دعوة لتصويب الفكر والفقه والدلالات اللغوية بشأن "الإرهاب": ما يجري في هذا العصر "إرعابٌ" و ليس إرهاباً [email protected] تعرَّض هذا الكاتب لهذه المعاني وما شابها من أغلاط الترجمة، بصورة أقل عمقا، في أعقاب صدور كتاب للطيار الأمريكي السابق، الإسرائيلي المولد، والموصوف بأنه "خبير الإرهاب العالمي"، يوسف بودانسكي، في عام 1993م بعنوان: "استهداف أمريكا والغرب" أو (Target America & the West)، وهو الكتاب الذي وصف بأنه كان يباع في البقالات الكبيرة بأمريكا، وكأنه نوع من أنواع الجبن أو الخبز، في إشارة لشيوع الحديث، على المستوى الشعبي، عن استهداف أمريكا ضمن ظاهرة "الإرهاب" وفقاً للترجمة الشائعة للإنجليزية (Terror) قبل أن تتم أدلجتها إلى (Terrorism) وتصدر بشأنها التشريعات والتدابير الأمنية والعسكرية والسياسية لمكافحة هذه الظاهرة. ضم كتاب يوسف بودانسكي (Yossef Bodansky) بين دفته قدراً كبيراً من الأكاذيب الملفقة بعضها (ما بين صفحتي 144 و162) ضد السودان مما رد عليه هذا الكاتب عبر صفحات مجلة "سوداناو" وجريدة "نيو هورايزون" السودانيتين في ذات السنة التي صدر فيها الكتاب (1993م) أو التي تليها، لكن ذاك موضوع آخر. أما العودة اليوم لكلمة (الإرهاب) فقد استفزها حوار عفوي جرى عبر البريد الإلكتروني مع بعض مثقفي السودان من خارج وداخل حدود البلاد، ممن يهتمون بشأن السياسة والفكر والرأي العام، حيث أعادوا للذاكرة العرض الذي قدمه هذا الكاتب ضمن ندوة جرى تنظيمها بقاعة الشارقة في جامعة الخرطوم، خلال الفترة التي كانت فيها كلمة "إرهاب" تسوِّد معظم صفحات الجرائد بجميع اللغات العالمية الحية في معظم أنحاء العالم.. حتى أسمى بعضهم آنذاك زماننا هذا بعصر الإرهاب. وثمة سبب آخر هو أن أفضل الأوقات لعرض هادئ لهذه الكلمة الملتهبة هو عند خفوت الظاهرة، وقلة الحديث الرائج عنها نسبيا، مقارنة بأيام الحادي عشر من سبتمبر مثلاً وما تلاها، وحتى ما سبقها من سنوات كان خلالها أمثال يوسف بودانسكي يعدون مسرح الرأي العام العالمي ويهيئون الأذهان لاستقبال البعد الفكري لهذه الظاهرة. ولعل البداية اللفظية فيما يتعلق بظاهرة "الإرهاب" كانت من الغرب أصلا.. باعتباره الجهة التي تلظت أساساً بنار "الإرهاب"، في سياقه الأكثر شهرة (المرتبط بالإسلام)، قبل غيرها من بقاع الدنيا.. فاستخدموا في التعبير عنها الكلمة الإنجليزية (Terror) ثم انتقلوا منها إلى كلمة (Terrorism) عندما نسبوا الظاهرة - آيديولوجيا - إلى جذور ودوافع معينة ألصقوها بالإسلام، وأعانهم على ذلك، في المقام الأول، نفر من بني جلدتنا المسلمين ممن رأوا أن تفجير المباني والأسواق المأهولة بالمدنيين هو الطريق لتبليغ دعوة الإسلام، أو هو السبيل إلى الرد على سياسات الغرب الدولية الجائرة، أو أن ذلك يمثل استجابة لأمر الله وتوجيه الرسول المصطفى، صلى الله عليه و سلم!! ويحسب هذا الكاتب أن هؤلاء قد يثيبهم الله بنواياهم الصادقة في ما اجتهدوا فيه، صدقاً عبَّرت عنه التضحية بالروح في سبيل الغاية، إلا أن (صواب) اجتهادهم