لقد أصبح الإعداد في أيامنا هذي أمراً في غاية التعقيد والصعوبة. لأن التقانة العالية التي وصل إليها الغرب في كافة المجالات قد سخرها جميعها في شأن الحرب، وخدمة الشؤون العسكرية. فالأقمار الصناعية والدوائر الاقتصادية والقنوات الإعلامية وكافة أنواع الاتصالات وغيرها من الوسائل، كلها تعمل في الدول المتقدمة من أجل هدف واحد في تنسيق تام، هو التفوق العسكري الذي لا يتأتّى إلا من خلال التفوق في كافة المجالات، فكأنما هو زبدة وخلاصة تجارب الأمم . لقد أصبح الجندي ليس هو هذا الشكل التقليدى الذي يرتدى البِزة العسكرية وينتمي لمؤسسة عسكرية. بل الجندي هو العالم في معمله والأستاذ في بحوثه والخبير في تجاربه والتاجر في متجره، والمكتشف والأديب والطبيب، وكل من يستطيع أن يسهم في مجال التقدم. فعالم الفيزياء إينشتاين الذي أسهم إلى حد كبير في صنع القنبلة الذرية ما كان عسكرياً تقليديا ً. وكذلك رواد وعلماء الفضاء الذين أسهموا كل إسهام في عملية السيطرة الجوية وتوجيه الصواريخ بعيدة المدي عبر أجهزة الأقمار الصناعية ما كانوا عسكريين تقليديين. والمهندسون الذين صنعوا محركات الطائرات والسيارات والسفن وغير ذلك ما كانوا عساكرا. ولكن يأتي الإعداد العسكري دائما فيأخذ خلاصة ما توصلت إليه تجارب وخبرات الأمة، فيستفيد منها ويوجهها في مجال صناعة القوة، ويكون قد أسهم في ذلك كل قطاعات الشعب بمختلف تخصصاتهم . وهذا هو الإرهاب الحقيقي الذى أراده الله عز وجل بقوله (تُرْهِبُونَ بِهِ) فالإرهاب هو الحرب النفسية حيث يكون لكل الأمة هيبتها وسطوتها فيخافها الناس دون حرب. وهذا الإرهاب بمعناه الحقيقي لا يطبقه اليوم إلا الدول الكبرى المتقدمة صناعياً في الغرب والشرق. والمسلمون أبعد الناس عن تطبيق هذا المفهوم، بل أصبحوا يتهربون من كلمة إرهاب التي لا تحتمل في الإسلام سوى معنىً واحد هو الحرب النفسية والتي هي حرب مشروعة تمارسها كل الدول. بل لا حرب طبيعية وعادلة إلا من خلال الحرب النفسية التي تعنى إنذار وإخافة أي إرهاب العدو قبل الدخول معه في الحرب لكسب المعركة بأقل الخسائر. أما كلمة (terror) و(terrorism) الإنجليزيتان واللتان تُفسَّران أو تُترجَمان بكلمة (إرهاب) ليتخذهما أعداء الإسلام مدخلاً إلى أن القرآن يدعو للإرهاب فهذا عدم فهم لاستعمال الإسلام للغة العربية. فالإسلام لا يستعمل في العبادات اللغة العربية بمعانيها اللغوية، وإنما يوظف المعنى اللغوي لاستخدامه إصطلاحياً. فالصلاة في اللغة هي غير الصلاة في العبادة التي تعني اصطلاحاً الصلة بين العبد وربه. وكذلك الوضوء في اللغة هو غير الوضوء اصطلاحاً، وكذلك الصوم الذى يعنى الإمساك لغة هو في العبادة اصطلاحاً يحمل معنىً آخر. كذلك كلمة إرهاب فإنها اصطلاحاً تعني إعداد العدة لإخافة العدو قبل الحرب أو خلالها. وكلمة عدو ينبغي الوقوف عندها لأنها هي التي يستهدفها الإرهاب كمصطلح ديني لا يستهدف غير العدو المحارب في الميدان. وعليه فإن الإرهاب كمصطلح دينى إسلامي لا يعني بحال من الأحوال ترويع الآمنين من غير المحاربين أو تعطيل مصالحهم وتخريب ديارهم. كما أنه ليس في الإسلام شيء يسمى الحرب الشاملة التي تقضي على الأخضر واليابس فالحرب في الإسلام حرب آنية مؤقتة عادلة من أجل إزالة المعوقات أمام الدعوة والبناء وبالتالي يفترض فيها أن يصل الداعية إلى المدعو وهو في أحسن حالاته المادية والمعنوية ما أمكن ذلك. لننطلق إلى محور آخر من محاور القوة التي تتصل بالقوة العسكرية وهي القوة الأمنية ثم الاقتصادية. يقول الله عز وجل: (لإيلاف قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) ففي هذه السورة الكريمة ذكَّر الله تعالى القرشيين بآلائه ونعمه. وطالبهم بعبادته. وذكرهم في هذا السياق، بأهم عاملَين، بدونهما لا تستقيم الحياة أبداً، وهما العامل الاقتصادي:(أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ). ومن ثم العامل الأمني: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). فالأمن دائماً يُقدم على بقية العوامل الحياتية الأخرى. لأن الإنسان إذا لم يأمن فإنه لا يلتفت إلى صنع طعام أو كسب معيشة. ولأن إنعدام الأمن قد يفقد الإنسان حياته، أسرع مما يفقده إياها الجوع والعطش، ولذلك قالوا: الأمن الغذائي. فنقول قد سبق القرآن الكريم إلى هذا المعنى كما هو بيِّن في سورة قريش. قال أبو السعود: مِن جُوعٍ شديدٍ كانُوا فيهِ قَبْلَهُما، وقيلَ: أريدَ بهِ القحطُ الذي أكلُوا فيهِ الجيفَ والعظامَ «وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ»عظيمٍ لاَ يُقَادرُ قدرُهُ وهُوَ خوفُ أصحابِ الفيلِ أوْ خوفُ التخطفِ في بلدِهم وَفي مسايرِهِم). ولعل السنة النبوية قد تناولت جزءاً من تفسير هذه السورة. فعَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ : قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من أصبح منكم آمنا في سِربه. معافي في جسده. عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا). وحيزت بمعني جمعت. فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، قد ذكر هنا كذلك أهم ثلاثة عوامل.. أولاً: العامل الأمني: بقوله : آمنا في سربه، والسرب هو النفس والأهل والمال. وثانياً: العامل الاجتماعي حيث الصحة البدنية والتي لا تنفك عنها الصحة النفسية التي تتأثر بالحياة الاجتماعية سلباً وإيجاباً. وثالثاً: العامل الاقتصادي بتوفر قوت اليوم. أو الحاجات الفردية التي لا تقوم الحياة إلا بها. نقول إذاً إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، هما دائما السباقان إلى معالجة مثل هذه الأمور آنفة الذكر والتي هي مهمة ومؤثرة جداً في حياة الأمم. ولايكاد فلاسفة وعلماء العصر الحديث يصلون إلى نظرية في التنظيم الاجتماعي والعلمي والعسكري أو غيره إلا وجدوا أن الإسلام قد سبقهم بوضع قاعدة أو أصل لقاعدة تشير إلى ما توصلوا إليه. فالقصور عندنا ما زال قائماً في طرح معطيات هذا القرآن وإبراز كنوزه المدفونه لبقية الأمم. إذا كان ما ذهبنا إليه سابقاً في حديثنا عن معنى العُدة أنها(القوة)قد اتضحت معالمه، فيكون واضحاً إذاً أن الإعداد هو وضع هذه القوة على أهبة الاستعداد. أو بمعنى آخر هو تجميع القوة على أساس فردي أو جماعي في مكان واحد لتكون جاهزة للاستعمال. أما على الأساس الفردي فالشخص الواحد يكون إعداده لنفسه بتجميع عدته، سواءً كانت دابةً أو سلاحاً أو مالاً لتكون جاهزة للعمل في الميدان. والقرآن الكريم مليء بالشواهد التي تدعو لأن يعد الفرد نفسه، ووليُّ الأمر أسرتَه وأولادَه، والحاكمُ شعبَه ومجتمعَه. نستشهد لذلك بالآتي: الشاهد الأول قوله تعالى:(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) . رغم ان هذه الآية العظيمة يمر عليها كثير من الناس دون تأمل وتفهم وتدبر إلا أنها تحمل المعنى الحقيقي والدافع الأساسي لكل النجاح في الحياة الدنيا والفوز والنجاة في الحياة الأخرى. وهي بذلك تعتبر من أهم أسس الإعداد الحربي. فزاد التقوى هو أهم عتاد يستصحبه المجاهد، لأنه ما خرج إلا لله، فإن غارفَ الظلمَ فقد فارق مبدأه وأضل مهمتَه وحاد عن هدفه فلا نجاح له بعد ذلك. قال ابن عاشور في تفسير الآية أنفة الذكر: (فقوله: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى بمنزلة التذييل، أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص. ويجوز أن يستعمل التزود مع ذلك في معناه الحقيقي على وجه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، فيكون أمراً بإعداد الزاد لسفر الحج تعريضاً بقوم من أهل اليمن كانوا يجيؤون إلى الحج دون أي زاد، ويقولون نحن متوكلون على الله فيكونون كلاً على الناس بالإلحاف). ولا شك أن التقوى أمر خاص، فيتعين على الإنسان أن يكبح جماح نفسه حتى يعلمها التقوى. وقد وصف سبحانه موجبات التقوى بأنها زاد. والملاحظ أن الأمر بتناول هذا الزاد قد جاء بأمر الجمع (وَتَزَوَّدُوا) مما يدل على أن التزود بالتقوى شيء مرتبط بالفرد والجماعة. أما الشاهد الثاني فهو قوله تعالى:(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا). قال أبو السعود يرحمه الله تفسيراً لها: (وقولُه تعالى: لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ أي إلا فِعْلَ نفسِكْ، استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبله فإن اختصاصَ تكليفِه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسِه من موجبات مباشرتِه للقتال وحدَه، وفيه دَلالةٌ على أن ما فعلوا من التثبّط لا يضُرُّه عليه الصلاة والسلام ولا يؤاخَذ به). فالآية فيها خطاب الواحد(لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) والجماعة (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) مما يدل على أن المسؤولية في الجهاد تبدأ فردية وتنتهى جماعية. الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة