1- في ثمانين بروف أحمد محمد الحسن: "لا أباً" لك يسعد لولا الإجازة لكنت حضرت الاحتفال ببلوغ البروفسير أحمد محمد الحسن الثمانين من عمره. ومن يعش ثمانين حولاً، في حال البروف، "لا أبًاً لك" يسعد. فهو من جهة ما يزال خادم الحرمين: التعليم والبحث. فقد ظل يدرس علم الأمراض بكلية طب جامعة الخرطوم منذ التحق بها في 1958. وليس من معهد اختص بعلم الأمراض في الجامعة أو من مستشفى لذات الغرض لم تكن بمبادرة منه: معهد أبحاث المناطق الحارة ومستشفاه بأم درمان. وما يجل عن الحصر. وجاء في رصيده البحثي 234 ورقة علمية تعاون فيها مع زملاء ونشرها في 100 مجلة طبية على نطاق العالم. ثم هو سعيد أن تناصر طائفة من طلابه وأحبابه لتكريمه عند هذه المحطة الغراء. دعتني لحضور المناسبة البروفسيرة سعاد سليمان منظم المناسبة فأكبرت الهمة العطبراوية. ولم افجأ بأن الذي أعد كتاباً حافلاً بإنجليزية مشرقة عن حياة الرجل وشغله للعلم والوطن هو زميلنا البروفسير أحمد الصافي. فقد التزم الصافي دائماً بما لايَلزَم. فلربما أغناه عن هذا الكدح العلمي أنه نطاسي التخدير الأول. ولكنه ألزم نفسه بأن يكون الباحث في تاريخ مهنة الطب السودانية: رجالها ونساؤهها. فقد سبق له إصدار كتابين عن التيجاني الماحي وآخر عن عبد الحميد إبراهيم سلبمان (2008) وثالث عن محمد حمد ساتي تحت الإعداد. وها هو يفرغ من كتابه عن البروفسير في ثمانينته. وهذا بر بالسلف ندر عندنا. فقد رأينا الإزراء بالرواد فاش. وأول أعراضه أن لا يعرف الخلف عنهم ولا شيء. فاقرأ نعي بعضهم على "سوداييزأونلاين" مثل القاضي صلاح حسن فلايذكرون لهم فضلاً مكتفين ب "اغسله بالبرد والثلج" الصالحة لكل ميت في أي زمان ومكان. بكتاب الصافي عن البروفسير وغيره ندخل باب تاريخ المهن الحديثة في بلدنا. وقد وقفت على خطر هذا التاريخ وأنا أكتب عن تاريخ القضائية السودانية. ورأيت إنفراط عقد المهنة بين ثنايا "شكلة" قضاة الشريعة والمدنيين التاريخية انفراطاً ذهب بميثاق المهنة ورَوحها (esprit de corps). وهذا الميثاق ما أراد الصافي استرداده لمهنة في محنة. فأنظر إلى إضراب نواب الاختصاصيين القائم وكيف تفرقت المهنة من حوله أيدي سبأ. فلم أصدق قول مسئول في الصحة، نصب محاكم التأديب لنصف ألف من الأطباء،ويزعم باطلاً أن الخدمات الطبية لم تتأثر ب"طيش" المضربين. بل ساءني الكسر المنظم للإضراب من جماعة منهم ارتضت ان تكون وحدها لا غيرها الرسول بين الأطباء المعتقلين والأمن وأسرهم. ووجدت في فكرة فتح أبواب البلد للأطباء المهاجرين "ليسدوا" الخدمة كآبة مهنية. وأذَكِرهم بيوم قال السيد عبد الله أحمد عبد الله للرباطاب، خلال حكمه الإقليم الشمالي، إنه سيأتي بفلاحين مصريين ليزرعوا بدلاً عنهم ما لم يشمروا. فقالوا له: "أسيأتون بدزلينهم" اي جازولينهم. فقد كانت المشكلة يومذاك هي ندرة الجازولين لتشغيل الطلميات ولكن الحاكم ما درى. واقول لوزارة الصحة: "أسيأتي أطباء النفرة بأجركم البخس أم بدزلينهم". والمهنة الطبية بحاجة إلى نفض الغبار عن ميثاقها لسوء السمعة الذي اكتنفها وهي "تدخل السوق" بمجازفة غير مكترثة للقسم الأوبرقراطي. فكتب من قريب الاستاذ عمار محمد آدم عن كيف ناشته فواتير العلاج وزوجته، ضحية حادثة حركة، ما تزال على النقالة. وقال إنه لم يدر أن يرطب بيديه يدها للطمأنينة أم يفرغها لتلقي الفواتير. وبلغ من فشو سوق العلاج حداً اعتصم به الإخصائيون في الخرطوم الجاذبة وتمنعوا على النقل للأقاليم الطاردة في إضراب غير معلن وعصيان "قَبَل". وحاولت الوزارة فضه ولم تفلح وجرجت ذيلها بين رجليها. 