السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النخبة السودانية: المزاج الصفوي والصِراع العقيم (1) ... بقلم: عبد الله الفكي البشير
نشر في سودانيل يوم 20 - 05 - 2010

وتمضي الأمور من جهالة إلى جهالة، حتى يغدوا الفكاك من رقبتها مستحيلاً، إلا بقفزات هائلة في الخيال، أو بثورات هائلة في الروح . الروائي الطيب صالح (1929م- 2009م)
تفصل بين النخبة السودانية وواقع شعوبها، فواصل وحواجز سميكة وكثيفة، يسهل تتبع مظاهرها وجرد مآلاتها وآثارها. كانت النخبة السودانية –ولازالت- ذات مزاج صفوي، ومترفعة عن الواقع السوداني. لقد أشار الدكتور محمد سعيد القدال (1935م-2008م) إلى المزاج الصفوي لدى النخبة، وإلى عملها الفوقي. وتناول أثرهما في نشأة الحركة الوطنية السودانية في بواكير القرن العشرين، وإلى دورهما في علاقة المثقفين بالجماهير وحركة المجتمع. وقد وردت إشاراته في أربع كتب من كتبه: الانتماء والاغتراب، دراسات ومقالات في تاريخ السودان الحديث، دار الجيل، بيروت، 1992م، والإسلام والسياسة في السودان (1651م-1985م)، دار الجيل، بيروت، 1992م. ومعالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، دار الفارابي، بيروت، دار كوش للطباعة والنشر والتوزيع، لندن، 1999م. وتاريخ السودان الحديث 1820م-1955م، مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، 2002م. تحدث البروفسير محمد إبراهيم أبوسليم (1927م-2004م) في دراسته عن محمد أحمد المحجوب والتي ضمنها كتابه: أدباء وعلماء ومؤرخون في تاريخ السودان، الذي نشرته دار الجيل، بيروت، عام 1991م، عن ضعف قوة المتعلمين في المجتمع، وعن العوامل التي أدت لذلك الضعف. وقال واصفاً المحجوب: (كان مترفعاً على الناس لاحساسه القوي بتفوقه ومقدراته ومكانته، ولأنه لا يؤمن إلا بالخاصة، وهم المثقفون عموماً والعلماء خاصة...) . أيضاً، وسم الدكتور عبدالله علي إبراهيم إحدى مقالاته بوسمٍ تضمن وصفاً لعلاقة النخبة بالواقع. وكان وسم المقال: صفوتنا: ضيوف ثقلاء على الواقع . وقال ضمن حوار تلفزيوني بقناة النيل الأزرق الفضائية: هناك الكثير من الشواهد التي تُبين أن هناك فجوة كبيرة بين الصفوة وبين مزاج غمار الناس . وقال الدكتور منصور خالد في شأن النخبة السودانية الكثير الكثير. وتحدث آخرون غيرهم.
الشاهد، أن تعالي النخبة عن الواقع، وصفوية مزاجها، واقع ماثل ومسلك ظاهر. أدى التعالي عن الواقع والمزاج الصفوي لدى النخبة، إلى هامشية علاقتها بالواقع، وتجلى ذلك بوضوح في ضعف المساهمات والمعالجات لقضايا السودان ومشكلاته، وقلة الرسوم للمخارج النيرة لأزماته. أيضاً، جردت هامشية العلاقة، الواقع من فرص الاتصال بالقوة الإبداعية القادرة على وضع السيناريوهات للبدائل والخيارات عبر الكشف الحقيقي لأسباب القضايا ومركباتها. فانتهى الاتصال بالواقع إلى سطحية الفهم وضعف التحليل وتبسيط الأمور وردود الأفعال في المواقف والمسارات. أرجع الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (1942م- 2004م) سطحية معالجة القضايا، وتبسيط الأمور، والضعف في الكشف الحقيقي عن أبعادها، إلى هامشية علاقة المثقفين بالواقع. وقال في قراءته لمسار الحركة السياسية السودانية: (بقيت الحركة السياسية السودانية –ضمن كتاباتها- خارج هذا التراث الضخم "تراث السودان الحضاري"، فافتقرت بالتالي إلى معاناة الأصول المعرفية في تركيب الواقع السوداني، تاريخياً وحضارياً واجتماعياً وفكرياً. بقيت على السطح وفي حدود المقالة السياسية الظرفية. أي تبسيط الأمور كما هي بساطة السوداني الريفي ودون نفاذ إلى عناصر تكوين السودان في حقائقها وتفاعلاتها) .
