شاهد بالفيديو.. كواليس حفل زواج الفنان عبد الله كنة.. إيمان الشريف تشعل الفرح بأغنية (الزول دا ما دايره) ورؤى نعيم سعد تظهر بأزياء مثيرة للجدل والمطربون الشباب يرقصون بشكل هستيري    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة شهد المهندس تشعل مواقع التواصل بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها بأزياء مثيرة للجدل ومتابعون: (لمن كنتي بتقدمي منتصف الليل ما كنتي بتلبسي كدة)    شاهد بالفيديو.. كواليس حفل زواج الفنان عبد الله كنة.. إيمان الشريف تشعل الفرح بأغنية (الزول دا ما دايره) ورؤى نعيم سعد تظهر بأزياء مثيرة للجدل والمطربون الشباب يرقصون بشكل هستيري    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى الى ثورات الربيع العربي" .. بقلم: أ.د. أحمد محمد احمد الجلي
نشر في سودانيل يوم 01 - 04 - 2021


بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة في كتاب "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى الى ثورات الربيع العربي"
المؤلف: الدكتور / محمد مختار الشنقيطي
الناشر: منتدى العلاقات العربية الدولية"- الدوحة- العام 2018م.
الحلقة الاخيرة (4/4)
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
هذه محاولة لعرض كتاب " الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى الى ثورات الربيع العربي"،,للدكتور /محمد مختار الشنقيطي.على أمل مشاركة القراء في الإطلاع على ما ورد فيه من أفكار وآراء، أحسب أنَّها تستحق الإهتمام والمناقشة،وتبادل الآراء، وإجراء الحوار حولها.
تناول القسم الأول من الكتاب-كما استعرضناه في المقال الأول ::قيم البناء السياسي وقيم الأداء السياسي، في الإسلام ،ومكونات ذلك البناء وآلياته.ويتناول القسم الثاني من الكتاب-كما عرضناه في المقال الثاني : مسار ذلك البناء في التاريخ، الذي مرت به الدولة الإسلامية،منذ بذرتها الأولى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام،وخلفائه الراشدين،وما واجهته الدولة الناشئة من عقبات عطلت مسيرتها او أعاقت نموها الطبيعي، وانحرفت بها عن تلك القيم.كما شرح باستفاضة الأسباب التاريخية التي كانت وراء الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية .
اما المقال الثالث من هذه السلسلة من المقالات فعرض للقسم الثالث من الكتاب،حيث حاول الكاتب رسم الخطوط العريضة للمسارات التي يتعين سلوكها من أجل إخراج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية من خلال التركيز على مسارين للخروج: مسار الإنتقال من الفتنة الى الثورة،الذي قدمناه في الحلقة الثالثة من هذه القرءاة .وتتناول هذه المقالة الرابعة والأخيرة، ترجمة القيم السياسية الإسلامية الى مؤسسات وإجراءت دستورية معاصرة.والتي عالجها المؤلف تحت عنوان :رؤية للخروج من أزمة الشرعية السياسية في الحضارة الإسلامية.
وضع المؤلف عنواناً لهذا الفصل :من القيم الى الإجراءات. واقترح للخروج من الأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية-توفر طريقين: الأول: "تفعيل القيم السياسية الإسلامية المنصوصة في القرآن والسُنَّة، بترجمتها إلى قواعد دستورية عملية منسجمة مع مقتضيات الدولة المعاصرة، والشروط الإجتماعية للزمن الحاضر" ، وذلك بعد "تجريد هذه القيم من غواشي التاريخ، ثم ربطها بالزمن المعاصر، وربطها بالمنعرج الأخلاقي والسياسي الذي تعيشه البشرية اليوم".
أما الطريق الثاني، فهو إستعادة القيم السياسية الإسلامية، وما يعنيه ذلك من ضرورة تحريرها من إرث الفكر الإمبراطوري والتمييز بين القيم الإسلامية التاريخية وتلك المعيارية التي يجب تفعيلها في الزمن الحاضر، وترجمتها إلى معايير واضحة في الدولة الإسلامية المعاصرة. وهذا يتطلب أولًا تحديد القيم السياسية الإسلامية من القرآن والسنة، ومن ثم ترجمتها إلى مواد دستورية، ثم البحث بعد ذلك في القضايا الإجرائية والإدارية الخادمة لتلك القيم".
ويستلزم ذلك تصالح المسلمين مع بقية البشر والتحرر من هواجس الخصوصية المفرطة التي تحرمهم من التفاعل مع الخبرة السياسية الإنسانية.والتطور السياسي الإنساني الذي أصبح يخدم تفعيل القيم السياسية الإسلامية،على عكس الحال مع ثقافات الإمبراطوريات العتيقة.
كما يستلزم انتقال العقل الفقهي الإسلامي من سياق التاريخ الإمبراطوري الذي كانت الدولة فيه تتأسس على قاعدة المشاركة في العقيدة الواحدة ، الى سياق الدولة العقارية المعاصرة التي يتأسس عقدها الإجتماعي على الوحدة الجغرافية. فالسبيل الى تصحيح الإنحراف السياسي هو التشبث بالقيم السياسية الإسلامية كما وردت في الوحي ،والتحرر من مواريث صفين السياسية السلبية. اضافة الى الإستفادة من التطور البشري المعاصر لترجمة القيم الإسلامية السياسية الى مؤسسات وتشريعات واجراءات بعد أن تعطل مفعولها خلال القرون.وأول الشروط لإخراج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية واستئاف مسار سياسي في العالم الإسلامي هو صياغة معايير إجرائية لإسلامية الدولة وتحويل القيم السياسية المنصوصة في القرآن والسنة ،الى موازين عملية منضبطة يمكن قياسها والتحقق من تطبيقها في المجتمعات المعاصرة بحيث يسهل الحكم على مطابقة الأنظمة السياسية لها ،او مخالفتها إياها.
وهناك تحديات كبيرة أمام ذلك كله تتمثل في:1- تراكم العوائق القديمة والحديثة،منها فقر في الإجراءات والمؤسسات نتج عن الإنهيار المبكر لتجربة الخلافة الراشدة،والركام الكثيف من تأويلات النصوص الشرعية بما يخدم الإستبداد ويخذل الحرية.2-قيود التراث الفقهي الذي نشأ في ظل الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة،وهو تراث لا ينسجم مع أمهات القيم السياسية الإسلامية،ولا مع فكرة الدولة الوطنية العقارية المعاصرة.3- ضغط التجربة الإستعمارية والتفوذ الغربي،اللذين أثمرا تحديين جديدين هما:
1- ظاهرة العلمانية الداعية الى فصل الدين عن الدولة تماماً.
2- سوء الظن بكل ما يأتي من الغرب خيراً او شراً.( وهذا يمثله بعض السلفيين المعاصرين)
ثم تناول تلك التحديات تناولا عكسياً ،فبدأ بمعالجة ثمرة التحدي الأخير: العلمانية والسلفية:
العلمانية: تناول المؤلف قضية العلمانية،وقرر بداية أنَّ أي حل للأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية،لا بد أن يتسم بسمتين:الأولى: أن يكون مقنعاً للضمير المسلم المتعلق بالقيم السياسية الإسلامية،وبتجربة الإسلام السياسية الأولى،وهذا يستلزم أن لا يكون الحل حلاًعلمانياً.والثانية:أن يكون منسجماً مع منطق الدولة المعاصرة لا خارجاً عنها أو عليها.وهذا يستلزم أن لا يكون الحل حلاً سلفياً مستاسراً للصورة التاريخية المستمدة من الإمبراطويات الإسلامية الغابرة.
واستعرض المؤلف آراء بعض من تناولوا قضية الإسلام والعلمانية،وعرض لأراء حسن حنفي ،و محمد عابد الجابري ،كما وردت في كتابهما الحواري ،"حوار المشرق والمغرب،نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي". فحسن حنفي ذهب الى أنَّ العلمانية تعود الى جذور مسيحية، وأنَّ الإسلام دين علماني في جوهره ،ومن ثم لا حاجة له لعلمانية مستمدة من الحضارة الغربية،وأنَّ الشريعة الإسلامية شريعة وضعية ،واستنتج من ذلك ضرورة التركيب بين ما يسعى اليه العلمانيون من تقدم دنيوي، وما يسعى اليه الإسلاميون من صيانة الهوية الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية . ورغم اتفاق الكاتب مع حنفي في قوله بالجذور المسيحية للعلمانية في العالم العربي، ولكن رفض ما يوحي به قوله من أنَّ الدعوة الى العلمانية مقصورة على العرب المسيحيين، بل ذكر من بين دعاة العلمانية أحمد لطفي السيد، والشيخ علي عبد الرازق، ونصر حامد ابوزيد، وغيرهم من المسلمين ،كما بين أن تجريد المسيحيين العرب من انتسابهم الى الحضارة الإسلامية رأي غير سديد،يدحضه اسهام المسيحين العرب في الحضارة الإسلامية،في مختلف مراحل تاريخها.
ورد على قول حنفي إن الإسلام دين علماني ،وأن الشريعة الإسلامية شريعة وضعية، فبين أن الإسلام ليس ديناً علمانياً بل هو دين ترتبط فيه الدنيا بالآخرة،والعلم بالإيمان ،وأنَّ الشريعة الإسلامية ليست شريعة وضعية، ،فالقانون الإسلامي ديني ومدني في الوقت ذاته ،ولا يصلح وصفه بأنَّه قانون ديني محض أو مدني محض ،بل إنَّ هذه المصطلحات المسيحية الجذور لا تتسع لفهم الشريعة الإسلامية. (ص: 490).
أما الجابري: فقد أورد أقواله بالتفصيل: كقوله" إنَّ العلمانية بمعنى "فصل الدين عن الدولة" غير ذات موضوع في الإسلام ،لأنَّه ليس في الإسلام كنيسة حتى يفصل عن الدولة ،وأنَّ القول بأنَّ الإسلام دين لا دولة، فهو قول يتجاهل التاريخ ، وما ذهب اليه الجابري من أنَّ فصل الدين عن السياسة اذا كان المقصود به هو انفصال العلماء عن الأمراء ،والجند عن الرعية أي ما يعبر عنه اليوم بفصل الدين عن السياسة ،وعدم السماح للجيش بالإنخراط في الأحزاب السياسية ،فهذا ما حدث بالفعل منذ عهد معاوية،وهو ما يشكل الجزء الأعظم من التجربة التاريخية للأمة الإسلامية " . وانتهى الجابري، الى أنَّ العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة وفي رأيه أنه يجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي ،وتعويضه بشعار (الديمقراطية والعقلانية ).