2- بروف احمد محمد الحسن: شيء عجيب! ربما كان الاحتفال بمرو ثمانين البروفسير أحمد محمد الحسن، أستاذ علم الأمراض بطب جامعة الخرطوم، هو ما تحتاجه ممارسة الطب في محنتها الراهنة لتبدأ في طريق الشفاء. فقد تورطت المهنة في التجارة فصارت مضغة في الأفواه. وليس ذلك بسبب أن الطب والتجارة ضدان .لا. ولكن تجارة طبنا هي أقرب للربا. وأحل الله وحرم الربا. فالبروفسير من جيل مهنة التطبيب الذي استنكف فتح العيادة الخاصة. وصَرفوا لأطباء كلية الطب "بدل عيادة" لكي لا ينشغلوا بغير العلم. وسبب ذلك أن الجيل ترعرع في الحركة لوطنية فتأدب بأدبها في حق المواطن من طليعته. وترك لنا حسن نجيلة صورة قوية لهذا الأدب المهني في حضرة الشعب. فأحتفل نادي الخريجين بأول دفعة من 7 أطباء تخرجت من كلية كتشنر الطبية في 1927. وقال الشاعر، لسان الوطنية الذرب، في الحض على "وطنية" العلاج: قد يضر الطبيب مهما تعالى شهرة بابتزازه المالية خففوا من مواطنيكم مصاباً والفتى من يٌراح للقومية لما كانت الوطنية "اختراعاً" للوطن وضع هذا الجيل من الأطباء مهنتهم في سياق تخيلهم للوطن الجديد. لم يستلوها منه مهنة في ذاتها ولذاتها. قرأ البروفسير ككل شباب جيله طه حسين والمازني والأصفهاني وشكسبير ومجربات الديربي. ولذلك كتب التجاني الماحي"مقدمة في الطب العربي" للبحث عن هوية مهنته. أما البروفسير فقد مارس تخصصه في علم الأمراض ليدرس أسباب وفاة علماء المسلمين. فكان يركز على لحظة موت الواحد ويستنتج سبب الوقاة مما شكى منه قبل موته. فأشعب كما وصفه كتاب الأغاني مات متأثراً من منظومة إهلرز-دانلوس وهو مرض جلدي يجعله قابل للإهتراء والتقيح. أما الموصلي المغني فمات من سرطان القولون المؤدي لحبس البراز. وتمنى ابنه إسحاق ألا يموت بما قتل والده. فمات بالاسهال. وهذا مبحث في الهوية من زاوية طريفة وشاغلة. قلت أمس أن البروفسير من خدام حرميّ الجامعة وهما البحث والتدريس. وبلغ تعلقه بالبحث والتعليم حد الوجد. كان الميكرسكوب لا يفارقه مثل المرحوم خضر علي مصطفى الذي لم يكن منجله يفارقه طالما كان في حقله. وقال البروفسير تهكماً من طول تحديقه في الميكرسكوب أنه سيصاب ب"النظر النفقي" (من النفق) من فرط معاينته خلال الميكرسكوب سحابة يومه. وكتب طالب عن "تصوفه" في التعليم. قال إنهم عادوا من يوم طويل بين قاعات الدرس والمستشفى لينعموا بالراحة. ولكن سرعان ما جاءهم ساعي يطلب منهم العودة للمشرحة بطلب من البروفسير. فاجتمعوا حوله ليريهم رأس ميت لتوه من الملاريا النخاعية. فتأمل هذا السهر على إطلاع طلابه حقائق الموت المستجدة. هذا هو التعليم بلا ضفاف. ووجدت البروفسير معنياً بأوضاع الأبحاث وتهافتها عندنا. ونتائج بحثه مؤرقة. فالبحث عندنا بعامة متدن. فأبحاثنا في كل النواحي تناقصت إلى 701 في 1990-1999 من 745 بحثاً في 1970-1979. فنحن بحثياً ماشين لورا. والعجب أن معظم هذه الأبحاث في نطاق الطب. فالإنسانيات من آداب واقتصاد لم تنهض بسوى 9% من البحث برغم أن أساتذتها يشكلون 35% من جملة أساتذة الجامعات. وجاء بتفسير ذلك. فغالباً ما كان البحث في مسائل الصحة ممولاً من الخارج. أما الإنسانيات فلها الله وعيشة الحكومة. وهي عيشة ضنك. فميزانية البحث في عام 2009 كانت0.05 في المائة في 2009 أي 5 مليون جنيه بينما انفقنا على القصر الجمهوري 274 مليون جنيه. ليس يسع الباب للحديث عن البروفسير المصور أوتعلقه بالموسيقي الشرقية من الحملة الفرنسية إلى منتصف القرن الماضي. وكان التجاني الماحي يختم كل رائعة ب "شيء عجيب".