يحكى أن رجلاً طلق زوجته صباح يوم جمعة ثم ذهب مبكراً للمسجد وجلس في الصف الأول مستعيناً على ما حزّ به من أمر بالذكر والصلاة، ولكن حين أعتلى الإمام المنبر أتت رياحه بما لا تشتهي سفن الرجل حيث كان موضوع الخطبة يدور حول المودة والرحمة بين الأزواج وأسهب الخطيب في الحديث عن المودة فضاق الرجل ذرعاً بحديثه وصاح فيه قائلاً: "يا شيخنا موضوع المودة خلاص انتهى كدي شوف لينا موضوع الرحمة". لا شك إن إسهاب أهل المؤتمر الوطني في الحديث عن جاذبية الوحدة لم يعد يجد صدى لدى أهل الجنوب ولن يكن وقعه في روعهم إلا كوقع حديث الإمام عن المودة في نفس مطلق زوجته. إشارات واضحة ورسائل عديدة بدأت تنطلق في الآونة الأخيرة من قادة الحركة الشعبية وعلى الرغم من تعدد مصادرها إلا أنها تتفق جميعاً في "أن موضوع مودة الوحدة قد انتهى وقد آن الأوان للبحث عن رحمة الانفصال"، وقد كان أقوى هذه الرسائل على الإطلاق تأكيدات مارتن ماجوت ياك السكرتير القومي للاتصال الجماهيري والفئوي بحكومة الجنوب في الحوار الذي أجرته معه صحيفة الرأي العام مؤخراً والذي قال فيه "أن الإقليم سينفصل لا محالة وأضاف: كل من يتحدث في هذا الوقت سواء في الجنوب أو الشمال عن الوحدة وبناء الثقة يعتبر واهماً وزاد: نقول لهم فات الأوان ونكمل نحن من جانبنا (والانكتب في نيفاشا دابو الليلة بان، بيونة كبرى)، وعلى الجميع أن يواجه الحقيقة. وأكد أن بناء الثقة الذي يتحدثون عنه لا يمكن أن يحدث خلال الستة أشهر المتبقية للاستفتاء (كلام عقل للذي يعلم عدد السنين والحساب)، وقال ماجوت لن يكون هناك استقرار في السودان دون انفصال، وأوضح أن خيار شعب الجنوب هو الانفصال لا غيره، وأضاف :تأكدت من ذلك أثناء العملية الانتخابية لكل المدن والأرياف بالجنوب باعتباري سكرتير حملة الرئيس سلفاكير (وهذا ما أكدته أيضاً نتائج الانتخابات)، وتوقع أن تكتسح نسبة الاستفتاء، النسبة التي أحرزها رئيس حكومة الجنوب. فإذا صح حديث مارتن عن الاكتساح فلن يبق أمام أهل المؤتمر الوطني من سبيل للخروج من مأزق الانفصال إلا العمل على تزوير إرادة أهل الجنوب إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا ولكن حينها ستلجأ قيادة الحركة للخيار الثاني الذي قال به باقان أموم والمتمثل في اللجوء إلى برلمان الجنوب لإعلان الاستقلال من داخله. ومارتن ماجوت لم يكن وتراً نشازاً في "قانون" الجنوب فقد سبقه إلى ذات القول إزيكيل جاتكوث، ممثل حكومة الجنوب فى العاصمة الأمريكية وواشنطن وعضو مجلس التحرير الوطني للحركة الشعبية، الذي قال "أن يوم التاسع من يناير القادم موعد تصويت شعب جنوب السودان على الاستفتاء على حق تقرير المصير سوف يكون يوم استقلال جنوب السودان عن شماله –على حد تعبيره-". وعزى ذلك:" لان المؤتمر الوطني طيلة الخمس سنوات الماضية لم يجعل الوحدة جاذبة للمواطن الجنوبي، عليه سوف نصوت للاستقلال". وبقراءة كل ما سبق مقروناً مع ما قاله سلفا كير في خطاب حفل تنصيبه "إن الحديث عن الوحدة لعب في الزمن الضائع" والذي جاء بعد بلاغ وزير مالية الجنوب ديفيد أتروبي لأهل السودان "الاستقلال قادم الحاضر يكلم الغائب" يكون من الواضح جداً إن أهل الجنوب الذين ارتادوا المنون من أجل الحصول على حق تقرير المصير قد كانوا لمثل هذا اليوم يعملون فهل سنظل نغني لهم يا أخوتي "منقو قل لا عاش من يفصلنا" وهم يغنون"اليوم نرفع راية استقلالنا" فتكون أغاني الوحدة في زمن الانفصال كالحب في زمن الكوليرا؟ أم نفيق على حقيقة الواقع المر الذي بفعله يكون الهم بدل واحد صبح همين والوطن بدل واحد صبح وطنين. هذا هو حال شريك نيفاشا الأصغر الذي حدد موقفه الجازم من قضية الوحدة والانفصال أما الشريك الأكبر الذي لا يدري أ يندب حظه أم آماله لا زالت أحلامه تترا كما هو واضح في أحاديث بعض قيادي المؤتمر الوطني وعلى رأسهم الدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني لشؤون الحزب و د. مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس الجمهورية. فالأول لا زال يأمل في الوحدة "أملاً يغلبه تحقيقه...فوا تعبه ونشاف ريقه" حيث قال في آخر حديث له إنه لا توجد قضية تشغل أهل السودان مثل الوحدة، وأضاف أن وسائل تحقيقها تستحق الجهد لتبصير أهل السودان والجنوب بالأخص وزاد: نريد هذه الحملة أن تكون إقليمية ودولية ودبلوماسية لتحقيق الهدف المطلوب، وقال: نحن نتخذ خطوات للتحذير من مخاطر الانفصال واتخذنا خطوات عملية للوحدة وهى أن تكون طوعية وتعبر عن رغبة أهل الجنوب؟ فإذا كان هذا أقصى ما يمكن أن يقدمه المؤتمر الوطني من أجل الوحدة فليكم الحاضر الغائب بما قال أتروبي. أما شهاب الدين فقد كان أكثر نرجسية من أخيه حين سئل عن إن كان عدم تصويت أهل الجنوب للرئيس البشير وتصويتهم لعرمان يعني عدم رغبتهم في الوحدة مع الشمال؟ فأنظر بماذا أجاب: إن عدم تصويت أهل الجنوب للبشير وتصويتهم لياسر عرمان لا يعني أنهم مع الانفصال لأن ياسر عرمان داعية وحدة لا داعية انفصال مما يؤكد إن الجنوبيين مع الوحدة (طيب صدقنا وآمنا) يا سعادة المستشار الذي يألم للانفصال كما نألم لكنه يرجو من أهل الجنوب ما لا نرجو ويرى من الواقع ما لا نرى، نعم آمنا ولكن لتطمئن قلوبنا ينبغي على المستشار الحالم أن يفسر لنا لماذا لم يقصد أهل الجنوب البحر مباشرة بدل استغلال السواقي؟ ولماذا لم يصوتوا مباشرة للبشير داعية الوحدة الجاذبة وراعيها؟ فتصويت أهل الجنوب لعرمان يعني صراحة أنهم لا يؤيدون برنامج الرئيس البشير وإنهم إن كانت لديهم أدنى رغبة في الوحدة فإما أن تكون على أسس عرمان الجديدة أو لا تكون فإن لم يكن المؤتمر الوطني مستعد للتنازل من أجل وحدة الوطن على أسس عرمان فلماذا يجمع بيض الآخرين إلى سلته؟ ولكننا إذا ألتمسنا العذر للدكتور مصطفى في هذا التفسير الحالم فمن أين نجد العذر للعقلاء من أهل المؤتمر الوطني الذين رأوا سراب أهل الجنوب بقيعة الحملة الانتخابية للبشير فحسبوه ماءاً أنزله الله برداً وسلاماً ليعوضهم عن اللبن الذي ضيعوه في صيف العبور وخريف الفترة الانتقالية وعدوه نصر جديد على دعاة الانفصال، لدرجة إن الدكتور غازي صلاح الدين بدأ يتحدث صراحة وكأنه يعض بنان الندم على تفريط المؤتمر الوطني في كسب هذا الرصيد الوحدوي خلال الفترة الانتقالية ولكن حين ظهرت نتائج الانتخابات بدأ من الصناديق ما أساءهم فلم ينل الرئيس البشير خمس ما ناله ياسر عرمان المسحوب على المكشوف