[email protected] بعد تعهد نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إبان زيارته الأخيرة لنيروبي بكينيا بان بلاده ستكون أول دولة تعترف بالدولة السودانية الجديدة في حالة انتهاء الاستفتاء بطلب الانفصال ..وبعد الاجتماع الأخير لمجلس الأمن الدولي بنيويورك بضرورة البدء في التخطيط لاستفتاء التاسع من يناير 2011 في جنوب السودان ومنطقة ابيي بشأن رغبتهم في البقاء ضمن الشمال أو الانضمام للدولة الجديدة .. بدا لي إن المخطط الكارثي قد وقع باردا على جرح اثنين من السودانيين هما صاحب الانتباه الطيب مصطفي والأمين العام للحركة الشعبية باقان اموم .. أما أنا وأظن إن الكثيرون يشاطرونني نفس هذا الإحساس فقد بدا لي وقتها وكأن السودان بكل أركانه الأربعة وشعوبه وقبائله مختطف في طائرة تطير بسرعة الصوت في رحلة إلي المجهول تمر بمطبات اسمها فقدان الإرادة ..إدمان الفشل .. الجاهزية للأخذ وعدم الاستعداد للتضحيات .. هدر العبر والعظات عبر العصور دون الاستفادة منها ..غلبة وطغيان الخاص على العام .. الآن لا جدوى من البكاء علي اللبن المسكوب ولكن استقراء ما ما أعتقد انه سيلي الانفصال هو الذي دفعني لكتابة هذا المقال في هذا الزمن الضائع .وأقول هنا (والله يكضب الشينة) بأن إعلان الانفصال في تقديري هو بداية تآكل للسودان من أطرافه .. هناك 150 لغة و500 قبيلة متباينة الإرث والثقافات والتقاليد والأعراف وربما المعتقدات في بلد مترامي الأطراف يعيشه جل أهله الذين تتفشي فيهم الأمية تحت خط الفقر ..مركز متهم بالتكويش على السلطة والثروة وهامش متذمر بات على قناعة تامة بعد غياب الثقة بأن الحق ينتزع بفوهة البندقية امتثالا لمنهج كسيح جنينا ثماره عنفا استشري حينما أطلقته الحكومة في بداياتها إنها لن تفاوض إلا من يحمل السلاح .. خلافات وانقسامات داخل المعارضة سلمية كانت أم مسلحة بعضها بتفتيت فعل فاعل وبعضها نتيجة صراعات عبثية كل يزعم فيها انه الممثل الوحيد .. ولذلك يبدو من الغريب كيف احتفظ السودان وطوال هذه السنين بوحدة وهو يسبح في لجة بحر متلاطم من التناقضات وأمامنا بلد مثل الصومال يتحدث أهله لغة واحدة ويدينون بدين واحد وتسود بين فئاته أعرافا وتقاليد متجانسة ومع ذلك تحول تحت سنابك العصبيات والقبليات إلى شظايا من الجماعات المتقاتلة تحركها في الخفاء أيدي مطامع وتصفية حسابات خارجية بعد إن انتهت الدولة مع عدم وجود أي بارقة أمل في مصالحة واستقرار .. لذلك اعتقد جازما بأن هذه التناقضات التي عاشها السودان وفي تضاد تام لكل قوانين الطبيعة والتي كانت بمثابة براكين هامدة ستستيقظ مع إعلان انفصال جنوب السودان .. لتجعل الوطن مشروعا جاهزا للتشظي والتفتيت .. لا تصدقوا سلاما وحسن جوار بين الدولة القديمة والوليدة .. بين دولة تعتقد أن جزءا غاليا اقتطع منها عنوة واقتدارا وأظن إنها ما كانت تتمنى يوما أن تدخل تاريخ السودان مسجلة نفسها الأولي التي تمزق في عهدها بلد الجدود وبين دولة تعتقد أن حلم العمر تحقق علي يديها وإنها تحررت وللأبد من رجس الظلم والعبودية ودونكم اريتريا وأثيوبيا والهند و الباكستان .. السيناريو المتوقع في الحالة السودانية أن تكون من ضمن أجندة الدولتين استمرار العدائيات بأساليب أخري بين سعي الخرطوم الاثبات للعالم إن الانفصاليون عاجزون عن إدارة دولة ولا أمل لهم سوى العودة الى رحاب الوطن فيما ستستميت جوبا في الاتجاه المعاكس ولن تتردد بالاستنجاد بالدول التي تبرعت بدعمها وتقديم الضمانات الكافية لها لحمايتها من دولة أصلا مستهدفة سجلها ورصيدها في الخارج أوهن من خيط العنكبوت . سينزلق البلدان في مستنقع جديد من العنف والمواجهات العسكرية أكثر خطورة مما مضى .. ضربة البداية فيه قضية شائكة بالغة التعقيد إسمها ترسيم الحدود .العقدة فيها قوميتان ربطت بينهما المصالح منذ العصور وتعايشتا حد المصاهرة وتولت الإدارة الأهلية التي نالت ثقة الجميع بنزع فتيل أية أزمة في مهدها بالحكمة والعقل ..الآن وبالمنطق الذي هو أس بلائنا في هذا البلد المنكوب (يا أنا يا أنت) يخططون لفصل التواصل والتعايش توطئة لجر الطرفين (المسيرية ودينكا نقوق ) لصراع ومواجهات الخاسر الأول فيها هذه الشعوب المغيب صوتها المغلوبة على أمرها شمالا وجنوبا ..لن يجد من يدعي باقان تمثيلهم الجنة الموعودة .