دعونا نتفق أولاً على أن هناك إحساساً حقيقياً -لدى كثير من الناس- بوجود أزمة في رسالة الصحافة العربية «غالباً».. بمعنى وجود فجوة بين الصحافة والمجتمع المدني.. ومن يزعم ذلك لا يكون قد جانب الحقيقة والواقع مهما كان الرأي المخالف، وهذا الإقرار قد يقودنا إلى طرح سؤال مباشر، مفاده هل جمهور القراء والمجتمع يشعرون بأن الصحافة تلامس وجدانهم، وتستوعب آمالهم وتطلعاتهم، وتعكس واقعهم، وتقدم لهم ما يحتاجون من عمل صحفي إبداعي حقيقي؟.. وكذلك الصحف، هل تشعر بوجود التجانس والتفاهم والتكامل مع جمهور القراء المستهدف؟. دعوني أقول هنا: إن العمل الصحفي -كفنٍّ- هو اجتهاد نسبي في إعداد المادة، وإجادة صياغتها، وإخراجها، وعرض الموضوعات بصورها وفقاً لأهميتها، وكذلك أولوية إبراز الموضوعات، لكن تتفاوت الصحف في مدى تطبيق مدارس هذه الفنون الصحفية، وتتفاوت كذلك في معدل المهنية والاحترافية، ومستوى الإبداع والتجديد والتطور.. وليس غريباً أن يكون هناك تفاوت بين الصحف في إجادة العمل كما هو الحال في المجال الصناعي، ومؤسسات الإعلام الأخرى والمؤسسات التعليمية والصحية وغيرها، ورغم هذا التفاوت والاختلاف في المنهجية لكن صحفنا -في غالبيتها- تكاد تتفق في مسألة وجود أزمة حقيقية عند الحديث عن الصحفي المحترف والمتخصص أيضاً. الإخلاص والحماس والحرص على تنمية إيرادات المؤسسات الصحفية، وتطوير مقراتها ووسائل نقلها، وأجهزتها التقنية، هذه أمور مهمة لكنها ليست كافية لنجاح الصحافة، إذا أغفلت إيجاد الصحفي المحترف المهني المثقف معلوماتياً!!. يوجد إحساس -لدى قطاع واسع من الناس- بأن هناك صعوبة في إيصال المعلومة المجردة الموثوقة الكاملة المفيدة إلى المجتمع المتلقي، وهذه الصعوبة تبدو جليّة من خلال بعض صورها وملامحها بحيث تعطي إحساساً باستحالة حدوث ذلك. ترى ما الأسباب؟ وما الحلول؟ ومن المسؤول عن ذلك؟.. في الماضي القريب، وحتى في الحاضر، نجد البعض يلقي اللوم على مصادر المعلومات ويطالب بالشفافية، لكننا إذا تجاوزنا هذا المنحى، ووصلنا إلى نقطة المعلومة، يتبادر إلى أذهاننا هذا التساؤل: ما الإشكالية في عدم وصول المعلومة بذات الشكل الذي وردت به من مصدرها، وما أسباب تعرضها للتحوير وربما الإهمال، أو تغيير اتجاه مفاهيمها لتصب في غير ما أريد لها من مصب؟!. هل الأمر يتعلق بضعف ثقافة الصحفي الناقل، مما ينعكس على مستوى تقييم المعلومة ومن ثم كيفية التعاطي معها؟ أم أن هناك دافعاً آخر، لا يكاد يبين، والمنطق يستبعد وجود عامل خفي. الإشكالية إذن تتمركز وتتمحور -والحل هكذا- حول الناقل «الوسيط» أي الصحافي الميداني، وهذا يعود إلى فلسفة الصحف في اختيار صحفييها لتغطية الأحداث والمناسبات، ومتابعتها وفق معايير المسؤولين عن التحرير. من أين نبعت إذن هذه المشكلة؟ ومتى بدأت مع الصحفي الضعيف غير المثقف؟.. من الصعب القول: إن بداية المشكلة كانت بعد التحاقه بالصحيفة لأن من الطبيعي أن يطور المرء ذاته بعد التحاقه بالعمل، لا العكس، وهذا يشير إلى أن الإشكالية ملازمة للمخرجات التعليمية في هذا المجال مثلها مثل غيرها في بقية المجالات إن وجدت. التأهيل الجامعي -في هذه الحالة- ليس بمنأى عن توجيه أصابع الاتهام إليه، فتلك هي فترة الصقل والإعداد وتشرب الخبرة من منابعها، كما أن التدريب قبل الالتحاق بالعمل يمثل مرحلة ذات أهمية قصوى من ناحية الإعداد والتهيئة، أما التدريب على رأس العمل فهذا من شأن المؤسسات الصحفية، وهذا ربما يمثل المضمار الذي يتم فيه التنافس الحقيقي، إذ إنه يرتبط بالتزود بخصائص المدرسة الصحفية لكل مؤسسة، فضلاً عن الحرص على التميز في الإعداد لضمان التفوق وجودة المردود. هل هذه الأشياء تحدث بالفعل، وهل كل الصحفيين مؤهلون ومهنيون ومحترفون؟.. وإذا كانت الإجابة بالإيجاب إذن من أين نبعت المشكلة، وكيف حدثت الفجوة التي لا يستطيع أحد إنكارها؟، فالصحف حقاً تشعر بأنها ليست قريبة من المجتمع المدني كما ينبغي، القراء شبه عازفين، الصحف أخذت تقدم لهم الجوائز والمسابقات المغرية قربانا، بوتيرة تنازلية يتدلل فيها القراء بشكل لم يسبق له مثيل. أين مكمن القضية، وما الحل؟ هل لأن الصحفيين المحترفين والمهنيين قابعون في المكاتب، وصغار الصحفيين المستجدين هم الذين يتولون مجابهة مصادر المعلومات؟.. هل لأن المتفرغين يتولون المهام -ربما الصعبة- ولكن في الظل وداخل المطابخ الصحفية، والمتعاونون والمتدربون هم من يواجهون المسؤولين ومالكي المعلومة أياً كان نوعها؟.. هل تحول الإشكال من كيفية الحصول على المعلومة، إلى كيفية فهمها وإيصالها بشكلها الصحيح؟. كيف دخلت منهجية الفبركة إلى بعض الصحف؟ وما أسبابها؟ وما نتائجها؟ وكيف ينظر إليها صناع الصحافة وفقاً للأعراف الصحفية، وأخلاقيات المهنة؟. لا شك المتلقي هو الضحية، وأن المجتمع المدني يدفع ثمناً غالياً مقابل اختلال هذه المعادلة، فمن -يا ترى- يتحمل نتيجة أخطاء الصحفيين غير المؤهلين الذين تكلفهم بعض الصحف بمهام قد تكون أحياناً في غاية الأهمية، وحينئذ تكون أخطاؤهم مدمرة؟. الأخطاء والنقل غير الدقيق أشياء تترتب عليها مسؤوليات وتحقيق حول المعلومة وأخيراً يكون السبب، ضعف الناقل، وضعف ثقافته، وقصور فهمه، وعدم الدقة في نقل المعلومة.. المطلوب ليس فقط من يغطي الحدث بل المهم هو الفهم والتأهيل، والتعمق، والتحقق، وامتلاك الثقة والثقافة، والقدرة على التعامل مع المعلومة بشكل مهني احترافي ينسجم مع رسالة الصحافة. وجود الصحفي المحترف اليوم أصبح ضرورة ملحة، خاصة مع تطور مناهج الحياة ومفرداتها ووسائلها خصوصاً في المجال الاقتصادي والجوانب المالية التي لا تتحمل إسناد الأمر للمبتدئين مهنياً، ناهيك عن التخصص المهني، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية القطاعات التي تحتاج إلى متخصصين لفهم طبيعة المعلومة ومدلولاتها ومراميها والتعاطي معها باحترافية عالية، حتى لا تصبح الصحافة مهنة من لا مهنة له. صحفي بصحيفة الجزيرة السعودية نائب رئيس جمعية الصحفيين السودانيين بالمملكة العربية السعودية TIGANY A.BAGI [[email protected]]