يظل محلاً للمراجعة والنظر والتصويب. وبعد أن أطلق الغربيون الكلمتين المذكورتين (Terror) و(Terrorism) تعبيراً عن هذه الظاهرة بين ظهرانيهم، إذا بالترجمة العربية تخطئ طريقها إلى المعنى الصحيح، حيث استخدم أوائل المتصدين لترجمتها كلمة "إرهاب" في مقابل الإفرنجية (Terrorism).. ثم سار على ذلك النحو من كتبوا عن الظاهرة عبر الصحف والكتب والدوريات العلمية إلى يومنا هذا. نقول بادئ ذي بدء أن الترجمة الصحيحة لكلمة Terrorism الإنجليزية هي كلمة "إرعاب" العربية، والترجمة الصحيحة لكلمة (Terror) الإنجليزية هي كلمة "رعب" العربية. والاختلاف بين هذه الترجمة والترجمة السائدة التي راجت بسببها كلمة "الإرهاب" إنما هو اختلاف جَدّ كبير، إذ يغادر الأبعاد اللغوية والدِّلالية (السيمانتية) البحتة إلى أخرى فكرية وفقهية، بما يؤثر ليس على الاستخدامات اللفظية فحسب وإنما على التفكير الفقهي والاستدلال القرآني في إطار المعاني التي تشملها الكلمتان "الإرهاب" و"الإرعاب". ولنبدأ بهذه المعاني وظلالها التي تشتمل عليهما هاتان الكلمتان، بما يعين على التفريق بين دلالاتهما اللفظية. فكلمة "إرعاب"، وهي المعنى الصحيح لمقابلها الإنجليزي (Terrorism) تعني إشاعة الهلع والخوف الشديد في النفس؛ وكلمة "رعب" المقابلة للإنجليزية (Terror) هي الأصل وتعني الهلع وشدة الخوف، ولا تحمل أيٌّ من الكلمتين دلالات أخرى كالتي سنعرض لها بشأن الكلمة الأخرى وهي "إرهاب" - ذائعة الصيت. ذلك لأن كلمة "إرهاب" تحمل في طياتها بجانب معنى الخوف، معاني الاحترام الناجم عن الهيبة والخوف، بل وشئ من الإعجاب بما في مصدر الإرهاب من عظمة وبهاء وقوة جبارة وغير ذلك من الصفات الأخّاذة التي تطبي النفس وتأخذ بالألباب. أبعاد التفكير الفقهية لفروق المعاني بين "الإرعاب" و"الإرهاب": ما يجري اليوم من تفجير وتقتيل للمدنيين في مظانّ السلامة والأمان من أماكن وجودهم – وهو أمر يختلف عن المواجهات والمدافعات المسلحة مع الأعداء والمحتلين الغاصبين بقوة السلاح – يصدق على هذا التفجير والتقتيل للمدنيين المعنى الذي أطلقه الفرنجة عبر لفظ Terror أو Terrorism أو "إرعاب" وفقاً للترجمة التي نراها صحيحة، هذا من حيث المعنى اللغوي. أما من حيث الدلالات ذات الصلة بالتفكير الفقهي فإن "الإرعاب" عمل عقيم، سالب، يدخل الخوف الشديد في النفوس ولا يدعوها أو يقربها إلى الحق.. الإرعاب يهدف إلى التدمير لا البناء، وإلى الانتقام لا التسامح، وقد يأتي تعبيراً صارخاً عن ظلم فاحش وغبن عظيم، لكنه في جميع الأحوال لا ينتهي إلى البناء أو الإصلاح بأي حال من الأحوال. ومثل هذا الفعل تقل مبرراته الشرعية إن لم تنعدم، لا سيما وإن التدمير حق إلهي لا يتنزل للممارسة البشرية إلا في الأحوال المعروفة، مثل القتل بحق، وهو ما يسنده القضاء العادل جزاءاً مقسطاً لفعل تدميري آخر كالقتل والنهب والسطو والحرابة، وتنفذه السلطة العامة المسنودة بشرعة الوحي العامة وإرادة الجماهير في المجتمع السياسي، ولا يجوز خارج هذه الضوابط، كما أن المقصود منه هو إزالة