بعد انتظار طويل، وتسريبات صحافية غلب عليها اجتهاد الأجر الواحد، أصدر الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير مرسومين جمهوريين بتعيين وزراء ووزراء دولة مساء يوم الاثنين الماضي. وتتألف الحكومة الجديدة من 35 وزيراً اتحادياً و42 وزير دولة، حيث هيمن المؤتمر الوطني هيمنةً كاملة على الوزارات السيادية، وحاز على معظم الوزارات ذات الاختصاصات الاقتصادية والفنية والخدمية، بينما حصلت الحركة الشعبية التي ألقت بصفها الثاني في نصيبها من الوزارات الاتّحادية، وكسبها الجديد يتمثل في حصولها بعد طول انتظار، وإلحاح في الطلب، على وزارة النفط، ولكن بعد أن انبثقت عنها وزارتان، احداهما وزارة الكهرباء والسدود، والأخرى وزارة المعادن، وأُتبعت كلاهما للمؤتمر الوطني أيضاً، لذلك لم يكن هناك جديد في هذا التشكيل الوزاري الجديد الذي ترقبه كثير من السودانيين بالحذر والرجاء، باعتبار أن هذه هي حكومة وحدة السودان لأن من أولوياتها الوطنية مواجهة تحديات ومتطلبات انفاذ استحقاقات الاستفتاء على تقرير المصير حول الجنوب في يوم الأحد التاسع من يناير 2011، ضمن متبقيات استحقاقات اتّفاقية نيفاشا للسلام، والعمل بإخلاصٍ وجدٍّ لتفادي مخاطر تداعيات هذا الاستحقاق على السودان كله، جنوبه وشماله. وكان المأمول أن تكون حكومة وحدة السودان نتيجة إجماع وطني وتوافق قومي، وتتوافر على تراضٍ ورؤية وطنية مشتركة من قبل الأحزاب والقوى السياسية كافة من أجل مواجهة تحديات انفاذ استحقاقات الاستفتاء على تقرير المصير بالنسبة للجنوبيين، لذلك كان من الضروري تكوين حكومة ذات قاعدة عريضة تواجه هذا التحدي الخطير، بعيداً عن الاحتكار والهيمنة، لأن المسؤولية عظيمة لا تتعلق بنظام الحكم وأسلوبه، بل تتعلق بمصير السودان ووحدة أراضيه. وأحسب أنه من الضروري أن يعي الوزراء ووزراء الدولة بعد أن أدوا القسم، وهو قسم عظيم لو يعلمون، أمام رئيس الجمهورية أمس (الأربعاء) مدى جسامة المسؤولية الوطنية وخطورة المسؤولية التاريخية الملقاة عليهم في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ السودان الحديث، للمحافظة على وحدة أراضيه. كما يجب عليهم، من باب المناصحة، عند أدائهم لواجباتهم الوزارية التذكّر بأنهم شاغلو مناصب دستورية في حكومة وحدة السودان، عليهم تغليب الحس الوطني على الحس الحزبي في التصدي لمسؤولياتهم الوطنية في مواجهة تحديات المرحلة المقبلة، فلهذا يجب عليهم إدراك أنهم في أدائهم الوزاري هذا في تنازع وطني بين أجر الوحدة ووزر الانفصال، فإن سعوا جاهدين مجاهدين من أجل جعل خيار الوحدة خياراً جاذباً خلال الأشهر المقبلة، وظل السودان موحداً، فلهم أجر الوحدة، ديناً ودنيا، وحق الخلود الوطني في الذاكرة الوطنية، وإن قصروا -لا قدر الله تعالى- في مهامهم الوطنية، وتقاعسوا عن تلبية نداء الوطن في الحفاظ على وحدته، فعليهم وزر الانفصال، وهو وزر خزي وعار، ووزر ندامة وحسرة.. وليتذكروا أن التاريخ لا يرحم، وليتذكروا أنه مثل ما خلدت في ذاكرة أجدادنا وآبائنا وذاكرتنا الوطنية، بناة السودان، الوطن الواحد المُوحَد، سيخلد في ذاكرتنا وذاكرة الأجيال المقبلة من أضاعوا سودان الآباء والأجداد. في رأيي الخاص أن تحديات استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول الجنوب، تتطلب من الحادبين على وحدة البلاد داخل السودان وخارجه تكثيف حملات التوعية الراشدة بمخاطر تداعيات الانفصال على الجنوب والشمال معاً. كما أنه من الضروري العمل الجاد مع بعض قياديي الحركة الشعبية من المطالبين بالانفصال لإحداث مقاربة معهم، وتقريب شقة الخلاف بينهم وبين الوحدويين من الجنوبيين والشماليين، وضرورة إدراك دورهم الفاعل في التأثير إيجاباً، إن أمكن اقناعهم بالوحدة، بعد بناء الثقة، والتأكيد على صدقية الخطاب