وردا على ما ذهب اليه الجابري من تمييز بين "فصل الدين عن الدولة" و"فصل الدين عن السياسة" ،فهو مجرد تكلف يزيد الغامض غموضاً ولا يقدم إيضاحاً للإشكال.ولو فرض أنَّ هذا الفصل وجد منذ أيام معاوية ،فليس ذلك بحجة أخلاقية على المسلمين،لأنَّ عهد معاوية ،بإعتراف الجابري، يمثل بداية انحراف عن القيم السياسية الإسلامية,:كما أنَّ التمايز بين الفيئات التي ذكرها الجابري، واستمدها من نص لابن العربي في هذا الخصوص،فهو تمايز حدث نتيجة لتطور المؤسسات في الدولة الإسلامية،ولا علاقة له بفصل الدين عن الدولة،أو بفصل الدين عن السياسة.بل هو متأثر ببعض التصورات المسيحية عن الدولة الدينية، التي يحكمها علماء الدين،لا أُمراء السياسة ،وهذا مفهوم غريب عن الإسلام،اذ ليس من سمات الدولة الإسلامية أن يحكمها علماء الدين بل المطلوب أن تحكمها قيم الدين ،ولا علاقة لتفرغ الفقيه للفقه،والسياسي لإدارة الشأن العام ،والعسكري لحماية الدولة،بفصل الدين عن السياسية،وإنما هو تطور طبيعي في مسار العلوم في إطار الحضارة الإسلامية.
ورغم أنَّ الجابري ليس من ذوي النزعة العلمانية الفجة،وليس لديه موقف ايديولوجي معادي للإسلام،فإن نقطة ضعفه الكبرى-كما يقول المؤلف- هو تفريطه في الإستمداد من النص السياسي الإسلامي( القرآن والسُنَّة الصحيحة)،مما أدى به الى إطلاق أحكام عامه ليس عليها دليل ولا برهان ،ومنها : أن عدم وجود نص على خليفة للنبيصلى الله عليه وسلم،وعدم تحديد إجراءات عملية في إختيار الخليفة، دليل-عنده- على أنَّ الإسلام لم يشرع للدولة كما شرع للدين" وأنَّ القرآن لم يتعرض لمسائل الحكم" ولا "لشكل الدولة"،وأنَّه "ليس هناك نظام للحكم شرع له الإسلام"،وهذا يدل على أنَّ الجابري لم يميز بين المجال القيمي،ومجال الإجراءات في التشريع الإسلامي,وعدم التمييز بين القيم والمباديء من جانب والإجراءات والمؤسسات من جانب آخر، وبين أن مسائل الحكم والسياسية" ونظام الحكم" ،أشمل من مجرد شكل الدولة . والتنصيص عليها لا يستلزم بالضرورة التنصيص على شكل الدولة. بل إنَّ أهم مسائل السياسة والحكم هي القيم الأخلاقية والتشريعية التي تضبط مسألة بناء السلطة وتداولها،وقد أفاض الإسلام فيها إفاضة شاملة. أما شكل الدولة فهي مسألة إجراءات لا مسألة حكم ،ولهذا لم يضع له الإسلام تشريعاً ثابتاً أصلاً،لانَّه موضوع دائب الحركة والتغيير ،فترك للناس الحرية في تطويع شكل الدولة،وفقاً لثقافتهم وظروفهم في كل عصر ومصر ،وهذا من حكمة التشريع الإسلامي ودليل على مرونته.( ص: 490-493)
وفي نقاشه مع العلمانيين، تناول المؤلف موقف المفكر الفرنسي السوري الأصل برهان غليون: وبين أنَّ الأسوأ من خطأ الجابري وحنفي، خطأ علمانيين أخرين اعتبروا الإسلام خروجاً على فكرة الدولة ذاتها،ومن هؤلاء برهان غليون، الذي ذهب الى أنًّ رسالة الإسلام الى المسلمين تتضمن تكليفهم بالقضاء على كل الدول في سبيل نشر الرسالة. " يقول اركون: " والواقع أنَّ النبوة في الإسلام لا تقود المؤمنين الى الدولة،ولكنما تدعوهم الى الخلاص من مخاطر الدولة والدنيا معاً.. لقد باع المؤمنون أنفسهم لله... ،ولم يطالبوا لقاء ذلك بفائدة أو مقابل على الأرض ،وهكذا ما كان من الممكن الحديث عن دولة إسلامية أو غير إسلامية". ويعلق المؤلف على ما ذهب اليه غليون قائلاً :" وهذه النتائج التعميمية المستعجلة تكشف عن عدم إطلاع كاتبها على تراث النص السياسي الإسلامي ،واستئساره -مثل علمانيين كثر في العالم الإسلامي- للمنظور الغربي للعلمانية ذي الجذور المسيحية"(ص: 493-494).
نهاية العلمانية القهرية: تحت عنوان :نهاية العلمانية القهرية ،يذهب المؤلف الى أنه ،على عكس ما ذهب اليه علمانيون عرب، من الاختلاف بين العلمانية والإسلام، فإنَّ التلاقي بين الإسلام والكسب الديمقراطي المعاصر تلاق حتمي ، لكن بناء على قاعدة معيارية صلبة من القيم السياسية الإسلامية،لا تلفيقا سطحياً وذوقياً ،ويذهب الى أنَّ مصير الحضارة الإسلامية اليوم،وربما مصيرالحضارة الإنسانية كلها مرهون بالتشبث بالقيم السياسية الإسلامية النصية لا بالتخلي عن تلك القيم أو تجاهلها.
وأشار الى فشل العلمانية في العالم العربي لا سيما على يد كمال اتاتورك في تركيا، وبورقيبة في تونس ،اللذان سعيا الى تنظيم المجتمع والدولة بعيداً عن الإسلام فجانب جهودهم التوفيق،مما يبرهن على أنَّ الدولة العلمانية مستحيلة التحقيق في العالم الاسلامي ،على عكس الدعوى المتداولة هذه الأيام عن إستحالة الدولة الإسلامية .ولعل اوضح برهان على أنَّ الدولة العلمانية مستحيلة في العالم الإسلامي، هو أنَّ العلمانية ظلت في المجتمعات المسلمة المعاصرة -على الدوام-مساراً قهرياً لا خياراً ديمقراطياً ،وأي خيار قهري لا مستقبل له في عصر الجماهير الذي نعيشه.( ص: 494-495).
الرهبانية السياسية :في موقف ليس بعيداً عن العلمانية التي تدعو صراحة وتسعى الى إبعاد الإسلام عن الشأن العام، تناول المؤلف، ما أطَلَقَ عليه ظاهرة الرهبانية السياسية،التي تتوافق مع العلمانية فيما تنتهي اليه من نتائح ولكن بطريقة ملتوية ومستترة. ويمثل هذه الدعوة وائل حلاق، فيما يطرحه في دراساته للتشريع الإسلامي ورسالة الإسلام ، كما عبر عنها في كتابه "الدولة المستحيلة ،الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي".والذي أثار جدلاً في بداية القرن الواحد والعشرين،لا يقل عن الجدل الذي أثاره كتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، في مطلع القرن العشرين. ورغم أن حلاق لا يدعو الى العلمانية،صراحة ،بل يذهب الى أنَّ هناك أدلة طاغية على فشل مشروع العلمانية بدرجة كبيرة،ومع ذلك يصر على تيئيس المسلمين من فكرة الدولة الإسلامية،فلا هو يرضى للمسلمين دولة علمانية،كما يفعل علمانيون عرب كثر-ولا يرى إمكاناً لدولة إسلامية. وخلاصة ما ورد- في كتابه:" الدولة المستحيلة" ،وما كتبه من قبل في" تاريخ التشريع الإسلامي"- ثناء مفتعل على الماضي الإسلامي ،وتيئيس جازم من المستقبل الإسلامي،وهذا يحقق وظيفتين:أولاهما :تخدير القاريء المسلم بالحديث عن أمجاد الماضي،والثانية: الإستعانة بذلك المخدر لإقناع القراء المسلمين باليأس من أي خروج من أزمتهم بأي طريقة تستلهم قيم الإسلام السياسية وتشريعاته.وقد جادل حلاق بأنَّ الطابع المحلي للدولة الحديثة يجعلها نقيضاً لمفهوم الدولة الإسلامية ،ويقضي باستحالة نشوء دولة قومية على النظام الإسلامي للسيادة الإلهية،والسبب في اتخاذ حلاق هذا الموقف،هو أخذه بثنائية دار الإسلام ودار الحرب،الواردة في كتب الفقه،وهي ثنائية لا وجود لها في نصوص الوحي الإسلامي.
والحقيقة إن طرح وائل حلاق طرح عدمي ،وظلم للدولة الإسلامية،وللدولة الحديثة كليهما،فهو يبني على جملة مصادرات ومكابرات دون استدلال مقنع.فهو ينتقد الدولة الحديثة بنبرة السلفي الذي يجعل حكم الشعب نقيضاً لحكم الله،وينتقد الدولة الإسلامية بلغة المسيحي العلماني الذي لا يرى للدين وظيفة سياسية ،من غير ان يدرك التناقض الذي وقع فيه. وخلاصة ما ذهب اليه حلاق، أن الدولة العربية المعاصرة فاشلة،والدولة العربية العلمانية المعاصرة فاشلة،والدولة الإسلامية مستحيلة،وأن التاريخ لم يعرف دولاً أصلاً." وربما كان ادق وصف لمنظور وائل حلاق عن الإسلام والسياسة هو أنَّه دعوة الى الرهبانية السياسية،وانتهى الأمر بحلاق داعيا الى نمط من التدين الإسلامي المنزوع الدسم ،الذي لا ينصر مظلوماً ولا يردع ظالماً ،ولا يعبر عن اصالة الرسالة الإسلامية،ووظيفتها التحريرية،بل هو مجرد تلفيق من مواريث الورع البدعي والزهد الزائف الذي تسرب الى الثقافة الإسلامية من الرهبانية المسيحية والبوذية.