مما حدا بالأخير التندر بأنهم في الحركة قد أعطوا مرشح المؤتمر الوطني قرضاً حسن من الأصوات ليكمل نصاب ال 50+1. ولعل الأمر الذي لا يفطن له الكثيرون إن خروج الجماهير لملاقاة الزعماء السياسيين في دول العالم الثالث عموماً والسودان خصوصاً لا يكون بالضرورة خروج تأييد ولا يعد معياراً عملياً لقياس اتجاهات الرأي العام والشاهد خروج جماهير كسلا لملاقاة الميرغني إن لم تكن أصواتهم قد ابتلعتها أمواج القاش أو خجات المفوضية. وأذكر أنه في بداية عهد الإنقاذ زار الرئيس البشير إحدى المناطق في ولاية الجزيرة فقابلت في الحشد شخصاً معروف بمناوئته للنظام فسألته مازحاً لماذا أنت هنا؟ فأجابني جاداً والله بس عشان أشوف الجماعة ديل بقولوا شنو!! ثم طفقنا نسأل آخرين بجوارنا لماذا أنتم هنا فبعضهم كان يقول عدم موضوع وآخرين كانوا يقولون فقط لرؤية وسماع حديث الرئيس الجديد وقلة كانوا يقولون بأنهم جاءوا لأنهم يؤيدون الثورة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة ماذا قدم أهل المؤتمر الوطني خلال السنوات الخمس المنصرمة من أجل الوحدة؟ ولماذا كفوا أيديهم عن الجنوب طوال الفترة الانتقالية؟ ولعل الإجابة تكمن في حديث أشار إليه إسحق أحمد فضل الله في عموده، إن صح ذلك الحديث، حيث قال إن الأستاذ/علي عثمان محمد طه كان قد أتخذ قراراً قبل أن تطأ قدماه أرض السودان في رحلة عودته عقب التوقيع على اتفاقية نيفاشا مفاده أن يرمي المؤتمر الوطني طوبة أهل الجنوب وأن يعزف عن أي مشاركة شمالية في شئون الجنوب وأن يترك الجنوب للجنوبيين ليري بعضهم بأس بعض حتى يكونوا على يقين من أن لظى الوحدة أرحم لهم من جنة الانفصال ولعل هذا هو التفسير الوحيد حتى الآن عن أحجام أهل المؤتمر الوطني عن القيام بأي جهد في الجنوب لجعل الوحدة جاذبة حيث رأوا في موافقتهم على اقتسام السلطة والثروة مع أهل الجنوب ما يكفي. كل الشواهد ترجح إن حظوظ الوحدة أضحت كحظ جماع القائل إن حظي كدقيق في شوك نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه أو هو كالسماء التي بدت له واستعصمت بالبعد عنه. لقد انتهى بالفعل موضوع المودة ولكن هل لنا أن نطمح في انفصال سلس باطنه وظاهره الرحمة؟ للأسف إن تصريحات المسئولين الجنوبيين لا تنبئ عن احتمال حدوث انفصال سلس وجاذب، حيث أكد مارتن ماجوت في ذات السياق "أن البترول سينفصل مع الجنوب، وستؤول ملكيته لحكومة الجنوب، وقال: على الشركات إعادة صياغة عقودها مرة أخرى، وأضاف مارتن: حال الانفصال لن نترك (جالون بنزين) للشمال، وزاد: إذا أرادوا بترول الجنوب فعليهم أن يقوموا باستيراده من الجنوب". أما جاتكوث فقد ذهب إلى أبعد من ذلك باتهامه المؤتمر الوطني بإشعال نيران الصراعات فى الجنوب قبل الاستفتاء على حق تقرير المصير، مضيفاً "المؤتمر الوطني يتحرك في عجلة من أمره لنسف الاستقرار الذي شهده الجنوب والمناطق الأخرى لكننا سوف نعمل بصورة لصيقة مع غرايشون ومعاونيه". فالحركة التي تتهم المؤتمر الوطني بدعم أطور لن تسكت على ذلك بل ستعمل أيضاً على دعم مناوئين للنظام في الشمال الشيء الذي سيؤدي حتماً إلى عدم الاستقرار في الجنوب والشمال معاً. osama khalid [[email protected]]