إلى جانب المزاج الصفوي لدى النخبة، فقد اتسم تفاعلها مع الواقع وتعاطيها مع مشكلاته، وسُبل تغييره بالصراع العنيف والعقيم فيما بينها. فالنخبة بحكم التعليم، والمعرفة وعمق بعضها، معنية بالإنتاج المعرفي، والمساهمة في مجمل الحركة الإجتماعية، واحداث التغيير في المجتمع وتحديد مساراته. كان دور النخبة منذ طلائع المتعلمين، قياساً لقضايا السودان ومشكلاته ضعيفاً. فالتغيير -وهو مطلب القوى الحديثة- الهادف إلى تحقيق التعايش والاستقرار والسلام والتنمية في السودان، لم يتحقق. كانت طبيعة العلاقة بين النخبة، وطبيعة تعاطيها مع مدارسها الفكرية والمعرفية التي ترسمتها في التفاعل مع الواقع، قد اعاقتا قيام النخبة بدورها المنوط بها. لقد شاب العلاقة بين أفراد النخبة، وتنظيماتهم المدنية والحزبية، شوائب كثيرة متداخله ومركبة، منذ ظهورها مع بداية التعليم الحديث في بداية القرن العشرين. فالجفوة الباكرة والمستمرة فيما بينها، والتنافس المحموم، والدسائس والمؤامرات، وعدم الاعتراف بحقوق الآخرين، وحسد بعضها البعض، والصراع العنيف كانت من أبرز مظاهر تلك العلاقة. أشار البروفسير محمد عمر بشير (1926م-1993م) في كتابه: تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900م-1969م، إلى نشأة المشاجرات والنزاعات والخصومات بين طلائع المتعلمين. وأشار إلى اتجاه الحسد كأحد مخلفات نوع التعليم وضعف الملكات النقدية، قائلاً: (والتعليم الذي حظي به المتعلمون لم يستطع أن يطور ملكاتهم النقدية. إذ خَلَّفَ اتجاهاً عقلياً يبلغ في دركه الأسفل الحسد. وفي أحسن صوره إحساساً بالانحراف صوب السفسطة والرومانسية) . كان التنافس المحموم قد صاحب مرحلة البدايات، بداية علاقة النخبة بالقوى التقليدية المؤثرة في المجتمع، وبداية مساهمات النخبة في الواقع السوداني. أرجع البروفسير محمد إبراهيم أبوسليم اخفاق طلائع المتعلمين في قيادة السودان المستقل إلى: (ضعف أجهزته السياسية، وطغيان الطائفية، والتدخلات الخارجية، وفقدان الاتجاه، وأصبح العمل السياسي محصلة للشللية والطموحات الشخصية وعراك القوى والمناورات) . أسس التنافس المحموم الذي تجلى بوضوح في مرحلة تكوين الأحزاب السودانية، إلى الصراع العنيف، وثقافة الثأرات في الممارسة السياسية السودانية. قال الروائي الطيب صالح: (البغضاء وسوء الظن، هو الإرث الذي آل إلى السودانيين في الشمال والجنوب، من الماضي البعيد والقريب، فوقرت في قلوبهم أشياء، بعضها حق وبعضها باطل... الجنوبيون أيديهم ملطخة بدماء الشماليين، وأيضاً بدماء الجنوبيين، والشماليون أيديهم ملطخة بدماء الشماليين كما هي ملطخة بدماء الجنوبيين. كلهم قاتل مقتول. والأمة التي تمعن في جنون كهذا، ولا تدرك أنه جنون، أمة لا تستحق البقاء... كان حرياً بالسودانيين أن يدركوا ذلك من زمن، لما يظنونه في أنفسهم من فضايل الحكمة والعقل والتحضر...) .