وقد وجد حليفاً له في بعض فلاسفة التصوف الأقدمين والمعاصرين،فاختزل رسالة الإسلام ودوره في مستقبل الشريعة في رؤية ابي حامد الغزالي من الأقدمين،وطه عبد الرحمن من المعاصرين، وما يجمع بين الغزالي وطه عبد الرجمن ،انهما عاشا في لحظتين متشابهتين اتسمتا بالتشظي الداخلي والإختراق الخارجي لقلب الإسلام ،وأن كلا منهما استغرق في عالمه الذهني وتجريداته الروحية وصاغ مذهباً اخلاقياً يجرد الإسلام من مبدأ المدافعة السياسية الذي تميزه عن كثير من الأديان،وعرض لموقف الغزالي مما كان يدور حوله آنذاك من حروب صليبية وويلات نزلت على المسلمين جراءها،فلم تحرك فيه ساكنا وهو في حالة تأمل غيبي في عزلته بجامع دمشق الذي كان مكتظاً بافواج المسلمين الفارين من مجازر الصليبيين ووحشيتهم.وطه يقف على الحياد الأخلاقي في المعركة الدائرة بين الحكام المتحكمين في رقاب الشعوب ،ومعارضيهم الساعين لتحريرها،ويعتبر الطرفين ساعيين الى التسيد والحكم بالقهر في سلبية أخلاقية كاملة ،وكأن التدافع السياسي بين أهل العدل والحرية،وأهل البغي والإستبداد ،بين ظالمين، لا بين ظالم ومظلوم، وبين محق ومبطل،ويغالي طه في سلبيته الحيادية فيعتبر اجراء الانتخابات السليمة أمرا عنيفاً،وصراع بين فئتين شرستين.وليس صدفة أن يختار حلاق الغزالي وطه عبد الرحمن ليسوقهما مثالا لرؤية الإسلام في الشأن العام التي ينبغي أن تسود.وينتهي المؤلف بالقول ان مآل الرهبانية التي تبناها وائل حلاق والتصوف السياسي الذي ينظر له طه عبد الرحمن لن يكون افضل من مآل العلمانية الصريحة التي تتراجع مساحتها في المجتمعات الاسلامية بقدر ما تتسع مساحة الحرية في هذه المجتمعات كل يوم( ص: 497-505)
تعانق الديني والمدني : قد أدرك مفكرون معاصرون جوهر الإسلام التوحيدي،الذي يجمع بين الديني والمدني ،بشكل أعمق مما ادركه حنفي والجابري وطه عبد الرحمن ووائل حلاق،ومن هؤلاء :محمد اقبال ،ومالك بن نبي،ومحمد أسد،وعلي عزت بيغوفتش، بل أدركه غربيون غير مسلمين من أمثال جان جاك روسو وغوستاف لوبون .
فبيغوفتش يصف الإسلام بأنه "دين دنيوي "، وأصاب بيغوفتش في الكشف عن المعنى التركيبي بين الروحي والمادي،والديني والمدني، والشعائري والسياسي،والفردي والجمعي ،ولخص رسالة الإسلام في خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه،ومجتمع ،تحافظ قوانينه ومؤسساته الإجتماعية والإقتصادية على هذا الإتساق، ولا تنتهكه.ومن قبل توصل محمد إقبال من خلال دراساته الفلسفية والأخلاقية العميقة الى واقعية الإسلام وحيويته ،وادرك أنَّ المسألة السياسية والإجتماعية لها مساحتها الكبيرة في الإسلام.وما وجده اقبال من تكامل الإسلام بين العروج الروحي والكفاح المادي، ومن رفض لشطر الحياة الى روحي ومادي،وسياسي وديني،هو جوهر الإنسان المتكامل باني الحضارة،عند مالك بن نبي. ولم يكن محمد أسد أقل إدراكاً للطبيعة التركيبية للدين الإسلامي من اولئك المفكرين الثلاثة،فبعد رحلته الطويلة وتمرده على جذوره اليهودية،وهويته الأوربية،وجد محمد أسد في الإسلام ما كان يبحث عنه من توحيد الخالق ووحدة الحياة،وأكتشف أنَّ الإسلام نظام خلقي وعملي،ونظام شخصي وإجتماعي.
وبالاضافة الى اولئك المفكرين المسلمين،فإن بعض الغربيين، غير المسلمين، ادرك طبيعة الإسلام المركبة من الديني والمدني،فجان جاك روسو، الذي انتقد ازدواجية الديني والمدني في التاريخ المسيحي ،تبين له أنَّ الإسلام تغلب على هذه المعضلة ذات الجذور المسيحية. أما غوستاف لوبون فقد تساءل باستغراب :كيف لا يبقي الإسلام دين الدولة في بلاد إتحد فيها الشرع المدني والشرع الديني،وقام فيها المبدأ الوطني على الإيمان بالقرآن؟ " ( ص: 505-511).
انسداد الخيار السلفي: إذا كانت الدولة العلمانية القهرية على طريق التلاشي في العالم الإسلامي،والعلمانية المستترة على وشك الإنكشاف،فإنَّ الدولة السلفية التي تستأسر للصورة التاريخية أكثر مما تستلهم الوحي ،لا سبيل لها أيضاً قي العالم المعاصر . فما يخرج المسلمين من أزمتهم الدستورية المزمنة هو إستلهام الوحي لا استنساخ التاريخ ،والسلفيين المعاصرين تحكمت في ثقافتهم ذاكرة تاريخية بعيدة عن نصوص الوحي والواقع المعيش اليوم.فالمدرسة السلفية-في رأي المؤلف- تعاني فقراً مدقعاً في الوعي بالزمان والمكان ،وهي لا تحاكم الوقائع اليوم بنصوص الشرع وقيمه الكلية،رغم رفعها رأية الرجوع الى الكتاب والسنة، بل بتصورات تاريخية وفهومات فقهية كانت في جلها تراجعاً عن قيم الإسلام السياسية ،وتكيفاً مع واقع الدولة السلطانية القهرية في تاريخ المسلمين. فالمدرسة السلفية ترفض الإستبداد المعاصر،لكنها تنحو الى بناء استبداد قديم، وكأن المستبد إذا نزع الخوذة وارتدى العمامة ،أصبح حاكماً شرعياً وخليفة راشداً ،وكل هذا تحت راية الرجوع الى الإسلام. ( ص:513-517).
ومن المشاكل التي تعاني منها السلفية،ظاهرة الإكتفاء والإنكفاء،التي تتسم بهما هذه المدرسة في تفاعلها مع الثقافة الإنسانية،لا سيما مع المكاسب الإنسانية المعاصرة،في مجال الحقوق والحريات الأساسية. فهذا الإحساس بالكبرياء الفكري ،والإمتناع المزيف، بعدم الحاجة الى ثقافة الآخرين وعلومهم ونمط عيشهم ،يؤدي الى الفقر الفكري والجدب الروحي،بينما يثمر الإنفتاح والتسامح ثراءً فكرياً وروحياً.( ص: 514).ولعل تفسير هذه الظاهرة بأنها أثر من آثار الإستعمار الحديث يجعل بعض السلفيين استعمال لفظ الديمقراطية بديلاً للشورى كفراً بواحاً.
والخلاصة أن الدولة العلمانية مستحيلة إسلامياً ،وأن الدولة السلفية مستحيلة إنسانياً،وما بين المستحيلين،الإسلامي والإنساني ، والصراع بينهما تعيش المجتمعات الإسلامية،والقيم السياسية الإسلامية اليوم محنة عظيمة.(ص: 516). ومن أحسن ما قاله المؤلف فى هذا المجال : " لقد جعل العلمانيون الوحي تاريخاً يمكن تجاوزه ، وهذا أمر مستحيل إسلامياً ، وجعل السلفيون التاريخ وحياً يجب استنساخه ، وهذا مستحيل إنسانياً ".
المسلمون وتدوين الدساتير: قرر المؤلف في مستهل عرضه لتدوين الدساتير عند المسلين، فقر تاريخ المسلمين في كتابة الدساتير ،ورغم أنَّ أول دستور عرفه المسلمون ،هو دستور المدينة ،ولكنهم لم ينموا تلك التجربة،ومن ثم ظهر أول دستور في العصر الحديث، بعد اثني عشر قرناً من دستور المدينة،هو دستور تونس عام 1861م،وتلى ذلك دساتير مكتوبة في الإمبراطورية العثمانية عام 1876م،ثم في مصر عام 1882م.
وحلل المؤلف بعض الدراسات المعاصرة عن الدساتير في العالم الإسلامي، حيث أكدت إحدى تلك الدراسات، التلازم بين توسع مسألة الحرية السياسية، ومكانة الإسلام في الشأن العام.وقد لاحظ كاتبها داود أحمد " جاذبية الإسلام في لحظات التحول الديمقراطي" . وفي دراسة أخرى بعنوان "مشروع الدساتير المقارنة" ،الذي رعته شركة غوغل ،توصل الباحثان: دواد أحمد ،وتوم جيسنبرغ ، في دراستهما المهمة عن "الأسلمة الدستورية وحقوق الإنسان "، الى نتائج تدل على مركزية الإسلام في معركة الحرية السياسية التي تخوضها الشعوب اليوم. وبعد تتبعهما لمكانة الإسلام والشريعة الإسلامية في الدساتير، منذ عام 1861 م حتى عام 2014 م ، خلصا الى النتائج التالية:
1- إن مسار التحديث السياسي في المجتمعات المسلمة لم يسر في الإتجاه الذي سار فيه التحديث الغربي، فالمسلمون أخذوا من الغرب الآليات الدستورية ،لكنهم توقفوا عن أخذ الثقافة التي تصاحبها.
2- وجد الباحثان أنَّ هناك تنصيص على الإسلام في دساتير الدول التي إستعمرتها بريطانيا، أكثر من الدول التي خضعت للإستعمار الفرنسي.
3- يبين البحث احتمال وجود مواد إسلامية في دساتير الدول التي يرتفع فيها عدد المسلمين.
4- لاحظ الباحثان أنَّ هناك مساحةً أكبر لحقوق الإنسان في دساتير الدول ذات المرجعية التشريعية الإسلامية، وهذا يدحض الزعم بارتباط تراجع الحريات السياسية وحقوق الإنسان، بالأسلمة.
5- يتبين من خلال الدراسة، أنَّ الدول لا تتراجع عن التنصيص على الإسلام أو الشريعة، بعد أن يصبح ذلك واقعاً دستورياً.
6- كما يتبين أيضاً أنَّ إدراج مواد المرجعية الإسلامية يأتي دوماً نتيجة لتوافق شعبي كما حدث في الدستور المصري بعد ثورة: 25 /ياناير/ 2011م.
