سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن تسليم الدفعة الثانية من الأجهزة الطبية    مشاد ترحب بموافقة مجلس الأمن على مناقشة عدوان الإمارات وحلفائها على السودان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجذوب مجْمَع البحرين .. بقلم: عبد المنعم عجب الفَيا
نشر في سودانيل يوم 23 - 04 - 2021

الشاعر السوداني محمد المهدي المجذوب (1918-1982م) مدرسة شعرية قائمة بذاتها، ويمثل عندنا ملتقى تيارات الحداثة الشعرية بالمدرسة التقليدية. فهو لم يتعصب لأنصار القديم ولا لأنصار الجديد، وإنما أخذ بأفضل ما عند الطرفين، وترك نفسه على سجيتها، بلا قيود مذهبية. يقول عن ذلك:
"لقد ذهب أولاد العرب إلى أوربا ورأى بعضهم من الآداب والفنون شيئا بالغ العظمة، وبهرهم فألغوا ما نشأوا عليه من آداب فكانوا مقلدين تابعين، وعادوا إلينا بهذه المشهيات الأفرنجية من كلاسيكية تقليدية وأخرى مجددة ورومانسية ورمزية وواقعية إلى آخر هذه الأطباق والأزياء. مثلهم في هذا مثل الذين قعدوا في التراث العربي لا يتحركون، قدسوه، ولم يستطيعوا الخروج عليه فكرروه وأكثره لا قيمة له. كلا الفريقين سلبي في إنسانيته. ولقد حيروني قبل زمان، وأصابني الشك، فتوقفت، ثم عدت لأكتب شعري على كيفي، غير مبالٍ بالفريقين لأحساسي العميق بأن الشعر السوداني مأخوذ من أعماق هذا البلد في أي صورة جاء"(1).
بدأ المجذوب كتابة الشعر في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين، على النحو الذي تكشف عنه دواوينه المنشورة. والواقع شهدت هذه الفترة ظهور عدد كبير من الشعراء السودانيين ينتمون إلى مذاهب شتى، الحقيقة لم يكن مجدياً في هذه الحقبة، تصنيف شاعر ما، إلى مذهب شعري بعينه، فقد تلاقت المذاهب وامتزجت الكلاسيكية بالرومانتيكية بالواقعية بالرمزية.
ومن أبرز الشعراء الذي ظهروا في تلك الحقبة: إدريس جماع، محمد محمد علي، سعد الدين فوزي، عبد الله الطيب، الناصر قريب الله، محمد المهدي المجذوب، منير صالح عبد القادر، الهادي آدم، وآخرون. وكل هؤلاء الشعراء كانوا يعتمدون عمود الشعر في نظمهم، غير أن القصيدة عندهم قد تخلصت من الكثير من سمات القصيدة التقليدية وأغراضها، إذ لم يعد قرض الشعر محصورا في شعر المناسبات، فصارت كل الموضوعات صالحة للشعر، وأصبحت اللغة العربية المعاصرة هي لغة الشعر.
وبرغم من أن شعر المجذوب، يغلب عليه النظم على عمود الشعر العربي، إلا أنه كتب بكل الأشكال الشعرية: عمودي، وشعر تفعيلة، وقصيدة نثر (نعم قصيدة نثر بكل جمالياتها التي تكتب بها الآن) كما سنرى.
وقد ضم ديوانه الأول الضخم (نار المجاذيب) 1968 عددا من قصائد (شعر وحدة التفعيلة) يرجع تاريخ بعضها إلى أوائل الخمسينيات، وبذلك يكون المجذوب من رواد شعر التفعيلة في السودان والعالم العربي. ومن أجود هذه القصائد وأشهرها قصيدة (المَولِد) المكتوبة في 1957 والتي يشدو بها المطرب الكبير عبد الكريم الكابلي. فهي لوحات شعرية رائعة مرسومة ببراعة بريشة فنان قدير تكاد صورها تنطق بين يديك من شدة دقتها وحيويتها ورشاقة انتقالاتها السينمائية. "وما كنت أعد نفسي من الشعراء، فقد اشتهيت أن أكون رساماً ولم أفلح"(2).