الضرر أكثر منه جلب المصلحة التي لا يمكن أن يكون "الرعب" سبيلاً إليه أصلا. ومن جهة أخرى فإن لفظ "الإرهاب" – المفترى عليه بالترجمة والتعاطي الغافل عن المعاني – يحمل جملة من الدلالات التي تؤدي إلى نتائج تكاد تكون معاكسة تماماً لما ينتج عن معاني "الإرعاب" بالعين المهملة. فكلمة "إرهاب" كما تقدم تحمل معاني الهيبة والرهبة والخوف المشوب بالاحترام المفروض على الطرف المستقبِل لهذه الرهبة، بما ينتج عنه من معاني المنعة والاعتزاز على كل عدوان أو افتراء. و"الإرهاب" بهذا المعنى يقدم وضعاً مانعاً للعدوان بصورة استباقية تغني عن أي معالجة لاحقة لواقعة العدوان.. وهذا (السلم الوقائي) أو (السلم الاستباقي) الذي يهيئه الإرهاب أفضل من السلم اللاحق، المفروض فرضاً بعد وقوع الواقعة.. وقد شهد العالم خلال سنوات الحرب الباردة ضرباً من ضروب الإرهاب بهذا المعنى الوقائي، وأسموه "الردع السلبي" فرديا، كما أسموه "توازن الرعب" ثنائيا، ربما لغرابة كلمة "الرهب" وبعده عن المعتاد، وإلا لقالوا "توازن الرهب" لأن الثانية أدق، لما تحمله من معاني الاستعداد بالقوة الجالبة للاحترام والمنعة واتقاء عدوان المعتدين. ومن هذا المنظور يمكن القول بأن مدلولي الكلمتين تقودان لاتجاهين مختلفين تماما: أولا: في معنى "الإرعاب": تدلل كلمة "إرعاب" على نشر الفزع والهلع بين الناس، بما يؤدي إلى توجيه الموارد للاحتراز والدفاع، ويحيل العقل الجمعي للأمة إلى كيان أمني طاغ، يطال الحريات العامة للناس بمن فيهم الذين تريد السلطة حمايتهم أنفسهم، وهو ما يمكن رصد آثاره من خلال التطورات التي شهدها الغرب عامة وأمريكا خاصة في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، عندما ازدادت الوكالات المعنية بحماية الأمن الداخلي عدداً وازدادت بطشاً وتغولاً على الحريات؛ هذا، بجانب الخسائر الأساسية في دماء وأرواح الأبرياء من المدنيين خارج ميادين القتال وداخل المواقع التي لا يتوقعون فيها الموت ولا الجراح بطريق الاعتداء، وهو ما يؤدي إلى تفخيم عنصر المفاجأة وتهويله، وإثارة الهلع نتيجة لذلك في نفوس هؤلاء، سيما وأن بينهم الطفل والشيخ والمرأة وذو العذر من الضعفاء أو المستضعفين بهذا الفعل، وبهذه المناسبة فكلمة "الاستضعاف" ليست حكراً على المسلمين وإن كانوا الأعظم حظاً منه عبر التاريخ المعاصر، بل قد يقع الاستضعاف على غير المسلمين قطعاً ما داموا أبرياء وقع عليهم العدوان بدم بارد وبغير نائرة. و"الإرعاب"، بهذا المعنى، عمل غير كريم، ولا يصدر إلا عمن فقد جلب الاحترام لنفسه والهيبة بأسباب أخرى تقبلها الفطرة السليمة. ويكون الإرعاب، وفق هذا التصور، شكلاً من أشكال إثارة النزاع وإراقة الدماء بغير ناتج من دعوة لحق أو إقناع برسالة، ولا ينتج عنها في خاتمة المطاف إلا التكسير والتدمير، بعيداً عن كل كسب أو إصلاح. ثانيا: في معنى "الإرهاب": يؤدي مدلول كلمة "إرهاب" إلى جلب المنعة الناتجة عن هيبة في نفس الآخر واحترام وإجلال لمكانة صاحب الرهبة، فينتج عن هذا الوضع حالة من السلم والأمن المسنودين