لكن النتيجة المهمة في الدراسة ،أنَّه في حالات كثيرة يمكن لمزيد من الديمقراطية في العالم الإسلامي ،أن تقود الى توسع في تفعيل الحقوق الدستورية والى أسلمة كثير من الدساتير،فالإثنان غالباً ما يسيران يد بيد،ويمكن أنْ يكونا مترابطين بالفعل . ونفس النتيجة توصل اليها باحثان آخران من فقهاء الدستور الامريكيين،حيث قالا:" والمسألة ببساطة هي أنَّ مزيداً من الديمقراطية يعني مزيداً من الإسلام"
اضافة الى أنَّ توسع حضور الإسلام في الشأن العام أدى الى توسع في مساحة الحرية السياسية والحقوق الأساسية ،ومن ثمًّ فإنِّ المفارقة بين التدين المجتمعي والعلمانية السياسية ظاهرة مفتعلة في المجتمعات الإسلامية..ومعظم الدساتير التي نصت على إسلامية الدستور،حصرت أسلمة الدساتير في بعض مواد تفصيلية من الدستور،وهذا إختيار مخل ،بل هو تشويه لقيم الإسلام،يحصرها في النطاق القانوني الضيق.ويتجاهل قيم الإسلام السياسية الكبرى المتصلة بالحقوق الأساسية للناس،والعلاقة التأسيسية بين الحاكم والمحكوم،وفي المقابل فإنَّ الذي يركز على تضمين الدساتير مصدرية الإسلام للقوانين،ينتهي بإختزال الإسلام في منظومة قانونية جزئية،ثم يغفل عن الأهم ،وهو أمهات القيم السياسية.
ويحمل المؤلف على بعض الجماعات السلفية، لأنَّها "تسيء الظن بالديمقراطية وتعتبرها كفرًا أو فسوقًا"، ويقول: إنَّ تلك الجماعات السلفية، "لا تفقه القيم السياسية الإسلامية، ولا تفهم معنى الديمقراطية على الحقيقة. ولو كانت تملك أفكارًا واضحة عن الإثنين لأدركت ما أدركه الإصلاحيون المسلمون منذ خواتيم القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين، من أنَّ الديمقراطية هي أفضل صيغة إجرائية لتطبيق قيم الإسلام ذات الصلة ببناء السلطة وتداولها، فالديمقراطية بهذه المعاني تطبيق للشق الدستوري من الشريعة في الزمن الحاضر.(ص:517-521)
معيار إسلامية الدولة: وفقاً للمؤلف فإنَّ ما أعاق تحقيق مفهوم الدولة الإسلامية،تعلق المسلمين بالنموذج الذي وضعته الخلافة الراشدة،وصاحب هذا الشوق الى ذلك المثال العجز عن بذل الجهد لتحويل ذلك الشوق الى تبيان صورة مجسدة لذلك المثال،ومعايير منضبطة لقياسه،وطرائق إجرائية تضعه موضع التنفيذ.
وقد أورد المؤلف نصاً للشيخ رشيد رضا يحث على الإستفادة من التطور البشري المعاصر لترجمة قيم الإسلام السياسية الى مؤسسات وتشريعات وإجراءات ، بعد أن وقع عليها الحيف التاريخي ،وتعطل مفعولها خلال القرون. ( ص: 521-522).
ولتحقيق هذه الغاية قام المؤلف بوضع جدولين: تضمن أحدهما قيم البناء السياسي ، التي سبق ان وردت في القسم الأول من الكتاب وتضم ست عشرة قيمة: تكريم الإنسان واستخلافه، ونبذ الوثنية السياسية، وقلب الهرمية الفرعونية، والجمع بين العدل والفضل، ووجوب السلطة السياسية، والحرية إمكانًا ومسؤولية، والعدل في الحكم والقسم، والمساواة في الأهلية السياسية، وإهدار المراتب الاجتماعية، ووجوب التمثيل السياسي، والشورى في بناء السلطة، وعقد البيعة السياسية، ولزوم الجماعة وإمامها، وطاعة السلطة الشرعية، ومنع الحرص على الإمارة، والمدافعة العاصمة من الفساد. ووضع في جدول مقابل ترجمتها الإجرائية المعاصرة.
اما الجدول الآخر فقد تضمن قيم الأداء السياسي الأربعة عشر وهي: الرد إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، والتزام السواد الأعظم، والأخذ على يد الظالم، والمال العام مال الله، ومنع الغلول والرشوة، والأمانة أو الأهلية الأخلاقية، والقوة أو الكفاءة العملية، والمواءمة أو الحكمة السياسية، والمشاورة في صناعة القرار، والنصح من الحاكم والمحكوم، ورفق الراعي بالرعية، ومنع الاحتجاب عن الرعية، ومنع الإكراه في الدين، ووحدة الأمة الإسلامية, ووضع في جدول مقابل ترجمتها الاجرائية المعاصرة.( ص: 523- 526).وفي ما يلي نموذج لما تضمنه الجدولان، وكيفية صياغة المؤلف، لقيم البناء وقيم الاداء وترجمتها الإجرائية المعاصرة.
قيم البناء السياسي
ترجمتها الإجرائية المعاصرة القيم السياسية
يجب على السلطة العامة المحافظة على حياة كل إنسان تحت سلطتها، وعلى حريته وماله وعرضه،ومنع أي انتهاك لكرامة الإنسان،أو إمتهان لإنسانيته،وتمكينه من أداء رسالته الإنسانية. 1) تكريم الإنسان وإستخلافه
يجب الفصل بين السلطات التشريعية،والقضائية والتنفيذية بما يضمن التوازن بينها،ويجب بناء تعدديه حزبية إعلامية ونقابيه تعبر عن تنوع المجتمع،وتمنع إحتكار الشأن العام. 16) المدافعة العاصمة من الفساد
قيم الأداء السياسي
ترجمتها الإجرائية المعاصرة القيم السياسية
يجب تحصين المرجعية الإسلامية دستورياً بأن تكون كل القوانين مستمدة من الوحي الإسلامي،او غير مناقضة له ،ويجب تأسيس هيئات رقابية دستورية تضمن التحصين 1) الرد الى الله والرسول
لا يجوز تقييد حرية الدين اعتقاداً وشعائر ،ولا الحجر على حرية التفكير أو التعبير ،الا لضرورات الخير العام وبحكم قضائي نزيه،ويجب عليها توفير اجواء السكينة والإنصاف لتبادل الآراء 13) منع الإكراه في الدين
وهذه القيم جميعها مستقاة من الكتاب والسنة، وأنَّ الدولة إذا ما ترجمت تلك القيم السياسية وترجمتها الى مباديء دستورية ومعايير منضبطة للحكم على إسلاميتها، التزمت بتلك القيم ،فإنها تكون حينها دولة إسلامية .وهذه القيم بفرعيها البناء والأداء تجيب-حسب المؤلف- على الأسئلة الأبدية التي سعى فلاسفة السياسة إلى إيجاد جواب لها، من قبيل: ضرورة السلطة للإجتماع البشري، وحول كيفية تحقيق العدل البشري، وطبيعة المنصب العام، وما مصدر إلزام الناس بطاعة القانون وطاعة السلطة؟ وما حدود ذلك؟ ومتى يتعيَّن عصيانها؟ وما إلى ذلك .
ويستلزم تفعيل القيم السياسية الإسلامية في الزمن الحاضر أمرين: أحدهما: تصالح المسلمين مع بقية البشرية والتحرر من هواجس الخصوصية المفرطة ،التي تحرمهم من التفاعل مع الخبرة السياسية الإنسانية،والتطور السياسي الإنساني،الذي أصبح يخدم القيم السياسية الإسلامية،على عكس الحال مع ثقافات الإمبراطوريات العتيقة.
وثانيهما: انتقال العقل الفقهي الإسلامي من سياق التاريخ الإمبراطوري الذي كانت الدولة فيه تتأسس على قاعدة المشاركة في العقيدة الواحدة الى سياق الدولة "العقارية" المعاصرة التي يتأسس عقدها الإجتماعي على الوحدة الجغرافية. (ص: 483-484) . والسبيل الى ذلك هو التشبث بالقيم السياسية الإسلامية كما وردت في الوحي ،والتحرر من مواريث صفين السياسية السلبية.
ثم قدم المؤلف بعض الملاحظات على مصطلح الدولة الإسلامية، الذي يستخدم اليوم في سياقات عديدة، وبدلالات متباينة:
الملاحظة الاولى: حول وصف الدولة بأنَّها إسلامية :
1- لوجود غالبية مسلمة بين مواطنيها.،وهذا معيار لقبولها عضواً في منظمة التعاون الإسلامي.
2- الدولة التي تحتفي بالشعائر الإسلامية إحتفاءً ثقافياً واجتماعياً.وهذه حال أغلب الدول الإسلامية اليوم.
ولكن هذه المعايير ليست داخلة في إهتمام هذه الدراسة -رغم وجاهتها-لأنَّها تتعلق بالهوية والثقافة لا بنظام الحكم السياسي،والمعيار المهم هو محاكمة نظام حكم الدولة بمعايير النص الإسلامي،لا الحكم على الهوية الدينية للحاكم والمجتمع.
فالدولة الإسلامية بالمفهوم الذي يسعى المؤلف الى تحريره -كما يقول-هي الدولة الملتزمة في نظام حكمها بأمهات القيم السياسية الإسلامية بناءً وأداءً.
الملاحظة الثانية هي: أنَّ القيم السياسية الإسلامية قيم أخلاقية ودستورية ،فمحاكمة الدولة وفقاً لها هي محاكمة أخلاقية ودستورية تتعلق ببناء السلطة أساساً،وبسلوكها السياسي المطرد.وليست محاكمة عملية تتعلق بأدائها اليومي وقراءتها الظرفية.
الملاحظة الثالثة: ما يلاحظ من تلاقٍ واضح بين القيم السياسية الكبرى التي جاء بها الإسلام ،والقيم الديمقراطية التي توصل اليها العقل الغربي خلال القرون الثلاثة الماضية،ثم اتبعته فيها أغلب شعوب الأرض اليوم.
هذا التلاقي الواسع بين أمهات القيم السياسية الإسلامية والقيم الديمقراطية،الغربية لا ينبغي أن يحجب الخصوصية الإسلامية،خصوصاً في مجال المرجعية،فهذا التلاقي بين الإسلام والكسب الديمقراطي المعاصر تلاقٍ حتمي،ولكن هذا التلاقي لا يعني "تكييف الإسلام مع الديمقراطية المعاصرة، بل تكييف الديمقراطية المعاصرة مع الإسلام" (ص: 535).
