التيار العام والهمس الجهير [email protected] في خطوة تعتبر بكل المقاييس قفزة في الظلام اطلق المهندس مادبو آدم الذي يناديه البعض بمادبو الصغير منعا للالتباس بينه وبين القيادي التاريخي بحزب الامة د. ادم موسي مادبو، اطلق تصريحا صحفيا لجريدة الحرة اعلن فيه عن انسلاخ وشيك لتيار الخط العام عن حزب الامة القومي بقيادة السيد الصادق المهدي واعلان حزب جديد قد اكتملت فكرة تاسيسه وتجري المشاورات لاختيار اسم الحزب الجديد. من المعلوم ان تيار الخط العام قد برز كقوي ضغط مناهضة ورافضة لمخرجات المؤتمر العام السابع للحزب التي جاءت تتهادي علي جنازة الدستور المزبوح بارض المعسكرات بسوبا، واعلنت مقاطعتها لتلك المؤسسات واعترفت بشرعية رئيس الحزب ومن ثم دفعت اليه بعدة مطالب ترمي في مجملها الي اصحاح الخلل واعادة الاوضاع الي نصابها. إذا فان الموقف الذي اتخذه التيار ناتجا عن الازمة الدستورية وليس نتيجة لخلاف فكري او سياسي، وعلي هذا الاساس لايمكن اعتبار التيار حزبا او نواة لحزب جديد بحال من الاحوال، ذلك ان فكرة تأسيس حزب ليس بالامر الهين ولايمكن ان تنبت فجأة كالاعصار لمجرد ردة فعل غاضبة ، هذا امر يتطلب النظر والتملي في التاريخ والاحاطة بالحاضر وتجارب الشعوب التي استوت احزابها علي سوق الديقراطية والحداثة ، ثم الولوج الي المستقبل عبر ابوابه لا القفذ اليه قفذا. ان فكرة تاسيس حزب سياسي قد راودت الاستاذ احمد خير وجيله المكافح منذ مؤتمر الخريجين رغم اتساع الرقعة بين النموزجين ، ذلك ان الاوائل كانوا ذوي باع طويلة وقدم راسخة في تربة الفكر والثقافة وكان المناخ السياسي اكثر تحفيذا علي الشروع في امر كهذا، لكن حقائق الاجتماع المبسوطة علي ارض الواقع كانت كفيلة بوأد احلام الصفوة التي لم توفق حتي اليوم ، للاسف الشديد ، في ابتداع ادواتها الخاصة بها لاستنهاض همم الجماهير لتنحاز لطروحاتها. إذا كان ذلك هو حال اولئك الاسلاف فما بالك بالاخلاف الذين جاءوا الي سوح السياسة وامتعتهم خالية من اي ذوادة معرفية تعينهم حتي علي ابداء الراي حول الازمات الراهنة التي تحدق بالوطن واهله ناهيك عن القدرة علي الاتيان بطرح مغاير يبرهن علي ان الساحة السياسية بالفعل بحاجة الي حزب جديد. ربما قال قائل ان فشل المحاولات السابقة لا يعني بالضرورة انسداد الافق امام اي محاولة جديدة وان الاحزاب السياسية بشكلها الراهن لا تغري احد بالعمل في صفوفها ، هذا المنطق بالطبع لا يخلو من وجاهة والفكرة في حدّ ذاتها مشروعة اذ لكل انسان الحق في ان يفكر كما يشاء وان ينشئ ما طاب له من التنظيمات والاحزاب إذا ما رأي ان المواعين السياسية القائمة اضيق من ان تعبر عن افكاره الكبيرة واقصر من ان تلبي طموحاته العراض، ولكن سوف يبدو لنا الامر مختلفا تماما عندما نكتشف الدوافع والبواعث الحقيقية وراء هذا الدفع المحموم باتجاه تكوين حزب جديد وخاصة اذا ما قرأنا هذا في سياق المحنة الكبيرة التي تعرضت لها القوي السياسية بعد النتيجة المدهشة التي اعقبت ما سمي مجازا بالانتخابات. من اقوي الحجج الموضوعية التي يسوقها الداعون الي تأسيس حزب جديد أن كل محاولات تحديث الحزب قد باءت بالفشل جراء اصطدامها بحوائط الصد المنيعة التي تذود عن حياض الاوضاع القائمة ، وأن الحلم بقيام مؤسسات فاعلة وقادرة علي اتخاذ القرار قد تبدد امام سطوة التاريخ واضواء الكاريزما، والامل في صياغة دستور يكون محل احترام وقدسية الجميع ما عاد امرا ممكناً. اما الجانب الذاتي في دفوعاتهم فيري البعض ولاسباب شخصية استحالة العمل المشترك مع اشخاص بعينهم في الضفة الاخري وانّ ذيدا من هنا لا يطيق مجرد رؤية عبيد من هناك. فيما يتعلق بالفرضية الاولي اوالجانب الموضوعي من تلك الحجج، ليس ما يهمني هنا البرهان علي صحتها او الذهاب الي ان ذلك محض ادعاء، فالمشكلات