شاهد بالصور.. ما هي حقيقة ظهور المذيعة تسابيح خاطر في أحضان إعلامي الدعم السريع "ود ملاح".. تعرف على القصة كاملة!!    مساعد البرهان يتحدث عن زخم لعمليات عسكرية    البرهان يطلع على أداء ديوان المراجع العام ويعد بتنفيذ توصياته    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إضراب الأطباء على ضوء تقاليد راكزة في العمل النقابي ... بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 08 - 06 - 2010

يعيدنا إضراب الأطباء الحادث وقوة شكيمته إلى أرفع تقاليد العمل النقابي في السودان. ورأيت قبل التعليق عليه مباشرة أن يطلع القاريء على صفحة من هذه التقاليد الراكز عليها. وهنا خبرة إضرابين لعمال السكة الحديد. أولهما مما نريده لإضراب الأطباء والآخر مما لا نريده لهم. سدد الله خطى الأطباء وحماهم من الغائلة.
إضراب الأطباء على ضوء تقاليد راكزة في العمل النقابي
1) إضراب الثلاثة وثلاثين يوماً (عطبرة، 1948): يا للدبارة
فرغت مؤخراً من قراءة كتاب "مذكرات عن الحركة العمالية (1989) لمؤلفه المرحوم الطيب حسن أول سكرتير لأول نقابة عمالية هي هيئة شئون العمال بالسكة الحديد. واستوقفني إضراب النقابة المفتوح في مارس 1948 بعد يأسها من استجابة إدارة السكة حديد لمطالبها. واشتهر الإضراب بإضراب الثلاثة والثلاثين يوماً. وسرني أن الطيب فصَّل تدابير الهيئة لضمان وحدة العمال طوال هذا الانقطاع الممدود عن العمل وتوطين عزائمهم حتى النصر.
تلافت النقابة أن ينكسر الإضراب من جهة المحطات الخارجية التي تعتمد في أكلها وشربها على حركة مسير القطارات. فسحبت عمال خط النمر بين أبي حمد وحلفا إلى مدينة حلفا. واستخدمت قطارات خاصة سيرتها النقابة بمتطوعين من العمال بالاتفاق مع مصلحة السكة حديد. وحمل القطار وطاقم العمال المتطوعين شارة عليها "هيئة شئون العمال". وكانت الإشارات البرقية التي سيرة قاطرة المتطوعين من محطة إلى أخرى تحمل هي الأخرى اسم الهيئة. واجتمع العمال حول أول قاطرة متطوعة بمحطة عطبرة واشبعوها تصفيقاً. ولم تلتزم مصلحة السكة بخطة سحب العمال من المحطات الخلوية حين جاء الدور على خط بورتسودان-عطبرة. فتلافت الهيئة الحرج باستئجار لواري تحمل الزاد لعمال المحطات الخلوية. والتزمت مركزية عطبرة بتزويد المحطات إلى أوجرين بالماء ومواد الطعام بينما وقع تزويد المحطات من أوجرين إلى هيا على فرعية الهيئة بهيا.
وما أن تسامع أهل المدينة بخطة النقابة لدعم صمود المحطات الخلوية حتى تباروا في التبرع لإنفاذ الخطة. فوضع الحاج محمد حسن البصيلي أسطول عرباته تحت تصرف الهيئة احتساباً. كما وضع جماعة من شعب العبابدة جمالهم تحت تصرف الهيئة لحمل الماء لمحطات الخلاء. وجاء المزارعون الدبوراب (أهل المرحوم وض الله دبورة) وأهل الداخلة وكنور والسيالة بمنتوجهم من الخضر لإرساله لعمال الخلاء. وأوفى الخضار وأربى. وكان فائضه يوزع على عمال عطبرة.