شرط الشورية والمرجعية : إنَّ ترتيب القيم السياسية ضمن صنفي البناء والأداء ترتيباً ثنائياً، دون اعتبارهما كتلة واحدة يدل على أنَّ "الشورى"، تتصدر قيم البناء ،و"الرد الى الله والرسول"،تتصدر قيم الأداء. فمن دون شرط الشورية لا ينبني النظام السياسي على ركن ركين من البداية،ومن دون شرط المرجعية يفقد النظام هويته الإسلامية.ويقتضي تطبيق شرط المرجعية " الرد الى الله والرسول"،أن ينص الدستور على منع سن أي قانون يناقض الإسلام ،وهذه الصيغة هي الأقوى لتحصين الإسلام دستورياً ،وهي أكثر مرونة ايضاً لأنها تسمح بالإستمداد من المصادر القانونية والعرفية الأخرى،مع إبقاء الوحي الإسلامي حَكَماً عليها.
وأشار المؤلف الى بعض الصيغ الأخرى المقبولة في الإسلام، مثل: التنصيص على أنَّ الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع،أو هو المصدر الأساسي للتشريع،أمَّا مجرد إعتبار الإسلام مصدراً أساسياً، أو مجرد مصدر للتشريع ،من بين مصادر أخرى،فلا تكفي، إذ لا تدل هذه الصفة على أرجحية المصدر الإسلامي عند التعارض.(ص: 527-529).
وفي تصويره للدولة ذات القيم الإسلامية، يقرر المؤلف ،مستعينًا بابن خلدون الذي ذهب الى أنَّ هناك ثلاثة نماذج للدول من حيث قربها أو بعدها من المعيار الإسلامي:
1- الدولة الإسلامية المعيارية: وهي التي "تتأسس على التعاقد والتراضي في بنائها، وتلتزم بالمرجعية الأخلاقية والتشريعية الإسلامية، فهي تجمع بين الشورية، والمرجعية الإسلامية.
2- دولة العدالة البشرية: وهي الدولة التي "تتأسس على التراضي والتعاقد لكنها لا تلتزم بالمرجعية الإسلامية"، ويدخل تحت هذا الصنف أغلب الدول الديمقراطية المعاصرة
3- دولة الهوى: "وتتأسس على القهر والجبر في بنائها، ولا تلتزم بمرجعية قانونية، لا إسلامية ولا غير إسلامية"، ومن اسوأ انماط دولة الهوى ،الملكيات والجمهوريات العسكرية العربية اليوم،التي تناقض القيم السياسية الإسلامية في كل شيء ،حتى وإن كانت غالبية سكانها مسلمين. ( ص:529 - 530 )
ثم ينتهي الى القول بأنَّ الدولة الإسلامية المكافئة لما دعاه ابن خلدون "الخلافة الشرعية" بمعناها المعياري لا التاريخي، هي الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية، وهذا مما يتوافق مع رؤية المؤلف القائمة على أن هناك "تلاقيًاً واسعاً بين القيم السياسية الكبرى التي جاء بها الإسلام، والقيم الديمقراطية التي توصل إليها العقل الغربي خلال القرون الثلاثة الماضية"، بل اعتبر ذلك "معجزة من معجزات الإسلام الأخلاقية" لأن الإسلام "دين الفطرة، وتوجد مساحة واسعة للتلاقي بينه وبين الأنظمة السياسية الساعية إلى تحقيق العدل والحرية، بغض النظر عن خلفيتها الدينية والفلسفية"، وهذا أيضًا مما تتيحه "طبيعة الإسلام التكميلية الترميمية الإصلاحية" الملهمة لاسيما في "مجال الانفتاح الثقافي"( ص: 538-539 )
الإلتزام والإلزام : تحت هذا العنوان عرض المؤلف قضية الزام الأمة من قبل الحكام والتزام الأمة طواعية ،اذ خلط كثير من الناس بين الإلتزام الخلقي والإلزام القانوني،ومالوا الى القول بإكراه الحاكم الأمة على أحكام الشرع ،وهذا هو الفهم الشايع ،وسبب شيوعه الإعتماد على نمط التفكير الذي يجعل الحاكم مسؤولاً امام الله ،والأمة مسؤولة أمام السلطان . وهذا عكس ما يدل عليه النص السياسي الإسلامي ،الذي جعل الأمة مسؤولة أمام الله فقط ،اما الحاكم فمسؤول أمام الأمة في الدنيا، وأمام الله في الآخرة. ( ص: 532).
ويترتب على كون الأمة مسؤولة امام الله وحده،أنها لا مكره لها في الدنيا، ولا يحق لحاكم متغلب أو نخبة متسلطة إكراهها على ما يناقض إرادتها الجمعية،حتى لو كان ما يكرهها عليه حكماً شرعياً منصوصاً عليه.اذ كيف يكره الحاكم الأمة بما لا ترضاه وهو نائب عنها،بل الأمة تختار وتتحمل مسؤولية إختيارها أمام الله ،فإن جاءت الإرادة الجمعية للأمة بما يناقض نصوص الوحي الإسلامي اختيارا،فهذا يعني أنَّ النظام السياسي إسلامي في بنائه لا في مرجعيته،والواجب على المسلمين الحريصين على مكانة الإسلام في الشأن العام أن يسلكوا طريق الإقناع لا طريق الإكراه لبناء ارادة جمعية جديدة منسجمة مع النص الإسلامي.
فالواجب على الأمة أمام الله لا يتحول تعاقداً قانونياً بين الأمة الا بعد أن تلتزم به الأمة التزاماً ذاتياً حراً،وهذا هو معنى البيعة.فالأمة ببيعتها السياسية تحول الواجب الأخلاقي بينها وبين الله الى واجب إجتماعي بينها وبين قائدها ،وتعاقد فيما بين أفرادها،ما ينتقل بذلك من دائرة الإلتزام الأخلاقي الى الإلزام القانوني،وتصبح قادرة على الزام أفرادها به،باعتباره عقداً اجتماعياً معبراُ عن ارادة الأمة.وهنا تظهر طبيعة القانون الإسلامي الذي يلتحم فيه الديني بالمدني،فهو التزام أخلاقي امام الله ،وهو الزام قانوني من الجماعة لأفرادها. ( ص: 533)
فواجب الساعين الى إحياء القيم السياسية الإسلامية ان يحرصوا على البناء الدستوري السليم ابتداءً،وهو الذي يحصن المرجعية الإسلامية من التجاذبات السياسية الظرفية،وإذا عجز المسلمون عن تحصين المرجعية الإسلامية في اي بلد،فليدركوا أنَّ المرحلة لم تنضج بعد،لذلك،وأنَّ عليهم انضاج الظروف لذلك، بمنطق الإقناع لا منطق الإكراه. ( ص: 534).
دساتير من ورق: ان المهم في صياغة معايير منضبطة لإسلامية الدولة ليس تكييف الإسلام مع الديمقراطية ،بل تكييف الديمقراطية مع الإسلام،وليس البحث عن مكانة للشريعة في الدستور بل البحث عن مكانة الدستور في الشريعة. فصياغة الدساتير للدولة المعاصرة ،يستلزم اولا تحديد القيم السياسية الإسلامية من القرآن والسُنَّة وترجمتها الى مواد دستورية ،كما أُشير الى ذلك من قبل،ثم البحث بعد ذلك في القضايا الإجرائية والإدارية الخادمة لتلك القيم مثل شكل السلطة وتوزيعها.
وتحقيق إسلامية الدولة يستلزم أمرين :موافقة الدستور مباديء الإسلام وموافقة بناء السلطة وادائها لمباديء الدستور. ولا يتحقق هذان الشرطان في كثير من دساتير الدول ذات الغالبية المسلمة اليوم،خصوصاً الشرط الثاني،بل إنَّ معظم تلك الدساتير، يندرج ضمن "الدساتير الزائفة"،التي كتب عنها الباحثان ديفيد أو وميلا فريستيغ، واطلقا عليها هذا الاسم ،قاصدين بذلك، الدساتير التي تَعِد بكثير من الحقوق ،ثم لا تفي السلطة المسؤولة عن تطبيقها بتلك الوعود.وبمعنى آخر هي دول ذات دساتير رائعة من حيث التنصيص على الحقوق والحريات، لكنها لا تضع هذه الحقوق والحريات موضع التطبيق" (ص:517 521- )
وحينما طبق الباحثان ذلك المعيار على الدول الإسلامية ،لم يظهر أسم دولة واحدة ذات غالبية مسلمة،بين الدول العشر الأشد التزاماً بالحقوق والواجبات المنصوص عليها في دساتيرها،وهذا يدل على أن وجود دساتير مشحونة بالقيم السياسية الإسلامية ،وبالحقوق والحريات المنصوص عليها في القرآن والسُنَّة لا يكفي معياراً للحكم على إسلامية الدولة أو إسلامية نظامها السياسي . ( ص: 538).
حيوية الإسلام الثقافية: تحت هذا العنوان بين المؤلف أمرين: أولهما أن القول بمرجعية الإسلام لا يعني التقليل من شأن العدل السياسي الذي يتحقق من مرجعيات أخرى غير المرجعية الإسلامية.وثانيهما :كون الإسلام مرجعيته تختلف عن المرجعية العلمانية، لا يعني أنهما يسيران في خطين متوازيين،وأَّن الإسلام لا يلتقي في شيء مع العلمانية,كما يدعي بعض السلفيين،بل توجد مساحة واسعة من التلاقي بين الإسلام والأنظمة السياسية الساعية الى تحقيق العدل والحرية بغض النظر عن خلفيتها الدينية والفلسفية.( ص: 538) ولو كان الإسلام يعيش في عالم معزول ،لكان في هذا القول وجاهة،لكن الإسلام يعيش في عالم مترابط ومتمازج فلا يمكن أن يفصل عن الاخرين.
وتجربة الإسلام في التاريخ ،تثبت حيوية الإسلام وتفاعله مع الآخربن،وبدءا بالنبي فقد بين في حديثه المشهور ان رسالته استمرار لرسالات إلهية سبقته ،وأنَّه نبي في سلسلة من الأنبياء الذي سبقوه" مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وجمله الا موضع لبنة ،من زاوية..... فأنَّا اللبنة وأنَّا خاتم النبيين ". كما ولدت الدولة الإسلامية منفتحة على الثقافات الإجتماعية في المحيط الذي نشأت فيه وفي ما حولها،فأثني النبي على العدل والصدق بمملكة الحبشة ومن ثم شجع اصحابه على الهجرة اليها.كما أثنى على حلف الفضول في الجاهلية،وتمنى أن يكون قد شارك فيه.وفي المدينة اقر النبي صلى الله عليه وسلم ،في دستورها عدداً من أعراف القبائل العربية في التعاقل( الديات) ،وأصبحت جزءاً من الفقه الإسلامي.،واستعار فكرة الخندق من التقاليد الفارسية،وكانت هذه الحيوية والديناميكية الثقافية التي اتسم بها الإسلام، من أهم عوامل إنتصار العرب المسلمين على العرب الوثنيين في العصر النبوي.