الوحدوي في المرحلة المقبلة، ليكون هؤلاء دعاة وحدة، لا معاول انفصال. كما أن على حكومة وحدة السودان الجديدة العمل الجاد في بناء الثقة بين الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)، لأن هذا مدخل مهم من مداخل غلبة الصوت الوحدوي على الصوت الانفصالي في الجنوب والشمال أيضاً. وسيصب هذا الجهد إن أخلصت النيات وصدقت العزائم، وكانت هناك إرادة سياسية قوية من أجل جعل خيار الوحدة خياراً جاذباً، لا سيما أن أصوات الانفصاليين في هذه الأيام أكثر إسماعاً، وأن البعض بدأ يتحدث بصورة يائسة عن الانفصال، باعتباره أصبح حقيقة أو أنه بات قاب قوسين أو أدنى، ولعمري هذا هو الإحباط نفسه، واليأس المنهي عنه ديناً ذاته، وفي ذلك يقول الله تعالى: "يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ". وأحسب أنه من الضروري أيضاً التزام حكومة وحدة السودان الجديدة الالتزام بتنفيذ الوعود التي بُذلت خلال الحملات الانتخابية للمؤتمر الوطني سواء من الرئيس عمر البشير أو بعض قيادات الحزب الحاكم. ولا أظن أن أولئك الداعين إلى الاستعداد لما بعد الانفصال ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من باب التخاذل أو الخذلان، ولكنهم استجابوا لما بدأ يُعرف بالأمر الواقع الذي فرضه بعض قياديي الحركة الشعبية وبعض انفصالي الشمال، وكذلك بدأت الأحداث تترى في اتجاه الانفصاليين، بينما دعاة الوحدة مازالوا يتحدثون عن أهمية وحدة السودان ومخاطر تداعيات الانفصال، والمطلوب خلال الأشهر المقبلة العمل الدؤوب لتحديد آليات وأساليب تجعل خيار الوحدة خياراً جاذباً خلال أقل من سبعة أشهر. ولتبديد مخاوف الحادبين على وحدة السودان نتيجة قِصر الفترة المتبقية من انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول الجنوب، وفي ذلك قال الرئيس عمر البشير في خطابه أمام الجلسة الافتتاحية للمؤتمر القومي الثامن للاتّحاد العام للمرأة يوم الاثنين قبل الماضي "إننا بصفاء النية وإخلاص العمل والجدية والابتعاد عن نزعة المشاكسة والتخذيل وبالحوار البناء وبروح المسؤولية، قادرون على أن نحفظ للسودان وحدته والتي هي مسؤولية الكل في جنوب وشمال السودان". أخلص إلى أن الحادبين على وحدة البلاد داخل السودان وخارجه عليهم العمل العاجل من أجل جعل خيار الوحدة خياراً جاذباً، وكذلك أحسب أنه من الضروري أن تتضافر الجهود الرسمية والشعبية لتحقيق هذا الهدف الوطني النبيل. ولقد تلقيت مجموعة من التعليقات على مقالي في الأسبوع الماضي بهذه الصحيفة عبر بريدي الالكتروني، واستوقفتني رسالتان ضمن تلكم الرسائل، احداهما من أكول ميغر والأخرى من بيتر أبولو، وكلا الرسالتين اعتبرت أن الدعوة إلى جعل خيار الوحدة خياراً جاذباً للجنوبيين جاءت متأخرة، وأنها مضيعة للجهد والوقت معاً، إذ إن الجنوبيين وجهوا وجهتهم تجاه الانفصال أو حسب تعبيرهما تجاه استقلال الجنوب من الشمال. وقالا إنه من الضروري في ما تبقى من أيام وأشهر الاستعداد لقبول هذا الانفصال. وزعم بيتر أن الشمال والجنوب منفصلان منذ أمدٍ بعيد.. إلخ. فهكذا نلحظ أن بعض الإخوة الجنوبيين حسموا نتيجة الاستفتاء على حق تقرير المصير في التاسع من يناير المقبل، قبل موعده، بدعوى أنه تحصيل حاصل، وأن النتيجة الحتمية لهذا الاستفتاء هو الانفصال. أحسب مخلصاً أن هذا يدعو الحادبين على الوحدة إلى بذل المزيد من الجهد من أجل جعل خيار الوحدة خياراً جاذباً لكافة الجنوبيين وبعض الشماليين أيضاً. ولنستذكر جميعاً في هذا الخصوص قول الله تعالى: "إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ". وقال الشاعر أحمد بيك شوقي وللأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق ومن يسقى ويشرب بالمنايا إذا الأحرار لم يُسقَوا ويَسقُوا Imam Imam [[email protected]]