ولم تغفل الهيئة وهي في هذا الظرف العصيب عن مصاريف أولاد العمال في المدارس الخاصة والأهلية. ولم يكن بيد أمين صندوق الهيئة ما يكفي فرهن السادة سليمان موسى، رئيس الهيئة، والطيب حسن، سكرتيرها، وقسم الله صباح الخير، وحسن السيد، ومحمد أحمد حمد، من قادة الهيئة، منازلهم للحاج البصيلي وأخذوا منه ما يكفي مصروفات أولئك التلاميذ. وما زاد من المال اشترت به الهيئة 500 أردب ذرة من السيد عمر عجبين وفرقته على لجان المصالح (ورش، هندسة، إدارة، مخازن) ليوزعوه بدورهم على العمال بالميدان الواقع شرقي مكاتب النقابة بظهر المدينة. ولاحظ الطيب أن العامل كان يأخذ قدر حاجته لا يزيد ولا يجشع.
وأمطرت المدينة تبرعات على الهيئة. فأجتمع مفتش المركز بالتجار وحذرهم من مغبة دعم الهيئة. فأهملوه إلا أن السيد عباس محمود، صاحب العمارة التي تحمل اسمه شرقي محطة السكة حديد، قال له بصورة وصفها الطيب ب "جعلية واضحة" أنه وضع جميع ما ملك تحت تصرف العمال. وتبرعت السيدة سبيلة فضل ب 15 جنيهاً. وكانت هي التي توفر الدلاليك لمسيرات العمال فتلهب المشاعر وتوثق العزائم. أما السيدة حد الزين لما لم تجد مالاً بيدها قدمت عقد تمليك منزلها ضمانة حتى تعثر على المال. وتبرعت أخرى بخروف ورابعة بخاتمها. وبعثت حرم الزعيم الأزهري بواحد وعشرين قطعة من ذهب شفها تبرعاً للهيئة بواسطة السيد بشير حسن رئيس لجنة الوابورات ببحري.
وتحسبت الهئية لما يفرزه تطاول الإضراب من روح تخذييل. وبالفعل بدأ بعض المخذلين من اليوم العاشر في بث اليأس بين الناس. فاشاعوا أن التجار أوقفوا "الجرورة" وأن حالة العمال ساءت. فأنتخبت الهيئة جماعة منها لتتحرى أحوال العمال و أن تسعف الضائقين بدون ضوضاء. ووقفت تلك الجماعة على صبر عمال آخرين باعوا ذهب الزوجة أو الأثاث ليعضوا النواجذ على الحق.
وبالطبع ساءت الحال بتطاول الإضراب وتناقص الموارد. وهم في هذه الحالة جاءهم تبرع اتحاد نقابات عمال السودان وقدره 224 جنيهاً. فأنفرج الحال نوعاً. وأخذ الطيب أكثر هذا المال في صحبة الرفيق قاسم أمين، نائب سكرتير الهئية، إلى مكتب البوستة ليحولوا منه لفرعيات النقابة: خمسين جنيهاً للجنة القضارف، وخمسين جنيهاً للجنة كسلا، وخمسين جنيهاً للجنة كوستي، وخمسين جنيهاً للجنة أبي حمد.
وخالطت هذه الترتيبات بعض التجاوزات. فقد حرص الطيب على "تجنيب" 120 جنيهاً من مال الهيئة بطرف أمين صندوق لجنة الورش الحاج سيد أحمد الصاوي. وأخفى الطيب هذا المال المجنب حتى عن رئيس النقابة سليمان موسى تحسباً للطارئ. ولكنه فوجيء وهو يدخل دار النقابة بالرئيس (الذي علم بالمال المجنب بطريقته) يوزعه إعانات للعمال كيفما اتفق. فخبط على باب مكتب الرئيس فلم يفتح فكسر بابه واقتحمه. فوجده في صحبة جماعة. وانتقد الطيب سليمان لتصرفه في المبلغ بغير رجوع للهيئة لتضع قواعد توزيعه. وفصّل الطيب بعد ذلك في ملابسات اعتقال سليمان موسى بعد خطبة له ضد الاستعمار بجامع المدينة. وواضح أن معادن الطيب وسليمان ومناهجهما في القيادة مختلفة. وسنتجاوز عن ذلك هنا سوى قولنا عن عودة المضربين للعمل في منتصف ابريل 1948.