ولو أدرك المسلمون الدلالة العميقة لتلك الديناميكية الثقافية التي اتسم بها الإسلام في العصر النبوي ،لتجاوزوا العديد من العقد النظرية التي تشطر الثقافة الإسلامية شطرين،وتقسم المجتمعات الاسلامية الى معسكرين:فقانون وضعي وشرعي،والنظر الى القوانين المطبقة في بلاد المسلمين على أنَّها قوانين كفرية. فكل قانون يحقق مصلحة عامة، ولا يناقض نصوص الشريعة فهو من الشريعة. فجل القوانين الوضعية لا تناقض نصاً شرعياً وهو يحقق مصالح العباد ويطابق روح الإسلام،ومقاصد الشريعة،في حفظ العقائد والأنفس والاموال والاعراض فليس تعدد مصادر التشريع مما يناقض الشريعة اذا كانت نصوص الوحي هي الحاكم والناظم عند الاختلاف. ( ص: 543)
فما يحتاجه المسلمون اليوم -من أجل تفعيل القيم السياسية الواردة في الكتاب والسُنَّة-هو الجسارة الفكرية،والإنفتاح الواسع،والإستعداد لاستمداد الدساتير والقوانين والإجراءات والمؤسسات من أعراف الشعوب المسلمة المعاصرة،ومن تجارب الدول المعاصرة غير المسلمة،بعيداً عن عقد الدونية،وعقد الإستعلاء ،ثم عرض ذلك على قيم الوحي،وموازينه الطليقة بفقه حي يتفاعل مع ظروف زمانه ومكانه ،وغير مقيد بقيود الفقه التاريخي المنبت الصلة بواقع الدولة المعاصرة ومنطقها. ( ص:543).
استثمار المحفز الغربي: إن ما يحتاجه المسلمون اليوم للتغلب على ازمتهم الدستورية المزمنة هو الإستقلال واثبات الذات في مجال القيم السياسية،والإنفتاح في في مجال المؤسسات والإجراءات السياسية ،وهذا المجال مجال تراكمي متحرك،وهو الذي يحتاج المسلمون الإستمداد فيه من الأمم التي سبقتهم على درب التطور السياسي.فلا بد أن يبني المسلمون حل ازمتهم الدستورية -بالاضافة الى ما سبق- على استمداد واسع من الكسب النظري والعملي الذي توصلت اليه امم غربية فقطعت شوطا بعيدا في تطورها السياسي خلال ثلاثة قرون وثلث قرن اي منذ الثورة الانكليزية عام 1688م الى اليوم.
لقد خلف الإستعمار كثيراً من الآثار السيئة على المجتمعات التي استعمرها ،فنهب ثرواتها، ومزق لحمتها، وشوه هويتها ،ولكن اسوأ من ذلك كله هو التشويش على روابط الإتصال الإنساني بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية،وكان من آثار هذا التشويش عجز بعض المسلمين عن التمييز بين مجال الحريات السياسية الغربية الذي ينسجم مع القيم الاسلامية،ومجال الحريات الإجتماعية الذي يخضع للنسبية في كل مجتمع حسب المنظومة الأخلاقية والثقافية لذلك المجتمع. واورد المؤلف نموذجين لموقف بعض المسلمين من الحضارة الغربية، أحدهما أتخذ موقفا سلبيا من الحضارة الغربية كلها،وحرم الاخذ بشي منها،وكان ذلك الموقف السلبي نتيجة خلطه بين الحرية في الغرب وثمرات الحرية التي تختلف من مجتمع لآخر لاختلاف الخلفيات التاريخية،والعقائد الدينية،والأعراف الإجتماعية، والآخر هو الشيخ محمد رشيد رضا ،من دعاة الإصلاح الذين كانوا على وعي بأهمية إستثمار المحفز الغربي ،ومن ثم حث المسلمين على الإنفتاح على الغرب والإستفادة من الجوانب الإيجابية لديهم،وأكدوا على أهمية ذلك لإحياء القيم السياسية الإسلامية. ( ص: 543-548).
البذر في تربتنا الثقافية:
وما ذكره محمد رشيد رضا من حاجة المسلمين الى الإنفتاح ،وتواضع المتعلم ،يحتاج الى التأكيد على ضرورة أن يوطن المسلمون ما يستمدونه من حضارات وثقافات أخرى.فإستعارة الأفكار لا جدوى منها ما لم يتم تمثلها ونقعها في رحيق الثقافة المستعيرة واخضاعها لمنطقها الأخلاقي والعملي لكي تصبح الفكرة المستعارة جزءاً أصيلاً من الثقافة المستعيرة،كما يقول المؤلف الذي عرض رأي محمد إقبال،واثنى على تمييزه بين ايقاظ الروح الثقافية،وخلق الروح الثقافية ،بين التمييز الذي يحصل من الاحتكاك بأي فكرة خارجية،وتملك تلك الفكرة حتى تصبح جزءاً اصيلا من الذات المستعيرة.
فاقبال يجد في الإنفتاح على الثقافة الغربية المعاصرة محفزاً ضرورياً لتجديد الثقافة الإسلامية،خصوصا في مجال احياء القيم السياسية الإسلامية التي عانت من الحيف في تاريخ المسلمين.ويطبق المحفز على مفهوم الاجماع الذي هو في مفهومه المنصوص مفهوم سياسي يشرع سلطة الجماعة ،لكن تحول في تاريخ المسلمين مفهوما قانونيا ضيقا يشرع سلطة الفقهاء ويحاصر سلطة الامة،فيمكن ان يعين الفكر السياسي الغربي المسلمين، على اعادة اكتشاف مبدأ الإجماع في مفهومه السياسي الأصلي ،وتطبيقه في شكل اجماع سياسي وتشريعي للأمة من خلال برلمانات منتخبة ،وليس مجرد ثلة من الفقهاء المختصين،،كما دعا الى فتح باب الإجتهاد.
فما تحتاجه الثقافة الإسلامية هو تجديد نسيج أخلاقها السياسية،بالمزج بين قيمها المنصوصة في الوحي ،والمكاسب الدستورية والمؤسسية والقانونية التي حققتها الأُمم الحرة في العصر الحديث. فتجديد نسيج القيم السياسية الإسلامية وترجمتها الى واقع معيش ،يحتاج الى موقف أخلاقي صريح من الديمقراطية والضوابط الدستورية المعاصرة وليس التعامل معها تعاملاً ذرائعياً. ( ص: 548-551).
حدود الفقه الإمبراطوري: إن الفقه الموروث يحتاج الى ثورة ،تقوم على ادراك الفرق الجوهري بين قيم الإسلام الأزلية من العدل والمساواة،وبين التجربة الإمبراطورية الاسلامية المحدودة بحدود الزمان والمكان،ولم يستوعب الثقافة الإسلامية فكرة الدولة القائمة على رابطة الجغرافيا،ولا تزال هذه الثقافة أسيرة لذاكرة تاريخية صاغتها تجربة امبراطورية لم يجد لها وجود في واقع الحياة. ( ص: 552).
ففكرة المساواة في المواطنة لم تعرف سبيلها الى عمق الفقه السياسي الإسلامي حتى اليوم.لقد تضمنت نصوص الإسلام قيماً سياسية تتضمن المساواة السياسية بين البشر،بغض النظر عن الدين والعرق والجنس،وأول ذلك فكرة التعاقد الإجتماعي التي هي أساس المواطنة في الدولة المعاصرة.
لقد نشأ الفقه السياسي الإسلامي القديم مطبوعاً بطابعين يحسن فهمهما :أولهما: أنَّه ينتمي الى عالم الإمبراطوريات لا عالم الدول .وثانيهما أنًّ العقد الإجتماعي الذي بنيت عليه الإمبراطوريات الإسلامية -شأنها شأن كل الإمبراطوريات-هو قانون الفتح وأُخوة المعتقد،لا قانون المساواة بين مواطنين أحرار،كما هو الحال في الديمقراطيات المعاصرة( ص: 554).
فالإمبراطوريات لا تعرف معنى الجغرافيا،لأنها تتوسع باستمرار ،ولا تقف حدودها الا حين تقف او تهزم جيوشها،والفاتحون فيها هم من يمتلك حق الحكم السياسي،أما الشعوب المغلوبة إما أن تستعبد،وإما أن تمنح مواطنة من الدرجة الثانية مقابل ضريبة مالية،مع فتح باب المساواة اذا اعتنقت ديانة الشعب الفاتح. أما الدولة المعاصرة فانها لا تتأسس على الإشتراك في الدين او العرق، بل على أساس الجغرافيا.والعقد الإجتماعي في الدولة المعاصرة،هو عقد ملكية عقارية،يشترك الجميع بحق الإنتفاع بالعقار، وحق الشفعة، وحق الجوار ،وعليه واجبات الصيانة ،وحماية العقار، وإعادة البناء. وهذا العقد الجديد اكثر انسجاماً مع التجربة الإسلامية الأولى في المدينة على عهد النبوة،فحينما تأسست دولة المدينة كان من بين مواطنيها مسلمون ويهود ،ومنحت اليهود حرية الديانة ،وكامل المواطنة لأنهم اعضاء مؤسسون في العقد الإجتماعي الذي قامت على أساسه الدولة،ولذلك لم تأخذ الدولة من اليهود ضريبة الجزية.وناقش الكاتب ما تعلل به الفقهاء في عدم أخذ الجزية من اليهود ،لأن الجزية شرعت بعد جلاء قبائل اليهود من المدينة،وبين ضعف هذا التعليل.ويدل على ذلك،أن الدولة لما توسعت ، وانضم اليها نصارى نجران ،ومجوس هجر،عوملوا نفس معاملة اليهود.( ص: 551-557)
فقه التضييق والتمييز: بين المؤلف تحت هذا العنوان ان البذور الأخلاقية والإنسانية،التي وضعت في فترة النبوة ،لم تنمو الى فقه للمساواة بين المسلم وغير المسلم،ولذلك ظهرت إجتهادات فقهية في تاريخ المسلمين،خضعت للمنطق الإمبراطوري،ووقعت في داء التمييز في الحقوق على أساس المعتقد.وساد التضييق على غير المسلمين في قضايا اعتقادية مثل بناء الكنائيس ،وسياسية مثل تقلد المناصب العامة،وعسكرية مثل تملك الخيل والسلاح،واجتماعية مثل فرض زي خاص عليهم احياناً. وتحولت تلك الممارسات بأن اصبحت جزءاً من الفقه الإسلامي، فصدرت الفتاوى بمنع أهل الذمة من لبس العمائم،لأنها كما قالوا "تيجان العرب" فلا ينبغي ان ينال أهل الذمة شرف لبسها.!!