أما ديوانه الثاني (الشرافة والهجرة) 1972 فيقول عنه في المقدمة: "كل قصائد هذا الديوان مقفاة إلا واحدة منثورة، وأخرى لا تلتزم بقافية. وكتبتُ شعر هذا الديوان في الفترة 1941 إلى 1972". وبالنظر في قصائد الديوان وجدنا إن القصيدة "المنثورة" هي قصيدة (زعيم) وهي "قصيدة نثر" كاملة الدسم.
وفي العام 1976 أصدر المجذوب ديواناً صغيرا بعنوان (البشارة، القربان، الخروج) كرسه كله أو جله لشعر وحدة التفعيلة، غير أني أرى أنه لم يحقق النجاح المطلوب. ثم أصدر ديوانيين ضخمين في سنة 1981 هما: (تلك الأشياء) و(منابر) يغلب عليهما الالتزام بعمود الشعر.
وفي الفترة ما بين 1980 حتى تاريخ وفاته في 1982 نشر المجذوب حفنة من القصائد بمجلة (الدوحة) القطرية، وأذكر أنني كنت اطلع عليها في حينها بالمجلة المذكورة ومنها ما لا أزال احتفظ به وهي قصيدة (أم الناس) التي نشرت بعدد يناير 1982 من المجلة، يقول فيها:
يا بائعةَ الكِسْرةِ
ألقاكِ
الشاشُ الأبيضُ بين يديك غمامٌ نامتْ فيه لفائفُك الغناءْ
يا سمراءْ
أهواكِ أصابعُ صبرك والعملُ الموصول الجيدُ لبُّ نقائكْ
ورزانتكِ الشماءْ
...
يا أم الناسِ جميعاً لا يشرون الكِسْرةَ بل يجنون بهاءَ صفائك
أقبلتُ عليك أطهر نفسي من أعبائي
أتعلمُ منكِ الخيرَ الكاسبْ
أتعشقُ حسنك والإحسانْ
وأضاحكُ فيك عزائي.
وكان المجذوب قد خصَّ ديوانيه (نار المجاذيب) و(الشرافة والهجرة) بمقدمات قصيرة مركزة ومكثقة يحكي فيها طرفا من حياته وطريقته في الشعر وعذاباته معه، وعن نظرته للناس والحياة. وهذه المقدمات قطع أدبية في حد ذاتها، آيات من السحر والبيان، تطربك كما تطربك قصائده الجياد، لما فيها من شعر وغنائية، وبوح صادق بليغ عن خويصة نفسه مما يحسه ويعانيه.
وأبرز ما يمتاز به شعر المجذوب، إنه غناء صادق ومناجاة للذات. يقول: "وكنت أصنع هذا الشعر على أحوالٍ مختلفات.. وقد حاولت التعبير عن نفسي بصدق..، ولقد أفدت كثيراً من مخالطة الناس خصوصاً المساكين، فلديهم صدق أخّاذ نفعني وشفاني"(3).
والصدق هنا في كل الأحوال، هو الصدق الفني والأخلاقي، أي صدور الشاعر عن ذات نفسه بلا إملاء أو رياء أو نفاق أو طمع في مكسب أو مدح أحد رهبة أو رغبة. ولا يصطدم هذا الصدق الفني، بقولهم: "أعذب الشعر أكذبه" لأن الكذب هنا ليس الكذب الأخلاقي المنهي عنه، وإنما الخلق الفني والمبالغة في دقة التصوير واستعمال المجاز.
والصدق عند المجذوب ليس كلمة تقال، بل تحسه في وهج الشعر وحرارة الانفعال. فهو ذو حس شعري مرهف ووعي تاريخي واجتماعي حاد، مما يولد في نفسه حالة من المعاناة والتوتر في مجتمع محافظ ملىء بالرياء والنفاق الاجتماعي والتملق.
يقول: "وأعياني حبي للصفاء فاعتزلت، وأحاسب نفسي، واتهم صدقي وأتعب، وأوسوس واتشاءم. وقد علمت، غير نادم، أن التطرف في الحب والولاء، لا يؤذي إلا صاحبه، والنفوس شحاح، والانصاف على الصفاء، هو الأكسير. وشجرة الأكسير كانت على الذروة من جبل كسلا، وليس غيرها في الدنيا، قيل صعد إليها رجل واقتلعها! أين الرجل؟ ولكني لن أسام طلب الخير لنفسي ولغيري"(4).