فهؤلاء السياسيون لم يقدموا أنفسهم أمثلة يحتذي بها في التضحية والوفاء لمن يدغدغون عواطفهم ويعدونهم بالمن والسلوى مع إعلان الانفصال ..فقد دخلت 8 مليار دولار لخزينة الجنوب من نصيب عائدات البترول كانت كفيلة بتغيير وجه الحياة هناك ولكن لاشيء يفضح أكثر مثل صور ناطقة تبثها وكالات (رويترز والفرنسية والألمانية) لإنسان بائس هائم على وجه في الأحراش يقتات ما تجود به منظمات ( الأوكسفام وسان فرانتييه وسيف ذا شيلدرين) مع تقارير وتحذيرات تطلقها المنظمات العاملة هناك من حين لآخر من مجاعات تطل برأسها في غياب اية مشروعات تنموية او حتى خدمية مع تفشي العنف القبلي الذي يخشي ان يؤدي إلي إنشطارات داخل الدولة الوليدة..أين ذهبت الثمانية مليار دولار ؟ يقولون إن نصفها طار للسلاح والنصف الآخر اختفي في الجيوب .. وبالمثل فإن الطيب مصطفي لن يجني شيئا من تمزيق الوطن ..لن يحصد سلاما ولن يجد رخاء وليته يقول شيئا مفيدا أو يصمت . فالصراع الذي تفجر في السودان بدرجات متفاوتة في الحدة عبر حقب الزمان وان كان ظاهره المطالبة بالعدالة في توزيع الثروة والسلطة إلا انه باطنه أو ضميره المستتر كان صراعا عرقيا اثنيا على الهوية لم تحسن الحكومات التعامل معه ..الآن ومع انفصال الجنوب فأخشى أن يكون ذلك بمثابة منصة الانطلاق التي ستبدأ منه الحملة الجديدة أو المسمار الأخير وقد دقوه في نعش أي إمكانية للوحدة والتعايش مع ما يتبقي من هذا الوطن الجريح .. سيفتح الانفصال شهية كل واهم بأنه طريق الخلاص وفي تقديري إن الدولة الوليدة وضمن العدائيات والعدائيات المضادة مع الخرطوم لن توفر جهدا في العزف على وتر الخلافات العرقية والدينية في جبال النوبة والانقسنا بينهم وبين (العرب والمسلمين) . هذا إذا لم تحتضن جماعات متمردة وتمدهم بالمال والسلاح . كل ما تناهي إلي سمعي الصوت النشاز من ضجيج الجوقة التي تعزف مزامير التيشير بالانفصال شمالا وجنوبا وفي ظل واقعنا البئيس يمثل أمامي قول الحق تبارك وتعالي في محكم تنزيله عن قوم عاد ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) الأحقاف الآية ( 24 ) . سيمضي الجنوبيون وربما بدعم وتعاطف خارجي (حتى ولو كان علي الطريقة العراقية) إلي ما يحسبون انه طريق الخلاص ..دون إن يشطبوا من رأسي صورا ظلت عالقة وشما في الذاكرة ..طوفت بي ذكريات العذوبة التي تحولت الآن الي مرارات تجاه السبعينات إلي الخرطوم بحري تحديدا ..حيث كنا نستأجر غرفتين في منزل شعبي وكان يقطن بجوارنا مجموعة من الإخوة الجنوبيين ..كثيرا ما كانوا يشاركوننا الجلوس على البرش في ضل العصريات لاحتساء الجبنة ..لازلت أتذكر جيدا زميلنا الجنوبي المسيحي ماريال وهو يقول انه عاد لتوه من رفع الفاتحة في منزل جار لنا توفي احد أقاربه ..كان يتواصل مع جيراننا من الشمال ويلومنا إننا نتكاسل في أداء واجب العزاء ..تلك أيام مضت ..أيام لن تعود .. وأتساءل مع اقتراب نبرة العد التنازلي الي خط النهاية في التاسع من يناير2011 .. تري ماذا سيكون مصير ذلك المواطن الجنوبي الذي قال في لقاء متلفز إن كل الذين تبرعوا له بالدم وكتبوا له عمرا جديدا بعد عملية جراحية خطيرة كانوا من الشمال .أو تلك السيدة التي اعترفت وهي محاطة بزوجها وأبنائها إنها ولدت وترعرعت في الشمال وإذا أعادوها إلي الجنوب فسوف تتحول إلي لاجئة ..بل أي مصير سينتهي بالشاب الفنان شول وهو يشعل الأكف بالتصفيق مترنما برائعة العطبراوي .. يا بلادا حوت مآثرنا كالفراديس فيضها منن ..نحن بالروح للسودان فدا فلتدم أنت أيها الوطن ..ماذا عن الذين عاشوا عبر العصور وتصاهروا وتجانسوا شمالا وغربا وشرقا ؟؟ من داخل الطائرة المختطفة إلي المجهول استغرقت أنا الذي كم أطلق العنان لحلم أن تكون بلادنا (وهي بالفعل مؤهلة) سلة غذاء لنا وللعالم في التفكير في حالنا ومآلات المستقبل .. تذكرت وقتها دولة ملوك الطوائف في اسبانيا في نهايات القرن الرابع عشر الميلادي حينما توجه حاكم غرناطة الملك ابوعبد الله محمد الثاني عشر يجرجر قدميه ذليلا مهانا لتسليم مفاتيح قصر الحمراء إلي ملكي قشتالة واراغون ثم عاد يبكي بحرقة وهو يلقي نظرة الوداع من فوق ربوة ناعيا حكمه حينما زجرته والدته بأنه يبكي بدموع النساء حكما لم يحافظ عليه بعزيمة الرجال .وتساءلت .. تري من سيزجرنا نحن ؟؟