التي تعاني منها الاحزاب السودانية معلومة لدي كل مراقب عن كثب او اي مواطن عادي، وقدتناولنا هذا الامر في اكثر من موضع وسوف نعود اليه كرّة اخري. لكن ما يهمني هنا بالدرجة الاولي هو اختبار صدقية هؤلاء الذين (اوشكوا) علي ان يتخذوا مسارا لم يتحسبوا جيدا للمنعرجات التي قد تتخلله والنهايات التي سوف يفضي بهم اليها. فإذا كان موضوع الدستور والمؤسسية والحداثة هو بالفعل مايؤرق مضاجع هؤلاء، ياتري اين مشروع الدستور الذي تم طرحه ليكون بمثابة وثيقة قانونية تحكم سلوك الافراد والمؤسسات في التنظيم الناشئ؟ بالطبع لم يكن قد خطر علي البال اصلا. اما المؤسسية التي اصبحت حصانا يمتطيه كل من يمم وجهه شطر القبة ذات اللونين الاخضر والابيض يكفي هنا للتدليل علي التدليس والتلبيس ان الذي اطلق التصريحات واعلن عن الانسلاخ الوشيك للتيار العام عن حزب الامة القومي ومن ثم تكوين حزب جديد، لم يفوضه احد البتة ليصرح باسمه ولا ادري اي تيار ذلك الذي يتحدث عنه! هذا السلوك هو الذي حدا بالاستاذ صالح حامد محمد احمد رئيس الشئون القانونية والدستورية السابق والذي عرف بشجاعته ووضوحه ان ينفي " وجود اتجاه لتاسيس حزب جديد او انشقاق من حزب الامة " ويؤكد ان "برنامج التغيير الشامل لبناء الحزب يتم عبر مؤتمر استثنائي للحزب بهدف اصلاحات هيكلية وتفكيك مواطن الضعف الهيكلي والسياسي والتنظيمي بدفع العمل للامام واعادة الحزب لجماهيره" ودعا قوي التغيير داخل الحزب للتمسك ببرنامج التغيير الشامل عبر المؤتمر الاستثنائي. جاء ذلك في تصريح صحفي لصحيفة اخبار اليوم بتاريخ 21\5\2010 عدد (5614). اما مظاهر التقليدية او اللاحداثة في الحزب الكبير للذين يكترثون لمثل هذه الاشياء، فهي تبدو اكثر تمظهرا في الاتجاهات الجديدة. اذا كانت تلك هي الثغرات التي نفذ من خلالها اخوتنا هؤلاء لتعضيد موقفهم، وطالما ثبت لنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع ان اتساق هذا المسلك مع الموقف المعلن حيال تلك القضايا محل نظر، فما هو الباعث الحقيقي وراء هذا الاندفاع تجاه هذا المصير المحزن؟ البحث عن اجابة لهذا السؤال ليس بالامر العصي، وقد نجد في المفاجآت التي فجرها الاستاذ احمد البلال الطيب للقناة الاولي المصرية والتي نشرها في صحيفة اخبار اليوم بتاريخ 28\5\2010 طرفا من الخيط الضائع. اذاع البلال اربعة مفاجآت علي حد تعبيره وكانت المفاجأة الثانية والتي لم تكن علي اي حال بمفاجاة لنا: " فقد نما لعلمنا ان هناك حوارا (جادا) يدور بين المؤتمر الوطني وحزب الامة القومي المعارض والمقاطع للانتخابات (التيار العام الذي يتزعمه د. مادبو) وان هذا الحوار قطع شوطا" مع من جري هذا الحوار وكيف جري وعلي اي مستوي من الطرفين هذا سوف يكون موضوع لمقال قادم. إلا ان الملاحظة المهمة في هذا السياق، ان المشاركة في السلطة التي سوف يفضي اليها هذا الحوار بلا شك، عمليا لايمكن ان تتم الا في اطار حزب قائم بذاته وبشخصيته الاعتبارية وبذلك تصبح عملية تأسيس حزب مجرد شرط لازم لاتمام عملية المشاركة في السلطة التي تكرم المؤتمر الوطني بالتفضل بها عليهم، وهذه هي بالضبط صحراء العتمور التي نفقت في متاهاتها كل قوافل المناضلين من لدن المرحوم الشريف الهندي مرورا بالزهاوي وفتحي شيلا ومَن سوف يلحق بهم في الايام القليلة القادمة ممن لا نود ان نراهم في وضع لانرضاه لهم ولا يرضونه هم لانفسهم. هذا الحزب الوليد الذي سوف يتم الاعلان عنه إن لم ينعقد مؤتمره التأسيسي في صالة النادي الكاثوليكي بشارع المطار، اخشي ان لا يكون عبارة عن طلبية Job وضعت مواصفاتها وتصاميمها في المكان ايّاه!!!. وعلي هذا الاساس اننا لانري في هذا الاتجاه الا هروبا اماميا وتعبيرا عن الانهذام في مواجهة التحديات الجسام وتصفية للحسابات الشخصية علي حساب القضايا الاساسية.