زاد عنف الصراع وحدته، مجئ النظريات العالمية والإقليمية (الشيوعية –وهي الأسبق- والأخوان المسلمون، والبعثيون) إلى السودان. لقد وجدت النظريات ذلك الإرث من الصراع السياسي، كما وجدت ترحيب النخبة بها، مع حماسها الوافر، والإطمئنان الكامل لأطروحاتها. قال الدكتور محمد سعيد القدال، متحدثاً عن الأزمة التي أدت إلى حلّ الحزب الشيوعي، وطرد نوابه من البرلمان، بسبب حادثة ندوة معهد المعلمين العالي التي نُظمت مساء يوم الاثنين 9/11/1965م وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً، قال القدال: (ويبدو أن الأحزاب السياسية قررت استغلال الحادثة لتصفية حساباتها مع الحزب الشيوعي. فدفعت بأعداد من مؤيديها لمهاجمة دُور الحزب بالأسلحة وبأسلوب همجي أطلق عليه عبدالخالق "عنف البادية") . ولقد استلف الدكتور حسن الجزولي تعبير "عنف البادية" الدقيق العميق، ووسم به كتابه عن الشهيد عبدالخالق محجوب (1927م-1971م)، عنف البادية: وقائع الأيام الأخيرة في حياة عبدالخالق محجوب، الذي نشرته مؤسسة مدارك للنشر، القاهرة/ الخرطوم، عام 2006م. وقد أشار الدكتور الجزولي لذلك في متن الكتاب، وأضاف في أحد هوامش صفحاته، أن التجاني الطيب بابكر سكرتير اللجنة المركزية للحزب، أوضح له أن عبدالخالق استخدم تعبير "عنف البادية" فيما بعد أيضاً، لوصف الكثير من أحداث العنف التي واجهها الحزب، خاصة في أعقاب مصادرة نشاطه السياسي عام 1965م .
كانت أركان النقاش في جامعة الخرطوم، التي انتقلت سنتها لاحقاً إلى الجامعات الأخرى، محطة مهمة في تشكيل الوعي الفكري والسياسي. فالفكرة في حد ذاتها، فكرة إيجابية؛ إذ أنها تساهم –أو يفترض- في تنمية الوعي الفكري والسياسي، وتخدم التنوير وصناعة القيادات. ولكنها منذ وقت باكر أضحت محطة أساسية في تنمية الصراعات الفكرية والسياسية، وعنصر قوي في تضييق مساحات الديمقراطية والآخر في البناء الداخلي للطلاب. قال الدكتور عبدالله علي إبراهيم متحدثاً عن الصفوة: (فلن تجد في كتاباتهم إشارة لكتاب أو مادة من أي نوع في الشأن الذي يناقشونه. ربما وجدت بيت شعر أو أغنية أو شيئاً من الأثر. وما عدا ذلك فحنك تربى في حقول أركان النقاش: سنين وأصنج) . وأضاف في مقالة أخرى: (ولم يخلق الله الجامعة لهذه الطائفة وحرب العصابات. فهي مصاهر للتربية تأخذ الآخر وفكره بعين الاعتبار طلباً للحقيقة. ولكن أركان النقاش غير. إنها ساحة لصراع الديكة بمناقيرها الجارحة ومخالبها الغاشمة. فالآخر فيها عدو أو هو الجحيم كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. وتبطل رسالة الجامعة متى استباح الطالب فيها الآخر. وخير من اعترف بجريرة الأركان هو السيد محمد أشرف خريج جامعة الخرطوم ذات يوم بمنبر "سودانيزأولاين". فقال: "أركان النقاش محطة مهمة في تشكيل وعيِّ وتخريبه... أسوأ ما يمكن أن يتعلمه الكادر الخطابي من الأركان أن الآخرين هم دائماً مشاريع للاختلاف وإنو فكرتك لا بد أن تنتصر مقابل فكرة الآخرين"...) .