فٌرجت ضائقة النقابة المديونة بوصول تبرع حمله السيد محمد نورالدين عن النقابات المصرية (3 ألف جنيه)، و"يوم الفقير" القائم عليه أحمد باشا (3 ألف جنيه) (واتضح لاحقاً أن ذلك عطية من الحكومة المصرية) ومن فاعل خير (2 ألف جنيه). فسددت النقابة التزاماتها بفك المنازل المرهونة ودفعت لعجبين ما له عليها من دين أرادب الذرة. وتبرع الأشقاء، حزب الزعيم الأزهري ونورالدين، بثلاثمائة جنيه. ولكن نورالدين استكثرها على النقابة التي اغتنت وفردها لخزينة الحزب الفقير في قوله.
ويجد القارئ في نهاية الكتاب الصغير وثائق خطابات وكشوفات تبرعات مصر الرسمية والشعبية. ومن ذلك تبرع اتحاد شمال السودان والجمعيات الخيرية (النوبية مثل حلفا دغيم وجمي وعمكة وشخصيات نوبية) بلغت 91 جنيه و750 مليماً بوصولات مسلسة من 15664 إلى 15685. وكتب خطاب التبرع عنها السيد ابراهيم عبدة صالح رئيس الاتحاد.
لم أملك نفسي من مقارنة هذا الضبط والربط في الأداء النقابي بتهافت إضرب نقابة عمال السكة الحديد في 1981 على عهد دولة نميري. ففي بادرة لؤم (لن يغفرها تاريخ الكادحين للرئيس نميري أبد الدهر) أمر نميري كل عامل مضرب أن يعود إلى العمل أو يٌخلي منزل الحكومة إذا سكن بواحد منها بأعجل ما تيسر. ولم تتحسب النقابة للأمر ولم تعد له عدته كما فعل مؤسسو الحركة النقابية. و"انكسر" العمال وعادوا إلى العمل. وكان ذلك يوماً حزيناً أرخى سدوله على حركة عمال السكة الحديد حتى يومنا هذا: لم تقل أحيا يا العافية. ونشبت في حلق أمثالي ممن فتنوا بحركة عمال السكة الحديد وكل الكادحين غصة لم تزايلنا ولن. وفي حديث السبت نتطرق ل"كسرة" 1981 طلباً للدرس لنبلغ علم "دبارة" نضال غمار الناس.
2) إضراب يوليو 1981 : من أجهضك يا فراش؟
إذا كنت قد أقسمت ألا اغفر لخصومي (أو حتى حلفائي) الفكريين شيئاً فهو "كسرة" إضراب عمال السكة الحديد في يوم 18 يوليو 1981. فما زلت أتبلغ غصصاً كثيرة من تلك المحنة. لن أغفر لنميري كيف وسوس له إبليسه بالحيلة التي توعد بها العمال المضربين بإخلاء منازل الحكومة متى ما لم يقبلوا بفك الإضراب والعودة للعمل. وتهافت الإضراب من بعد هذا الوعيد. ولن أغفر للسياسيين الذين استدعاهم نميري بعد تصدع الاضراب لدراسة وضع السكة الحديد بغرض تفكيكها وأقلمتها (تنظيمها على أسس إقليمية تزيل مركزية عطبرة عنها). فهم في نظري مجرد كاسري إضراب لأن نميري قد تبرع لهم بحل مسألتهم قبل أن يبدأوا البحث فيها. ولم أغفر للجمهوريين بيانهم الذي حرض الناس ضد الإضراب في سياق موقفهم "لماذا نؤيد ثورة مايو؟" (مايو 1979) لتوهمهم أن كل تحرك إضرابي ضد النظام إما من تدبير السيد الصادق أو الأخوان المسلمين لإحتواء نظام مايو أو من خطط الشيوعيين لإسقاط مايو. ولن أغفر للنقابة (وكان على رأسها السيد عباس الخضر الحسن رئيس لجنة الحسبة بالمجلس الوطني) التي لم تستعد لإنتقام الدولة التي تماسكت معها الحزز منذ ابريل 1978. وهذا الإبريل تاريخ معروف في عطبرة ب "إنتفاضة ابريل" انكسرت فيه الحكومة لإرادة العمال. ولكنها تربصت بهم. والعاقل من تدبر.
