شمل الجدل حول العلمانية كافة من يعرف ويتكلم عن دراية ومن لا يعرف ولا دراية له به ، وسواء أكان هؤلاء أو أولئك ، فهو مجرد طق حنك ، وكلام سفسطائي وترف لا نملك أسبابه . فمن ينظر للواقع السوداني ويملك أدنى مقومات التفكير الناضج يستطيع أن يقول أن ما يواجه الناس ليس الكلام عن علمانية الدولة أو تدينها ، ولكن وجودها في حد ذاته. فالبلد تحيط به مهددات لا حصر لها ، وكل مهدد فيها من الخطورة بمكان ، من المأزق السياسي الذي وضعنا فيه ، وأصبحنا عالقين ما بين حكومة مدنية شبه مشلولة ، وعسكر يسيطرون على الموقف في الظاهر وعيونهم على السلطة لو وجدوا لذلك سبيلا ، وبين العناصر المسلحة التي يبدو أنها ضائعة تحت سماء الخرطوم ، ولازال قادتها يغذون أفكار منسوبيها بمخدر العنصرية ، وقد تركوا أهلهم نهبا للموت والتشرد ، وبين قوات الدعم السريع التي لا قضية لها تقاتل من أجلها إلا الحفاظ على ما وضعت يدها عليه من ثروات البلاد . في ظل واقع مأزوم بكل معني الكلمة ، يضيع المواطن وينسحق تحت وطأة الأزمات المعيشية الطاحنة . بعد كل هذا لايزال البعض يجادل حول العلمانية والمدنية ، ووجد بعض الأئمة والشيوخ الريح مواتية فأبحروا مع التيار . يبدو أننا فعلا الآن كأهل أثينا ، في الوقت الذي كان جيش الرومان يحيط بهم من كل جانب ، كانوا غارقين في جدل " هل الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة " وفر عبد العزيز الحلو المادة التي يريدونها ، بإصراره على طرح علمانية الدولة في كشرط للدخول في عملية السلام ، وتلك هي رؤيته ، لن نحاسبه عليها ، ولكن لنا سؤال وهو " هل يتسق هذا الشرط ويناسب ما نحن فيه من أزمات تكاد تعصف بالوطن " هل هناك أولوية تتقدم على أزمة الخبز وأزمة المحروقات وأزمة الكهرباء ، هذا على صعيد معاش المواطن المسكين الذي لا يعرف كيف يعيش الآن ، وكيف يعلم أولاده وكيف يعالج مريضهم . وعلى صعيد الأولويات : هل هناك أولى على الصعيد الأمني من انفاذ الترتيبات الأمنية ، وهل هناك أولوية سياسية أولي من تكوين المجلس التشريعي ؟؟؟؟؟ من يتكلم الآن عن العلمانية ، ويتباكى على الشريعة التي في رأيهم أنها في خطر ، عليهم أن ينظروا تحت أقدامهم وأمامهم ليروا الخطر الحقيقي ، فالدين له رب يحمية ، ولستم أنتم الذين لا تعرفون من الدين إلا وجه واحد وتتركون ما جاء الدين من أجله وهو الإنسان . فإذا لم يرتب معاش المواطن ولم يستقر أمنيا ونفسيا ، ويجد العلاج والتعليم في حده الأدنى ، فكيف يسمع لجدلكم هذا ؟ وكيف له أن يتجاوب معكم ؟ مصيبتنا في السودان أننا لا نعرف ما هو المطلوب منا ، لقد خلط الكيزان اللئام الحابل بالنابل ، وانتهز الجهلة وأنصاف المتعلمين الفرصة فتسلقوا السلم ، منهم من صار بقدرة قادر رتبة في الجيش ، ومنهم من أصبح وزيرا وقاضيا وإعلاميا وإماما شيخا يتكلم فيما لا يدركه ولا يفهمه . والكل له رأى وخلفه " هتيفة " ، اختلطت الأمور تماما ، فالعسكري يتكلم في السياسة ، والمتشيخ يفتى فيها ، والجاهل يتكلم عن العلمانية وهو بالكاد يفك الخط وبين هؤلاء وأولئك يكاد الوطن يضيع ، ونراه يوما بعد يوم يدخل من أزمة ولا يكاد يخرج منها حتى يدخل في أخرى . ولا من عاقل يعيد الأمور إلى نصابها . لابد من أن يستفيق الشعب ، ذلك المارد الذي ينظر في تململ ظاهر لهذا العبث الذي يجري أمامه . من يظن أن الثورة هي ما نراه الآن واهم ، ومن يظن أن هذا مبلغ ما يريده الناس يخادع نفسه . الشباب الذي صنع الثورة قادر على أن يضع كل واحد في حجمه الصحيح ، وغدا سيكنس كل هذا الغثاء ويعود نهر الثورة صافيا يجري في سهول بلادي . وكنا نطمع في معظم الذين نراهم الآن ونعجب من أمرهم ! كنا نطمع في حمدوك وفي وزرائه ، وفي قحت من ورائه ، والحركات المسلحة ، وحتى العسكر بمن فيهم حميدتي وبقية الذين يتصدرون المشهد السياسي الآن . كنا نطمع في الجميع أن يعوا خطورة المرحلة ، وأن يتكاتف الجميع من أجل أنيتجاوز الوطن عثراته ، وأن يسموا فوق طموحاتهم الشخصية ، ويتنازلوا عنها ، لأنهم واهمون إذا ظنوا أن هناك من سيخرج من أي إنهيار يلحق بالبلد منتصرا . ودونكم بلاد وصل بهم طوحهم الشخصي وانتماؤهم القبلي أو العقائدي او الحزبي لدرجة الاحتراب والاقتتال فدمروا بلادهم ، وندموا على ذلك حيث لا ينفع الندم . متى يعي الجميع الدرس ، فهذا البلد يسعنا جميعا ، بكل قبائلنا و احزابنا ومعتقداتنا ، ولا يمكن أن يتحكم فيه فصيل أو جماعة . علي هؤلاء أن يفيقوا قبل أن يضطرهم الشعب للاستيقاظ وركلهم خارج المشهد ، تماما كما ركل الكيزان من قبلهم . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.