لقد أضرت النظريات بالصحة السياسية السودانية، في كل مساراتها، ولازال ضررها يزيد يوماً بعد يوم. لقد سعت كلها –بعد أن وجدت سابقة تسليم السلطة إلى القوات المسلحة عام 1958م من قبل القوى التقليدية- إلى السيطرة على الدولة والمجتمع من أجل إحداث التغيير وفق رؤاها، فوصل الصراع إلى حد القتل. قُتل خيار شعوب السودان، وعظام قادتهم ومفكريهم، وكبار جنرالات قواتهم المسلحة. ولم يتحقق الاستقرار والسلام، ولم تدخل شعوب السودان الحداثة، ولم تحقق التنمية. قال الروائي الطيب صالح في إشارة للقادة السياسيين وهم قبيل من النخبة: (كل واحد من هؤلاء الناس الأذكياء الأغبياء عنده "مشروع شامل" لإقامة مجتمع "فاضل" يدوم إلى الأبد. وما أدراه ما الأبد؟ ويقتلون أنفسهم ويقتل بعضهم بعضاً لتطْغَى أحلام على أحلام) .
لم يترك عنف الصراع، الذي تسرب لعقول النخبة ونفوسها، وأصبح مرتكز الممارسة السياسية السودانية، فضيلة واحدة في الإرث السياسي يمكن أن يُعتد بها أو المراهنة عليها في المسار المستقبلي. مثلاً، ظلت قيمة التسامح التي هي إحدى موروثات الشعوب السودانية، منذ تاريخ بعيد، وزينتها الجمالية والإنسانية، في حالة تكلس وانحسار كلما تحركنا من قاعدة الهرم حيث الجماهير إلى قمته حيث النخبة، ونقطة التلاشي لفضيلة التسامح. كان العلامة البروفسير عبدالله الطيب (1921م-2003م)، قد رثى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م)، بقصيدة عنوانها "مصاب وحزن"، وجاءت في خمسة وثمانين بيتاً، ولعله وافق بها السنة التي جرى فيها تنفيذ حكم الإعدام في حق الأستاذ محمود. أشار فيها إلى الصراع الدائم، الذي بدد الطاقات، وعمى الناس. وتحدث عن ذهاب الفضل وقيم التسامح والعفو، وتمكُن الأحقاد والقسوة في القلوب. قال في بعض أبياتها، (أبيات متفرقة):
قد شجانى مصابه محمود مارق قيل، وهو عندى شهيد
سيق للقتل وهو شيخ أخو ست وسبعين أو عليها يزيد
لم يراعوا فيه القوانين ظلما فهو قتلٌ عمدٌ وجَرمٌ أكيد
ليت إذ أجمعوا على الإثم أخفوه كما اغتال خمسةً عبود
قتلته الأفكار فى بلد الجهل الذى سيطرت عليه القيود
وأحتوتنا عماية من صراع دائم للقوى به تبديد
يا لها وصمة على جبهة القطر ستبقى وعارها لا يبيد
ذهب الفضل والتسامح والعفو وجاء الإعدام والتشريد
فيم هذا الطغيان ما هذه الأحقاد ما هذه القلوب السود
ما الذى جدّ ما الذى جلب القسوة من أين ذا العتم الشديد
ظلت النخبة رهينة لصراع النظريات، مما أوجد حواجز كثيفة بينهم، وعاق فرص تعارفهم وتحاورهم، وإكتشاف بعضهم بعضاً. كان صراع النظريات، السبب الأساس في ضعف مساهمات النخبة، وهدر طاقاتها، وتبديد جهودها، وغيابها عن الواقع واحتياجاته. قال الأستاذ حسين خوجلي رئيس تحرير صحيفة ألوان وهو يتحدث عن دلالات اسم ألوان: ألوان اسم ينسجم مع ما لدينا في السودان، نحن ألوان في سحناتنا وأشكالنا وألواننا، وبما لدينا من تنوع ثقافي وتعدد عرقي وديني... نحن ليس لدينا اختلافات، نحن في النهاية شئ واحد. فقط نحن لم نكتشف بعض... .