وقد ظل هاجسي الشاغل أن أعرف الملابسات التي اكتنفت هذا الإضراب الذي كان بمثابة "انتحار" سياسي لأم النقابات. وعثرت في (الرأي العام 25-1-2000) على كلمة بقلم محجوب محمد عثمان جدد فيها ذكرى المرحوم الشريف حسين الهندي (توفى يناير 1982) الزعيم الاتحادي الديمقراطي المعروف. وقال محجوب إن إضراب عمال السكة حديد الحسير هو ثمرة من ثمار نشاط الشريف المعارض لنظام مايو. فإذا صدق قول محجوب توقعت أن يكون الشريف، وكان بيده مالاً لبدا (تحلق حوله المعتفون وأهل الحاجات والبعثات للدكتوراة) قد خصص ميزانية سخية لدعم هذا الإضراب.
ولم يهدأ لي خاطر منذ علمت بالصلة بين المعارضة الحزبية لنظام نميري وإضراب 1981 المهيض. فاصبحت أسأل من توسمت فيهم معرفة بخفايا المعارضة إن كان الشريف قد "بزم" مالاً لنقابة السكة الحديد تتلافى به ضغوط الحكومة وتصمد بين براثنها. وتحدثت إلى أطراف في المعارضة أمنت على أن الشريف تحسب لشر نميري وبعث بمال وفير ليوضع تحت تصرف النقابة. فقائل قال إنه بعث بخمسة مليون جنيه بواسطة طالب بجامعة الخرطوم للغرض. وكان الطالب، واسمه يوسف، عفيفاً متقشفاً يركب المواصلات العامة وبحقائبه الملايين. وكان من فرط زهادته يسمونه "الشيوعي". وسلم يوسف هذا المال المجعول للنقابة، بشهادت الراوي، إلى لجنة خماسية اتحادية تسرب المال بين أيديها ولم يبلغ مقصده.
ليس من شغل بالطبع الأحزاب الإيحاء بالإضراب لنقابة ما ولا تمويله. وقد رأينا في كلمتي الماضية كيف خاضت نقابة لسكة حديد إضراب الثلاثة الثلاثين يوماً في 1948 اعتماداً على صندوق مالها، وتبرع شعب مدينة عطبرة جوداً بالموجود نوعاً ونقداً. وقد جاء حزب الأشقاء (الزعيم الأزهري) بتبرعهم للنقابة بواسطة السيد محمد نورالدين. ولكن السيد الطيب حسن، سكرتير النقابة، أوقف نور الدين عند حده عندما طلب منه، بآصرة الزمالة في حزب الأشقاء، أن ترفض النقابة قبول محام بعث به حزب الأمة للدفاع عن النقابيين أمام المحاكم ليقتصر الدفاع على محاميّ الأشقاء مثل السيد مبارك زروق. وقال الطيب لنور الدين إن النقابة هيئة أخرى غير الحزب تحتاج لدعم الكل ولا تخضع للاشقاء أو غيرهم في رسم سياساتها. والتزم المرحوم على محمد بشير، الذي فارق دنيانا منذ أسابيع، بنفس ما التزم به الطيب الشقيق. فقد رفض إملاءاً من الشيوعيين، وكان في طليعتهم مندوباً شبه دائم لعمال ورشة المرمة (صرة الورش) في النقابة، بأن تدخل النقابة في إضراب لم يعتقد هو بمساسه بعمال السكة حديد أو مناسبته لهم في الزمان والمكان. فاستحق لعنة الشيوعيين منذ ذلك الوقت وطبقوا عليه صيغ اللعنة الشيوعية المتوارثة مثل وصفه بالإصابة بداء "العقلية النقابية". وهذا ما اتوافر على دراسته حالياً.