بشعور نفسي داخلي لدى مصدر العدوان المفترض لولا تلك الرهبة. وفي هذا السياق كانت الدعوة القرآنية للإعداد - بالسلاح والعتاد والرباط وأسباب القوة الأخرى كافة - مما هو قمين بتحقيق الرهب في وجه المعتدين، لهذا يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" (الآية 60). وبهذا المعنى يتحقق التوازن بين مصادر الرهب ويتعايشون في ذات الفضاء الكوني، عالمياً أو إقليمياً أو محليا، دونما اضطراب على أيدي العناصر المعتدية من بين هذه المصادر ذاتها، ويكون "الإرهاب" (نشر الاحترام والهيبة وتحصيل المنعة الحصينة) سبباً لتحقيق بيئة سلمية آمنة لا يعتدي فيها القوي على الضعيف؛ فالقوي مرهوب محترم، والضعيف لا حول له ولا قوة، لكنه سليم آمن من غلواء الأقوياء وجبرتهم، وإذا ما ساورت الضعيف رغبة في العدوان ردته الهيبة والرهب من التجرؤ على هؤلاء الأقوياء المحترمين المقسطين. أما "الإرهاب" بذاك المعنى المشوه المعوجّ فهو على عكس ما تقدم تماما.. حيث انحصرت دلالته، نتيجة لغلط الترجمة، في جزئية الخوف فقط دون غيره من معان سمحة، فضلاً عن تفخيم شديد لهذا الخوف، حتى انمسخت الكلمة، وصارت تعنى "الإرعاب"، بدلاً من معناها الأصلي. و يلاحظ من بعدُ أن التوجه نحو تحقيق قيم الرهب إنما يغني عن جهود السلام ونفقاته اللاحقة لفض النزاعات المسلحة بين الدول أو التنظيمات المسلحة على المستوى العالمي. غير أن هذا الإجمال ربما حمل في طياته تبسيطاً غير مقصود، لكن الفكرة حيثما كانت لا تحمل في طياتها تفاصيل التطبيق العملي، وإلا لما كانت عالمية القصد، كما لا ينبغي لها ادعاء الانطباق على جزئيات الأحوال التفصيلية كافة عبر المكان والزمان، شأنها في ذلك شأن كل نتاج فكري بشري خطَّاء. ويلاحظ أن جميع إشارات القرآن لمعنى "الإرهاب" بمشتقاته كانت بالمعنى المختار المشار إليه لهذه الكلمة في هذا المقال، بل إن التوصل لذلك المعنى إنما كان نتيجة لرصد هذه الإشارات كافة.. بينما جاءت جميع الإشارات إلى معنى الإرعاب أو ال"رعب" - بمشتقاته كلها أيضا - على ذات المعنى المتقدم بشأن "الإرعاب" (انظر الجدولين المرفقين). والجدير بالذكر أن لفظ الرعب ورد خمس مرات فقط في القرآن الكريم، وجميعها بنفس المعنى، وهو الخوف الشديد الذي يلقيه الله في قلب المرء مباشرة من لدنه سبحانه، أو – في حالة واحدة فقط – بقدرته عبر سبب هو منظر أصحاب الكهف بعد نومهم ذاك الطويل: "لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعبا" (سورة الكهف – الآية 18). أما لفظ "الرهب" ومشتقاته فوردت أحد عشر مرة في إحدى عشر آية: سبع مرات بمعنى الرهبة والهيبة، وأربع مرات بمعنى الرهبان والرهبانية، في سياق مختلف، وبقي الاختلاف في آي القرآن الكريم بين معنى "الرهب" و"الإرهاب" من جهة، و"الرعب" و"الإرعاب" من جهة أخرى، اختلافاً بيناً ميسّرا لكل مدّكر ومتدبر. الجدول الأول: مشتقات "الرهب" في القرآن (معنى "الإرهاب") AWE الجدول الثاني: مشتقات "الرعب" في القرآن (معنى "الإرعاب") TERRORISM - عن (الأحداث، السبت 29 مايو 2010م).