إن معالجة موضوع المزاج الصفوي لدى النخبة، والوقوف على الصراع العقيم فيما بينها، يحتاج إلى تناول واسع وتقصي دقيق وتحليل عميق. إذ تعود نشأة المزاج الصفوي وجذور الصراع العقيم إلى عوامل ومؤثرات عديدة. سأحاول تناول بعض هذه العوامل والمؤثرات من خلال محاور متعددة منها: ما يرتبط بالمكونات الحضارية والفكرية والثقافية للسودان، وحالة الاضطراب الحضاري التي دخل بها الإنسان السوداني القرن العشرين. ومنها ما يتصل بالبدايات في إعداد المثقف السوداني ونوع التعليم، والمؤثرات التي خضع لها تكوينه. ومنها ما يقترن بالعوامل الخارجية ودور القوى الاستعمارية. وهناك أيضاً، ما يتعلق بمسار السودان السياسي، وواقعه وجمود حركة التغيير فيه.
أيضاً، اتسم الحوار بين النخبة –على قلته-، والنقد لمواقف بعضها البعض، بالغلظة والعنف والعقم حتى يومنا هذا. أبان حوار النخبة فيما بينها، ضعف البناء الديمقراطي الداخلي للمثقف، وكشف عن ضيق مساحة الآخر في دواخله، وأبرز انعدام الفضائل الإنسانية في العلاقات بين المثقفين. هناك نماذج كثيرة على ذلك، ولكني انتخبت لبحثي هذا، ثلاثة نماذج لحوارات ومواقف نقدية مكتوبة ومنشورة. جرت بين ستة من المثقفين الحداثيين الكبار. جميعهم رموزٌ بارزة، وأصحاب قامات سامقة في مختلف الأجناس الإبداعية، في الفكر والأدب والفن والشعر ...إلخ. كلهم كما برز في كتباتهم، وفي أحاديث بعضهم، من المشغولين بشعوب السودان، ومن المهمومين بحقوقها في العدالة، والحرية والديمقراطية، ودخول الحداثة، وبناء الأمة وتحقيق السلام والاستقرار. يمثل كل واحد من المثقفين الستة، نموذجاً يحتذى، وأثراً يقتفى، لأجيال اليوم والأجيال اللاحقة. ولكل منهم مساهمات معرفية وسهوم تنويرية، بعضها ضخم وعظيم، وبعضها وضع صاحبه في مصاف العالمية. والنماذج الثلاثة التي انتخبتها لدراستها -إلى جانب المحاور التي وردت آنفاً- وتسليط الضوء عليها، هي:
 حوارية لاهاي، التي كانت بين الدكتور عبدالله بولا والدكتور حيدر إبراهيم.
 أشغال العمالقة، نص فاق عدد كلماته الأربعين ألف كلمة، كتبه الدكتور حسن موسى، وكان محوره الشاعر محمد المكي إبراهيم الذي رد بمقالة عنوانها: "آية اللؤم العظمى".
 منصور القوَّال، وهي سلسة مقالات كتبها الدكتور عبدالله علي إبراهيم، وكان محورها الدكتور منصور خالد.
أسعى في سلسلة المقالات هذه، إلى تقديم إضاءات، ولفت الإنتباه إلى أهمية الموضوع، بضرورة السعى لمعالجته، عبر تناوله والكتابة حوله من المهتمين والدارسين. إن سبر أغوار موضوع المزاج الصفوي لدى النخبة، والصراع العنيف فيما بينها، يحتاج إلى تنظيم لقاءات وندوات وملتقيات موسعة. وتبقى هذه الإضاءات مساهمة أولية في محاولة لتلمس جذور المزاج الصفوي لدى النخبة السودانية، والصراع العقيم فيما بينهما، وتحليل بعض مظاهرهما، وتتبع بعض مآلاتهما وآثارهما. وفي يوم الخميس القادم أُتابع الحديث.
(نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 20 مايو 2010م)
الهوامش
Abdalla El Bashir [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.