وأنت واجد شيئاً من ذلك في قصيدة (صورة) من (الشرافة والهجرة) ونوردها كاملة:
جبَلتُ شيئاً فلما رحتُ أُمْسكهُ
لم ألقَ شيئاً سوى كفِّي وأنفاسي
ولم أجدْ غيرَ معنى الشوقِ في خلدي
أفقاً يعزُّ على مرآةِ قِرطاسي
ضوءٌ من العدمِ المجهولِ يسمعه
شعري ينادم كأساً بين أرماسِ
وخطرةُ المرحِ المحجورِ غانيةٌ
منها كليبٌ يروي سيفَ جساسِ
ما دمتِ فيَّ شعوراً لستُ أبصره
وليس يفصحُ عن أكمامِ أغراسي
ففي دموعي لكِ العتبى وكم عَرفتِ
يأسي، وحسبيّ إيماني ووسواسي
مع ملاحظة أن أول كلمة بالقصيدة هي (جَبَلتُ) وليس (جَلبْتُ). وجبَلتُ من الجِبِلّة أي الخلق والخِلقة والفِطرة. قال تعالى: (ولقد أضل منكم جِبِلاً كثيراً ) أي خلقاً كثيراً. ولعل مراد الشاعر هو أن يقول: أبدعتُ أو صوَّرت وأوجدتُ شيئاً محسوساً في مخيلتي وعقيدتي ووجداني. وفي كل الأحوال، سواء قال الشاعر: جبَلتُ أو جلبتُ، لا يغير ذلك في المعنى والوزن شيئاً. فالقصيدة من بحر البسيط التام.
التنازع بين عالم الشرافة وعالم الهجرة:
أول ما يحسه قارىء شعر المجذوب، في كافة مراحل تجربته الشعرية، هذا التنازع والانقسام النفسي بين القيم الموروثة، والقيم الحديثة المكتسبة، بين تعليم الخلوة وتعليم المدرسة ومعارفها، بين القرية والمدينة، بين الواقع والمثال، بين الانتماء إلى الجماعة وبين نشدان الحرية الفردية إلخ.
ويصف المجذوب هذا التنازع والانقسام ب"الحوار" بين عالم الشرافة وعالم الهجرة. الشرافة إشارة إلى تعليم الخلوة وقيم القرية، والهجرة، الهجرة إلى المدينة والحداثة وقيمها. والشرافة من التشريف إذ كان شيخ القرآن يشرِّف لوح الطالب كلما حفظ جزءاً من القرآن بأن يرسم عليه مريعات ودوائر وبعض آيات من القرآن، تبركاً وتحفيزاً.
يقول: "الحوار الموصول بين حنينه الموجع إلى معرض الشرافة الأول وجماله النافع البرئ، وبين الهجرة المرهقة في طريق المدينة المسدودة الخطرة مبثوث في هذا الديوان.. لم ينته الحوار، لم يعتدل الميزان بعدُ، والأصوات كثيرة، ويصغي العبد الفقير كاتب هذه السطور إصغاء طويلا ينتظر الصوت الواحد: صوت حريته في الآخرين. المعاناة شفيعي إلى الصدق"(5). انتهى.
في قصيدة (سيرة) بإمالة الياء، يحنُّ إلى عالم الشرافة "وجماله النافع البرئ" وهو بالخرطوم، مدينة الترك، كما يصفها:
أنا أهواكِ يا بلادي ما واليتُ غرباً ولا تبدلْتُ شرقا
ما طموحُ المُوَظّفينَ إلى الجّاه طموحي مع المساكين أبقى
آهِ منْ قريتي البريئةِ لا تعلَمُ كمْ في مدينةِ التركِ أشقى
أشتهِي الدِّلكةَ العَميقةَ والكرْكارَ والقَرْمصيصَ ماجَّ وَرقّا
وبعيني قوافلُ النخلِ، والنيلُ حَداها، تجئُ وسقاً فوسقا
برَدَتْ جرَّتي وذا القرعُ المَنْقوشُ يسقي حلاوةَ النيلِ طلْقا
وكان الشاعر قد درس بالخرطوم المدرسة الوسطى وكلية غردون حيث تخرج محاسباً. يقول عن تلك الأيام: ""كان التلاميذ في المدرسة من أعاجيب المدينة، يضحكون من لهجته القروية، وكان لا يشك في كفر من يدخن سجارة، وبدأت خلوته مع نفسه في منفاه. لم يكن له صديق ولا يزال واقفا في ذلك الطابور، يخرجه منه الشعر وتعيده إليه لقمة العيش"(7).
وليس أدل على ذلك من القصيدة القصيرة التي وضعها في أول صفحة بديوانه (الشرافة والهجرة) واختار لها عنوان (معرفة) وتتألف من بيتين:
وحدي أعيشُ على بؤسٍ ومعرفةٍ
وأكتبُ الشِّعرَ ألواناً من الوجعِ
وما ندمتُ على ضوءٍ ظفرتُ بهِ
صبراً أنيساً ونجماً غيرَ منتزعِ
ويبلغ التنازع بين العالمين قمته إلى الحد الذي يكفر فيه الشاعر بالعلم وبالوظيفة وحياة (الأفندية) ويسخر مما تعلمه وورثه من آداب ومعارف وأنساب وعادات وتقاليد، بل ويصف نفسه ب(الشرير المتعلم) وهو عنوان قصيدة بديوان (الشرافة والهجرة) يقول فيها:
قلماً تخذتَ فهل يفيدُ ولم يُزِلْ
بَلماً وعلمُك لصُّكَ المُترقّبُ
أكففْ يديك عن التيوسِ وسعتَها
حلباً يطول فأيُّ شيئٍ تحلبُ
العلمُ ليس وظيفةً تحيا بها
فرداً وشعبك أمره متشعبُ
وقصيدةٍ لك صيّحتْ في قرعةٍ
وابن السبيلِ بعاهةٍ يتكسبُ
إلى أن يقول:
ومللتُ من شِعر الأعاربِ ما بهِ
إلا مهانةُ جائعٍ يتقرّبُ
طبلٌ أدقُ بهِ وما في رجعِهِ
شئٌ سوى أني أصيحُ وأصخبُ
النيلُ من غبشٍ فليس بأخضرٍ
وتميلُ باديةٌ عليهِ وتشربُ
عربٌ وما سمعوا بسيرةِ أحمدٍ
وسألتُ آدمَ هل أبوهم يَعرُبُ
وقفوا على وجهِ الحضارةِ زاهياً
وتعوذوا من حسنها وتهيبوا
جعلوا القصورَ أثافياً وأراحَهم
طللٌ وتسآلٌ عليه مخيّبُ
فُطِروا على الجدلِ العقيمِ سيوفهم
بكلامهم في مسجدٍ تتوثبُ
وسلاسلُ الأنسابِ حولَ رقابهم
تُروَى كما يُروَى القصيدُ وتُكتبُ
دقوا شفاه بناتِهم لم يشفهم
وسمُ الشلوخِ ولا الخفاضُ المرعبُ
أألومهم وألِفتُ بين ربوعهم
قيدي ونفسي بينهم تتغرّبُ
على أن تنازع نفس الشاعر بين عالم الهجرة، وعالم الشرافة، لم يبلغ حد الانطواء واعتزال الحياة والاكتفاء باجترار الاحساس بالفقد والضياع، بل ظل الشاعر ثائرا بشعره ومواقفه في سبيل نهضة وطنه وخدمة الناس يحلم بغدٍ أفضل وكان له دائما صوته الخاص في كل قضية عامة سياسية أو اجتماعية، وأحيانا تأتي رؤاه ذات طابع تنبؤي شأن كل شاعر عظيم.
وفي سنة 1945 وفي نضارة الشباب أسس المجذوب وثلة محدودة من أصدقائه الثائرين والناقمين على الأحزاب التقليدية، حزبا سياسيا صغيرا بزعامة الأستاذ محمود محمد طه، اسموه الحزب الجمهوري، لمناهضة الاستعمار الانجليزي، مطالبين بتطبيق النظام الجمهوري في السودان ومن هنا أخذ الحزب اسمه.
وقد اختار هؤلاء الشباب المواجهة المفتوحة مع سلطة الاحتلال من خلال إقامة الندوات وتوزيع المنشورات السياسية، فتعرضوا للإعتقال والمحاكمات. فحكم على رئيس الحزب محمود محمد طه بالسجن مرتين خلال فترة وجيزة، وأنت واجد بدواوين المجذوب أكثر من قصيدة في تمجيد رئيس الحزب.
غير أنه بعد خروجه من السجن في المرة الثانية طلع محمود محمد طه، على الناس، بدعوة تجديدية للإسلام مثيرة للجدل. وبذلك تحول الحزب الجمهوري منذ 1951 إلى حزب ديني، ولكن المجذوب تخلف عن الانخراط في الدعوة الدينية الجديدة وآثر الابتعاد.
ومن أصدقاء المجذوب الذين أسسوا معه الحزب الجمهوري، صفيه وخليله ونديمه، الشاعر منير صالح عبد القادر الذي ترد الإشارة إليه في أشعار المجذوب أكثر من مرة. ففي ديوان (الشرافة والهجرة) هناك قصيدة بعنوان (منير والليل) وهي من جياد قصائد المجذوب. والقصيدة من بحر الطويل، يقول فيها:
شربْتُ ففي رأسي دويٌ مجنَّحٌ
وفي بصري أشباحُه والمجاهلُ
وأمشي وما أمشي فراقصتُ سَكرةً
تُفرِّقُني فيها بجسمي زلازلُ
تداركني بالكأسِ كالنجمِ قاصياً
منيرٌ ورأسي في يدِ الليلِ مائلُ
ينادي منادٍ في رؤى السُكرِ صائحٌ
بعيد الصدى أجراسُه والمشاعلُ
خذِ الكأسَ واشربْ بل تزوّد فربما
رحلنا فهذا الليلُ بالأرضِ راحلُ
ثم يقول:
أبيتُ يساقيني منيرٌ وربما
تهاوَى فيصحو ودّهُ وهْوَ غافلُ
وروَّيتُ فقري مِنْ ثراءٍ بكفهِ
نضارٌ من الكوبِ المسيحي حافلُ
نقاتلُ أحزاناً وحُباً وموطناً
تُقاتلنا فيه القيودُ القواتلُ
تمنيتُ أنّ الشّعرَ أمنٌ وغلفةٌ
ولكنّه صحوٌ مع الهمِ شاغلُ
السودانوية والوعي القومي المبكر:
ويمكن القول إجمالاً إن نهج المجذوب في كتابة الشعر امتداد، لنهج حمزة الملك طمبل. فالمجذوب معجب بطمبل اعجابا عميقاً إلى الحد الذي وصفه فيه بأنه أول شاعر سوداني حقيقي، يقول عنه:
"ولقد أحس رجل واحد له خطر، بالضيق من حال الشعر في السودان، ونحن نأسف أشد الأسف لأنه ظل وحده، فقد نقد الشعر السوداني في العشرينات، وأظهر ضعفه وكتب كتاباً في ذلك، ثم خرج على الناس بديوان شعر عام 1931م وضرب به مثلاً على المذهب الجديد حقاً في الشعر، ولقد كان بذلك، والحق يقال، أول شاعر إبداعي في تاريخ في الشعر السوداني. هذا الرجل الممتاز هو الشاعر السوداني الأصيل حمزة الملك طمبل"(7).
هذا، وقد قادت نظرة طمبل "السودانوية" المجذوب إلى الالتفات إلى المكون الأفريقي، الإثني والثقافي، في الذات السودانية. وكان أبناء جيله والأجيال السابقة عليهم، يغفلون هذا الجانب في ذواتهم، ويكتفون فقط بالتغني بالانتماء العربي مكوِّنأ وحيداً.
ويخطئ من يظن أن المجذوب وعى بهذه الحقيقة إثر عمله بجنوب السودان. والواقع أنه وعى بقيمة المكون الأفريقي قبل سفره للعمل بالجنوب، تجد ذلك مبثوثاً في أكثر من قصيدة، أبرزها قصيدة نظمها ببورسودان سنة 1953 كما هو مثبت بديوان (نار المجاذيب) وهي قصيدة (فجرٌ كذوب) التي كتبها بمناسبة إبرام اتفاقية تقرير مصير السودان، مشفقا على ما سوف يؤول إليه حال الجنوب عند الاستقلال، ومنتقدا الحكومة والأحزاب السودانية التي شاركت فيها ويفاخر فيها بأصله الأفريقي:
عندي من الزّنجِ أعراقٌ معاندةٌ
وإن تشدق في أشعاري العربُ
ويبدو أن القصيدة أثارت غضب السلطات فصدر الأمر بنقل المجذوب من بورتسودان، بأقصى الشمال الشرقى، إلى مدينة واو بجنوب السودان. فانتقل المجذوب إلى هنالك مغاضبا ولم يذهب إلى الجنوب بمحض إرادته بحثا عن ملذات خاصة فشل في إشباعها في الشمال كما أوحى بذلك الدكتور عبد الله علي ابراهيم في مقالته (الأفروعربية أو تحالف الهاربين) وسايره في ذلك الدكتور النور حمد في مؤلفه (مهارب المبدعين). فالمجذوب لم تكن له نزوات، عجز عن التعبير عنها في الشمال، ليهرب لإشباعها في الجنوب، فقد عاش حياته بكل الصدق مع النفس مما تجده معبراً عنه بدواوين شعره العديدة.