قال الدكتور أحمد العوض سكنجا في كتابه "مدينة الحديد والنار" (بالإنجليزية 2002) أن إضراب 1981 كان منعطفاً حاداً في تاريخ نقابة عمال السكة الحديد. فقد دفعوا من جرائه ثمناً باهظاً ولم يستردوا حيويتهم بعد. ولا تعدل كسرة عمال السكة الحديد في 1981 في نظري إلا "كسرة" المهدية في 1899 من حيث تجريد السودانيين أو جمهرة منهم (في الحالتين) من أداة لتغيير ما بأنفسهم ومعاشهم. وكانت تلك الأداة هي الدولة في حالة المهدية بينما هي النقابة في حالة السكة حديد. وهذه قناعة قد لا تجدها بين من لم يترب في أدب وسياسية وزمالة النقابة من أمثالي. فالنقابة هي هدية عطبرة والعمال لنا. وهي أوسع النظم الاجتماعية السودانية ديمقراطية لأنها، تعريفاً، مؤسسة تضم عمال المنشأة المعينة بغير نظر لفوارق الدين أو الإثنية أو القبلية أو اللغة أو الإنوثية او الذكورية. فقد انضمت المعلمات والممرضات لنقابة المنشأة منذ أواخر الأربعينات. ودخل العمال من الغرب والجنوب في النقابة افواجا متى ما بلغتهم السكة. وسعة النقابة للتنوع لا تقارن بسعة ما هو متعارف عندناً من النظم التقليدية مثل القبيلة والطائفة ذات المعايير الضيقة في تصنيف من انتمى إليها مهما بدا من رحابتها.
فكسرة النقابة، اي نقابة، طعنة نجلاء في إنسانيتنا. فقد ساءني دائماً الاتهام المعمم الذي راج بين جماعات يسارية جزافية من أن بئيتنا العربية المسلمة (الإسلاموعربية في لغتهم الإكتومايوية). مسكونة بالاضطهاد العنصري خرقاء من جهة حقوق الإنسان إلى يوم يبعثون. ولا فكاك للمرء منا إلا أن يخلع عروبته وإسلامه خلعاً وينكرها ثلاثاُ في الضحى الأعلى. وتجدهم يستدلون على ذلك بأبيات مستلة باعتساف من المتنبى عن كافور الإخشيدي أو من ذكر ممارسات للزبير باشا أو مبدأ الكفاءة في الزواج استناداً على عقد زواج شهير في السبعينات. وهذا انتقاء عشوائي للبرهان على نقص إنسايتنا كمسلمين وعرب لن تسلم معه أي جماعة من تهمة الاضطهاد العنصري مهما بلغت من آيات السماحة. ولقد جادلت هؤلاء اليساريين الجزافيين طويلاً ألفت انتباهم دائماً إلى أن إنسانيتنا العربية الإسلامية (الإسلاموعربية) لم تتجمد في تاريخ الأولين لأنها فعل تاريخي يتجدد بالتاريخ ويجدده. وكنت أشير لهم مثلاً ب "النقابة" التي هي من أفضال مدينة للحديد والنار عربية إسلامية في الغالب. ولكن الأشقياء الجزافيين لا يرون حقاً للإنسان إلا ما تصدقت لهم به مراكز حقوق الإنسان المرابطين عند بواباتها . . . بالأسامي الأجنبية.
ليس تفريط أي كان، بما في ذلك العمال انفسهم، بهذا الوعاء النقابي المجيد مجرد غفلة سياسية. إنه بالأحرى غفلة حضارية. وتستحق هذه الغفلة من صحافة التحري عندنا تسليط الضوء عليها في حين ما يزال شهود الأمر بيننا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.