اما غير أهل الكتاب ،من المشركين،فقد مال عدد من الفقهاء الى القول بمطلق قتالهم،ورفضوا من ثم مسالمتهم مقابل اخذ الجزية منهم،وهذا كما قال المؤلف-يناقض ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه سالم المجوس واخذ الجزية منهم ،ولعل أهم نص في هذا السياق، والتضييق على غير المسلمين في حقوقهم الدينية والسياسية ،هو ما عرف بالشروط العمرية"،المكون من سبعة وثلاثون شرطاً،التي ادعى الفقهاء أن عمر فرضها على المدن ذات الساكنة المسيحية.
وبعد أن أورد المؤلف نص الوثيقة العمرية،أبدى الملاحظات التالية:
1- ان نص الوثيقة لم تصح نسبته الى عمر بمعايير أهل الحديث، اذ ثبت الطعن في بعض رواته ،وقد قال المحدث المعاصر الألباني بضعف اسناد النص.
2- أنَّ أيَّاً من القيود والشروط الواردة في الوثيقة لم يرد في آية قرآنية أو حديث نبوي،ولا ظهر له أثر في العصر النبوي.وهذا يدل على أنَّ الفقه السياسي الذي ساد في هذا المسألة هش الأساس من حيث التأصيل،وأن ما زعم من الشروط العمرية، ليست عمرية، ولا نبوية، ولا علاقة لها بنصوص الوحي الإسلامي ،وان الشريعة منها براء ( ص:561).
تطفيف في حق الحياة: على أن أسوأ جوانب التمييز والتحيز ضد غير المسلمين ،ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من التمييز في حق الحياة ،فقضوا بعدم تكافؤ الدماء بين المسلم وغير المسلم،وأنَّ المسلم إذا قتل غير المسلم عمداً- ظلماً وعدواناً-لا يقتل به قصاصاً.وهذا أمر مناقض لنصوص قرآنية محكمة تقضي بأن النفس بالنفس ،وتدعو الى القصاص في القتل.كما أنَّ هذا التمييز مخالف لصريح الوعيد النبوي لمن قتل أهل العهد من غير المسلمين. وقد تمسك الفقهاء في هذا بنص الحديث " لا يقتل مسلم بكافر" ،وهو إسشهاد في غير محله،كما بين المؤلف-واورد نص الحديث " لا يقتل مسلم بكافر ولا معاهد في عهده"،وبين أن الفقهاء اقتطعوا الحديث من سياقه -وأن معنى الحديث -كما يقول الطحاوى -: "ان الكافر المحارب إذا قتله مسلم او قتله معاهد غير مسلم،فإنَّه لا يؤخذ به ثأراً ولا قصاصاً". فالحديث اذن يميز بين الناس على أساس الحرب والعداوة،لا على أساس الدين،وهو دليل على تكافؤ الدماء بين المسلم وغير المسلم ،لا على نقيض ذلك. ومع ذلك لا يزال الرأي الفقهي القديم يجد من يعتمده في فتاواه ،بل حتى في أحكامه القضائية. وأورد المؤلف في ذلك قصة يمني قتل يهودياً، وحكم القاضي بعدم قتله ، فصاح والد القتيل اليهودي -وهو صادق-:" هذه ليست شريعة محمد" ( ص: 564)
منطق الدولة العقارية: يدعو المؤلف للمصالحة مع الدولة القُطرية؛ حيث أن "الدول المعاصرة لا تتأسس على الإشتراك في الدِّين أو العِرق، بل على أساس الجغرافيا، والعقد الإجتماعي للدولة المعاصرة هو عقد ملكية عقارية". ولكل شريك في هذا العقد "حق الإنتفاع بالعقار" والأولوية فيها للعامل الجغرافي على "العوامل الأخرى التي كانت أساس العقد في الإمبراطوريات القديمة". وهو، أي العقد المتأسس على الجغرافيا، "الأكثر انسجامًا مع التجربة الإسلامية الأولى في المدينة.. وأولى بالإعتبار مصدرًا للأخلاق والقوانين السياسية الإسلامية"( ص: 554-555)
ومن مظاهر الفقه الذي لا يزال يتحكم في ثقافة المسلمين السياسية،والتناقض الأخلاقي الذي يحول دون خروج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية، قيد حق المواطنين غير المسلمين في تقلد بعض المناصب السياسية كرئيس الدولة. فلا زال معظم دساتير الدول الإسلامية يشترط أن يكون رئيس الدولة مسلماً. وهذا الشرط لا يستند الى نص من الوحي الإسلامي ،كما أنه يناقض حق المساواة السياسية بين المواطنين ،ويجعل أساس التعاقد الإجتماعي الذي تتأسس عليه الدولة المعاصرة ملتبساً.وهذا الرأي لا ينبني على نص من الوحي ( القرآن والسُنَّة )، وإنَّما هو رأي مبني على مصلحة للمسلمين في عصر الإمبراطوريات حينما كان الناس على دين ملوكهم.
ومن اقوى الادلة الذي استشهد بها من منعوا المواطن غير المسلم من تقلد منصب راس الدولة ذات الاغلبية المسلمة الآية القرآنية " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً": لا صلة له بالموضوع ،اذ الآية تنتمي الى الخطاب القدري لا التشريعي ،واعتمادهم على الحديث الذي ينهى عن الخروج على الحكام وورد فيه : " الا ان ترو كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان" استدلال ضعيف، لأنَّ سياق الحديث يتحدث عن السلوك السياسي للحاكم ،وما يسعى اليه من إلزام رعيته به لاعن معتقده الشخصي ( ص: 566).
ولا شك في انه يجب على المسلمين مقاومة اي حاكم يسعى لفرض الكفر او المعصية عليهم بالقوة،وان لا يطيعوه في امر يتصمن كفرا او معصية،سواء كان الحاكم منافقا يظهر الاسلام ويبطن الكفر،او كان حاكما غير مسلم ووصل الى السلطة بنتخاب حر من الغالبية،في بلد غالبية الشعب من المسلمين،وهو ملتزم بتنفيذ ما اوكل اليه من مهام طبقا لدستور صاغته الامة بحرية ،واقرته غالبيتها باختيارها،وضمنته نحصينا لمرجعيتها الاسلامية ،فليس من وجه شرعي يمنع هذا المواطن غير المسلم من تولي اي منصب عام سواء كان قضاء ،او قيادة عسكرية ،او رئاسة للدولة.فليس من معايير اسلامية الدولة ان يكون راسها مسلما،وانما ان تتأسس طبقا لقيم الإسلام السياسية ،وقد عكس المسلمون اليوم الآية،فاصبح همهم ان يسوسهم مسلم،لا أن يسوسهم الاسلام.
كما أنَّ من شروط الكفاءة التي وردت في الحاكم " الأمانة والنزاهة" ،و"القوة والعلم" ،ولم يرد فيها أي شرط يتعلق بعقيدة متقلد المنصب العام. ثم إن التشريع في الدولة المعاصرة ، لم يعد في يد السلطة التنفيذية،او القضائية،بل هو في أيدي المشرعين ،من أعضاء البرلمانات والمحاكم الدستورية.وأن رأس الدولة الديمقراطية في هذا العصر موظف تنفيذي لا أكثر( ص: 569).
الجماعة الوطنية الموحدة:
يعد المرحوم طارق البشري-كما يقول المؤلف- من بين المفكرين الإسلاميين المعاصرين،الذين صاغوا أساساً نظرياً متماسكاً لفكرة الدولة العقارية المعاصرة،من خلال مفهومي " الجماعة الوطنية" , الجامعة الوطنية"، فالجماعة الوطنية يقوم عقدها الإجتماعي على أساس رابطة الجغرافيا،وهو عقد يناقض تطبيقه -أي تمييز بين المواطنيين ،في تقلد المناصب العامة على أساس ما يدينون به من دين.
ومن المؤسف أن الفكر السياسي الإسلامي لم يحسم هذا الأمر حسماً كاملاً حتى الآن،رغم المحاولات الخجول هنا وهناك. واستعرض الكاتب أراء حسن البنا ،من المحدثين،ويوسف القرضاوي والغنوشي من المعاصرين.
فالبنا يستبعد إبتداءً،استعانة الدولة المسلمة في شؤونها السياسية ،بغير المسلمين،ولكن لا بأس بذلك في حال الضرورة،وفي غير مناصب الولاية العامة .وسعى القرضاوي على خطا البنا،ولكن بدرجة أخف ،فيقول:" فلأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين،الا فيما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة،ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش،والقضاء بين المسلمين،والولاية على الصدقات ونحو ذلك". اما الغنوشي فيذهب الى أنه ليس أمام غير المؤمنين بالإسلام الا أن يسلموا ليتمتعوا بالحقوق العامة للمواطنة،ومنها الإرتقاء الى حق رئاسة الدولة الإسلامية،او رئاسة مجلس الشورى او قيادة الجيش ،او رئاسة مجلس القضاء الأعلى مثلا،فإن اختاروا غير ذلك فهم وما اختاروا".وذهب المودودي الى أبعد من ذلك فمنع غير المسلمين حق المشاركة في الإنتخابات.