وبعد وصوله إلى مدينة واو بالجنوب، نظم المجذوب، في أبريل 1954 قصيدة (انطلاق) بديوان (نار المجاذيب) يبث فيها شكواه عما لحق به من ظلم وجارت عليه به الوظيفة الحكومية وما عاناه من حياة النفاق الاجتماعي وسخائم النفوس في الشمال:
أمِنْ برغوثَ أعجلني قضائي
إلى بحر الغزال! فما نرومُ
وكم عِلمٍ تطيرُ به الأماني
تهوَّر تحته بطلٌ هزيمُ
ولي أجرٌ أُطاردُه فينأى
مَطولٌ، كم يُسخِّرني لئيمُ
ولو كنتُ الأجيرَ لدى المآسي
لجارتني ولي أجرٌ عظيمُ
و"برغوث" إشارة إلى بورتسودان التي نقل منها رأساً إلى الجنوب. وبرغوث اسم شيخ صوفي مدفون فيها. ويبدو أن الشاعر قد وجد في الجنوب شيئاً من الصفاء والسلام الداخلي مع النفس الذي كان ينشده، وأعجب ببكارة الحياة هناك وبساطتها وخلوها من التعقيدات الاجتماعية وببساطة وصدق وعفوية الناس. يقول في القصيدة ذاتها:
وأرضاني الجنوبُ فما أُبالي
بمنْ يصم العُراةَ ومن يلومُ
هم عشِقوا الحياةَ فعاشرتهم
كما تبغي المشاعرُ لا الحلومُ
فليتي في الزنوجِ ولي ربابٌ
تَميلُ به خطايَ وتَستقيمُ
وفي حَقويَ من خرزٍ حِزامٌ
وفي صدغيَّ من وَدعٍ نظيمُ
وأجترعُ المريسةَ في الحواني
وأهذِرُ لا أُلامُ .. ولا ألومُ
طليقٌ لا تقيدني قريشٌ
بأحسابِ الكرامِ ولا تميمُ
وما الفردوسُ سوى هوى مطاعٍ
وفي عصيان شهوتي الجحيمُ
فمن ذا يبلغُ الأشياخَ عني
بأني في مسابحهم أثيمُ
أقاموني على التقوى صبياً
أباحَ سماءَه طبعٌ رجيمُ
تركتُ القيدَ عند أبي لغيري
وقيدني التجاربُ والهمومُ
ثم يختتم القصيدة بقوله:
وأرتضعُ السجارةَ وهي أنثى
تأوَّهُ في يديَّ وتستنيمُ
بقيةُ نجمةٍ قُصوى أراها
حِيالي والرمادُ لها غيومُ
وأنفُضُها لأُوقِظها فتكْرَى
كما يَكْرَى من التعبِ السقيمُ
ولا أُلقي بها إلا هباءً
أبَرَّ بها من القدمِ النسيمُ
المجذوب وقصيدة النثر:
ذكرنا أن المجذوب كتب الشعر بكل الأشكال الشعرية المعروفة: عمودي، وشعر تفعيلة، وقصيدة نثر. يقول عن نفسه: "ليس شرطا عندي أن يكون الشعر موزونا مقفى"(8).
وإذا كانت قصيدة التفعيلة، قد التزمت بالعروض الخليلي لكنها عمدت إلى تفتيت وحدة البيت، فإن قصيدة النثر، لا تلتزم بالأوزان الخليلية المعروفة ولا بنظام القافية التقليدي، فهي كتابة نثرية حرة تطمح أن تتجسد في شكل قصيدة مستفيدة من خواص الشعر الأخرى من موسيقى الألفاظ وموسيقى الأفكار والمعاني ومن التناظر والمقابلات بين المعاني والصور والأخيلة والرؤى والإيحاءات.
