى و يتحسب علينا عرساً". الذي لا شكَّ فيه أن مقاطعة بعض الأحزاب و حدوث بعض الأخطاء أثناء العملية الإنتخابية و تقييم "الغرب" قد أفسد بهجة الإنتخابات و خلط حلوها بغير القليل من المر مما يفرض على الحكومة التحلي بالواقعية و بالصبر و بالكثير من الحكمة لتغليب و إبراز ما هو إيجابي من الأمر و ما يمكن أن يعود بالفائدة على الوطن و المواطن و يسجل بداية عودةٍ حقيقيةٍ و جادةٍ للحياة و الممارسات الديمقراطية. أعرب أركان حزب "المؤتمر الوطني" عن توجه الحزب للابتعاد عن الإحتفال ب"النصر" بصورة استفزازية و حسناً فعلوا و راعوا قوله تعالى " لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور" لأنهم لو يعلمون إن ما آتاهم أمانة تشفق منها الجبال. غير أنه هناك أمور أكثر أهمية و جوهرية من الجانب الإحتفائي العارض من بينها مواصلة السير بصدق و جدية و تجرد على درب الديمقراطية و سلك مسالكها وعدم النكوص عنها بأي حال و من بينها أيضاً توسيع مواعين المشاركة الحقيقية و ليست الشكلية في الحكم و في معالجة القضايا خاصة ما هو ملح منها و ما يكتسب صفة القومية. قد يُسكر خمر النصر بعض العقول فتزين لها نسبة الدعم الشعبي التي حصلت عليها الانفراد بالأمر و الحكم بقبضة حديدية. سوف يكون ذلك حماقة و انتحاراً سياسياً و خذلاناً للشعب الذي يريد أمناً و سلاماً و استقراراً و تضامناً لحل مشاكله. و بالمناسبة هل لا تزال مصطلحات مثل "الشعب" و "ما يريد الشعب" جزءاً من ثقافتنا أو أدبياتنا السياسية؟ في المقابل تريد بعض القوى المعارضة أن تصعِّد رفضها لنتائج الإنتخابات بالتظاهر على الطريقة الكينية أو الإيرانية أو التايلاندية بل أن بعضها يتحدث عن إسقاط الحكومة عن طريق الانتفاض الشعبي. ليت الأحزاب تدرك أن غريمها في هذه الحالة، بغض النظر عن سلامة أو صواب موقفه، ليس بالغريم الهين و لن يقف مكتوف الأيدي أو يدير الخد الآخر فمثلما لها أنصارها له أنصاره و ليت الجميع يعون أن أي تصعيد من أي طرف يعني المضي مع سبق الإصرار و الترصد على درب "الصوملة" و "البلقنة" و "العرقنة" و ليتهم يعلمون أن الشعب المنسي و المغيَّب في كل هذا و صاحب المصلحة الحقيقية لا يريد شيئاً من ذاك و لا يحتاجه. لنتدارك الأمر و نتجنب فتنة لن تصيب الذين ظلموا خاصة. لقد منحت الإنتخابات الحكومة كوباً نصف ممتلئ و المعارضة كوباً نصف فارغ فلماذا لا نجعل كوبنا واحداً فيمتلئ بالخير و يترع؟ ليت الحكومة و المعارضة يحسان بنبض الشارع و يسمعان غمغمته و دمدمته فالذي لا يسمع لا يرى و سوف يتنكب جادة الطريق و يضل السبيل ثم "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا". قد يبدو الأمر صعباً لكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم و ...... كلّ ما لم يكن من الصعب في الانفس سهل فيها اذا هو كانا ومراد النفوس أصغر من أن تتعادى فيه وان تتفانى *****