وقد بدأت صحوة خجولة في الإتجاه الصحيح لا سيما لدى الشيخ القرضاوي والغنوشي. فالقرضاوي لم يعد يرى بأساً في ترشيح القبطي لرئاسة مصر. والغنوشي تخلى عن رأيه المنشور قديماً،واصبح من القائلين بالمساواة الكاملة بين المسلم وغير المسلم. ولكن هذه الصحوة تحتاج الى تأكيد وتثبيت بأصوات لا تخشى تدين العوام المنفعلين ،ولا سطوة الفقهاء الجامدين،-كما يقول المؤلف-أصوات تؤمن بأن جوهر الإسلام هو القيام بالقسط ،فمن التناقض الأخلاقي والمنطقي،أن يدعو المسلم الى دولة العدل والحرية،وهو يحرم مخالفيه في المعتقد ،ممن تجمعهم به أرحام الدم واللسان والتاريخ والجغرافيا، من التمتع بثمار العدل والحرية.( ص: 572)
إنصافًاً للأكثريات المسلمة: اذا كان قهر الأقليات المسلمة ،والتحيز والتمييز تجاهها، مما ينبغي الوقوف ضده،فمن باب أولى الوقوف ضد قهر الأغلبية المسلمة ومصادرة حقها في تحصين مرجعيتها الإسلامية في دستور يلتزم به قادة الدولة مسلمين أو غير مسلمين. فمن حق الأكثرية المسلمة ان تنص على أن الإسلام ديناً رسمياً للدولة،بما يترتب على ذلك من مرجعية ثقافية ورمزية.ومن حقها كذلك التنصيص في دساتيرها على مرجعية الإسلام القانونية والأخلاقية.ومطالبة المسلمين بذلك ليس استثناءً ،فكثير من الدول تنص في دساتيرها على دينها سواء كانت بوذية أو مسيحية:كاثوليكية أو بروتستانية.
ورغم وجود ديانات رسمية ووطنية في دساتير عدد من دول العالم،ومنها ديمقراطيات عريقة في أوروبا الغربية،تستكثر بعض النخب العلمانية ،وبعض الكنائس المسيحية في المشرق العربي على الغالبية الساحقة من المسلمين النص على الإسلام ديانة رسمية .بل تجهد تلك النخب وهذه الكنائيس في فرض الخيار العلماني على الغالبية المسلمة. لكن إنصاف الأقليات غير المسلمة في الدول العربية والإسلامية ،غير متاح دون انصاف الأكثريات المسلمة.ومن إنصاف الأكثريات إحترام خيارها في صياغة بناء دستوري وسياسي منسجم مع منظورها الإعتقادي والأخلاقي. فمشكلة الأقليات لا تقل عن مشكلة الأكثريات ،والمستبد الذي يضطهد الأقلية هو نفسه يضطهد الأكثرية،فالمعركة واحدة ،والمصير واحد.ومن مفارقات بعض العلمانيين العرب أنهم يكرهون الإسلام ،أكثر مما يحبون الحرية،ويدافعون عن حقوق الأقليات،ويهدرون حقوق الأكثريات.ومثل النخب العلمانية العربية في هذا الموقف،قادة القوى الدولية العالمية الطامعة ،الذين يؤرقهم الإضطهاد المحتمل للأقليات،أكثر مما يهمهم الإضطهاد الواقع على الأكثرية المسلمة .( ص: 575)
صيغ عملية للوحدة: إنَّ ما ذكر من صيغ عملية لترجمة القيم السياسية الإسلامية الى مؤسسات وإجراءات يتركز على الدولة القطرية،ويغفل الأمة في مجموعها كوحدة سياسية ،وليس هذا تجاهلاً لوحدة المسلمين ،بل تأخير مقصود لأنَّ الحرية السياسية داخل الدولة القطرية هو الطريق الأمثل للوحدة في تكتلات سياسية أكبر.ووحدة المسلمين اليوم لا ينبغي فهمها بمعنى ضرورة القيادة السياسية الواحدة لكل العالم الإسلامي،او بناء خلافة عالمية للمسلمين ،كما تنادي بعض الجماعات، فذلك أمر متعذر عملياً ،اضافة الى أنَّه لا يوجد أساس نصي يوجب عليهم أن يكونوا دولة واحدة.فالإسلام أوجب على المسلمين أن يكونوا أُمَّة واحدة ،ولم يوجب عليهم أن يكونوا دولة واحدة، وفرق بين الأمرين،بل فالمطلوب اذا من المسلمين توحيد الإرادة السياسية، والقدرة على التناصر والتعاضد فيما تيسر دون قهر أو إكراه للشعوب الإسلامية. ثم قدم المؤلف روى لثلاث من مفكري المسلمين المعاصرين حول تصورهم لكيفية وحدة المسلمين: الكواكبي ،والسنهوري ،ومحمد اقبال.
فالكواكبي استلهم فكرة الوحدة الفدرالية الأمريكية والألمانية،ودعا الى وحدة في شكل اتحاد إسلامي،تضامني تعاوني،يقتبس ترتيبه من قواعد اتحاد الألمانيين والأمريكيين، ويقوده خليفة يكون رمزاً ومصدراً لوحدة طوعية مرنة بين دول مستقلة، ويشرف على الأماكن المقدسة، التي يكون فيها مقره ولا يتجاوز بسلطته الحجاز.
أما السنهوري فدعا الى ما سماه "عصبة أمم شرقيه"تتسم بالمرونة وتراعي الخصوصيات الإجتماعية والثقافية للشعوب. ودعا الى ايجاد حل يضمن صورة من الوحدة بين الشعوب الإسلامية مع اعطاء كل بلد نوعاً من الحكم الذاتي الكامل.
وقدم مالك بن نبي تصوره لمشروع أطلق عليه "كيمنولث إسلامي "، يتضمن صيغة وحدة مرنة بين المسلمين ،تضم الكتل البشرية الإسلامية الكبرى وهي: العالم الإسلامي الأفريقي،والعالم الإسلامي الصيني المغولي،والعالم الاسلامي العربي، والعالم الإسلامي الماليزي،والعالم الإسلامي الإيراني ،والعالم الإسلامي الأُوربي" واقر بضرورة اخذ الفوارق القومية في الإعتبار ،اذا أُريد للوحدة ان تكون خطة عملية لا فكرة مجردة.وقدم المؤلف ملاحظات على كل مقترح،ودعا الى الأخذ في الإعتبار التطور الذي حدث في العالم في العصور الحديثة ،وبعد صياغة تلك المقترحات الثلاثة.( ص: 576-579).
وصل الأرحام التاريخية: لعل الخطوة الأولى الى الوحدة بين المسلمين، وفقا لما سبق ، وصل الأرحام التاريخية ،بعد أن تقطعت الصلات بين مكونات الأمة، على اثر سقوط الإمبراطورية العثمانية ،وما اعقب ذلك من توترات بين مكوناتها الإسلامية،لا سيما بين العرب والترك. إذ حاول كل منهم عزو تخلفه الى ارتباطه بالآخر داخل الدولة العثمانية،وأن أي نهضة يرجوها الترك لابد ان يتحللوا من الثقل العربي الذي يعيق نهضتهم،وكذلك العرب ربطوا تخلفهم بإرتباطهم بالترك،وأنه لا سبيل لنهضتهم الا اذا رفع عنهم نير السلطة التركية،لكن الواقع أثبت تهافت تلك المزاعم،فلا العرب نهضوا بعد تحررهم من عبء الأتراك ،ولا الأتراك التحقوا بأوروبا بعد ان انفصل عنهم العرب ،ومن ثم دعا الكاتب الى تشجيع العودة مرة أخرى الى اللحمة الإسلامية،وتشجيع الدولة التركية المعاصرة للسير في المشروع الذي بدأته بالتوجه شرقاً والسعي الى التعاون مع الدول العربية، بدل التعلق باوهام الدخول في الإتحاد الأوربي،الذي صرح بعض اعضائه أنه ناد للمسيحيين ،ومن ثم لا أمل لتركيا في دخوله.( ص: 579-582)
الختام: عنون المؤلف لختام دراسته ب:إغماد سيف الإمامة ،مبيناً كيف كانت معضلة الشرعية السياسية أكبر سبب في إراقة الدم المسلم خلال التاريخ الإسلامي ،وما زال الدم يسيل بغزارة بسبب الصراع على شرعية السلطة ومكانة الإسلام في الشأن العام ،وغاية ما تهدف اليه الدراسة الإسهام في اغماد سيف الإمامة المسلول ،وتحويل الصراع حول الشأن السياسي في البلاد الإسلامية الى تدافع سلمي دون إراقة الدماء .
وقد بيَّن المؤلف أنَّه جمع في دراسته بين المدرسة التأصيلية ،والمدرسة التاريخية ،والمدرسة الإجرائية،في دراسة الحضارة الإسلامية، وبعد تعمقه في دراسة القيم السياسية الإسلامية،والتاريخ السياسي الإسلامي ،والبحث عن مخارج من الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية،الذي عرضناه خلال هذه الحلقات، خلصت الدراسة الى ما يلي:
1. إن هذه الدراسة تدل على ثراء واسع في القيم السياسية المنصوصة في الوحي الإسلامي ،وفي ذلك رد على من يسعون الى إبعاد الإسلام عن الشأن السياسي العام من دعاة العلمانية ،ودفع لشكوك المرتابين في صلاحية الإسلام لتوفير الهداية السياسية في الدولة الحديثة والمجتمعات المعاصرة.
2. تثبت الدراسة أن السياق التاريخي الذي ولد فيه الإسلام وتفاعلت فيه تلك القيم ،وانفعلت به لم يكن مواتياً لتفتق الإختيار السياسي الإسلامي وتحققه.لاتسامه بسمتين: الفارغ السياسي العربي الخالي من تقاليد الدولة ،والنموذج الامبراطورية المناقضة لقيم الإسلام السياسية،لكن السياق الديمقراطي المعاصر- بما فتحه من ثراء في المؤسسات والإجراءات -ملائم تماماً لاستئناف البناء على أساس من القيم الإسلامية.
3. إن الضمير المسلم لم يستسلم للإستبداد ابداً رغم القبول الإضطراري بهذا الإستبداد في جل مراحل التاريخ الإسلامي ،وتسرب تسويغه من مصادر أخرى الى ثقافة المسلمين،فإنَّ النصوص السياسية في الوحي الإسلامي والتجربة التاريخية في العصر النبوي والخلافة الراشدة،ظلتا تزعجان الضمير المسلم وتزرعان فيه الإباء عن قبول الظلم السياسي ،وتزرعان فيه نوازع الإصلاح السياسي والاستناف.
4. ايضا خلصت الدراسة الى أن الاستئناف على اساس القيم السياسية الإسلامية يستلزم الخروج من فقه الضروريات وهواجس الفتن الى فقه المبدأ وجسارة الثورة، وترجمة القيم السياسية الى مؤسسات واجراءات دستورية معاصرة.وفد انفتحت ثغرة في المسار الأول مع اندلاع الربيع العربي ،ولا يزال المسار الثاني يحتاج الى جهد كبير واجتهاد ويرجى أن تكون الدراسة نافذة اسهام مقدرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.