بدايات هذا النمط من الكتابة الإبداعية في السودان ظهرت في شكل محاولات معزولة متباعدة، لكن يمكن القول إن عقد التسعينيات من القرن الماضي قد شهد ازدهار قصيدة النثر في السودان، حتى صارت لها الغلبة مع نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة، في إنتاج الشعراء الشباب في السودان.
وأُرجّح أن بدايات قصيدة النثر في السودان تعود إلى سبعينيات القرن العشرين. واستطيع القول إن محمد المهدي المجذوب، (وأرجو أن أكون مصيبا في ذلك) أول شاعر سوداني يكتب (قصيدة نثر) بكامل عناصرها وجمالياتها وفي أسمى صورها التي تكتب بها الآن عند الشعراء المجيدين لهذا الضرب من الكتابة الشعرية.
وأعني بذلك قصيدته (الزعيم) المنشورة بديوانه (الشرافة والهجرة) الصادر في 1972. وكان المجذوب قد ذكر في مقدمة الديوان، أن الديوان قد احتوى على قصيدة واحدة "منثورة"، وذلك من غير أن يحدد اسم هذه القصيدة. وبالاطلاع على قصائد الديوان وجدنا أن هذه القصيدة النثرية، هي قصيدة (الزعيم) التي يقول فيها:
ضحِكتْ ربةُ الخرافةِ استلقتْ على ظهرها ونخرتْ –
أرسلتْ يدها إلى هناك..
أنا الشاعرْ – ضربتُ صدري على وطني الزائفْ
اللِّحى ترجمُ الزقاقْ – المئذنة نخلةٌ مثمرةٌ رجموا حمامَنا بالحجارهْ –
كتابُ الله عاملٌ في الدائرةْ – سألتُها عن بدر،
قالت: طردناه من الشُّغل، زَبلعِي!
إمامٌ يسبُّ الفقراءَ، ذنوبهم كجذع النخلِ أو كما قالْ –
لا يرى إلا مرآته – الأغنياءُ يُصلّون –
يا لطيفْ! – بيوتُ اللهِ خزائنْ – لبيكِ يا نفسي لبيك!
.........
يرقدُ التعايشيُّ التونسيُّ في أبي ركبه – فرَشَ فروتَه..
ينظر إلى رصاصة في جيبه –
حصانهُ مطرِقٌ هناك
وَدْ حبوبهْ الشاعرْ – غنَّى في الكتفيَّه.. مَهديه مَهديهْ
رأسُ المفتش الإنجليزي قافيهْ – ورأسُ المأمور التركي..؟
أجازه علماءُ غردون حبلاَ –
.....
عاش .. عاش..!
وللمجذوب قصيدة طويلة بديوان صغير نشر بعد وفاته، وهو ديوان (شحاذ في الخرطوم) 1984 خرج في نظمه عن الأوزان الخليلية والقافية، فجاءت القصيدة، كتابة نثرية بنفَس شعري لكن يتعذر علينا تصنيفها بصفتها قصيدة نثر، وذلك لافتقارها لخصائص قصيدة النثر في نظرنا.
حاشية:
المقال من كتابنا (الشعر السوداني: من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر) الطبعة الأولى 2020، مدارات للنشر، الخرطوم.
الهوامش والمصادر:
1- محمد المهدي المجذوب، الشرافة والهجرة، دار الجيل، الطبعة الثانية 1982، ص 9
2- محمد المهدي المجذوب، نار المجاذيب، دار الجيل، الطبعة الثانية 1982، ص 13
3- محمد المهدي المجذوب، الشرافة والهجرة، سبق ذكره، ص 11
4- محمد المهدي المجذوب، نار المجاذيب، سبق ذكره، ص 12
5- محمد المهدي المجذوب، الشرافة والهجرة، شبق ذكره، ص 9
6- المصدر السابق ص 8
7- محمد المهدي المجذوب، مقدمة ديوان محمد محمد علي (ألحان وأشجان)، دار البلد، الطبعة الثانية 1998.
8- المصدر السابق ص 10
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.