فيينا، النمسا [email protected] في نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي حملتنا طائرة الخطوط الفرنسية إلى باريس، ومنها إلى مدينة ليون الفرنسية. كنا مجموعة من طلاب قسم اللغة الفرنسية في كلية الآداب بجامعة الخرطوم في طريقنا لقضاء عام دراسي بجامعة ليون الثانية (لوميير). ومنذ وصولنا إلى مدينة باريس، واستقبال دكتور أسامة عثمان، الذي كان طالبا يعد رسالة الدكتوراه في باريس في ذلك الحين، في مطار باريس ووداعه لنا في محطة "غار دي ليون" لنمتطي القطار "السريع جدا"، وحتى مغادرتنا فرنسا في منتصف عام 1989، تعرفنا ثلة من السودانيين ما زالت تربطنا الصلة بالكثيرين منهم، وما زالت ذكريات تلك الأيام عالقة بالذهن، رغم مرور عشرين عاما على ذلك العهد. وأذكر من أولئك النفر، مثالا وليس حصرا، الدكتور عبد الرحمن آدم والاستاذ الدكتور عثمان طه والدكتور فيصل عبد الرحمن، ممن جاؤوا إلى فرنسا للدراسات العليا أو في زيارات تبادل مع مؤسسات سودانية، والعديد من الشباب الذين كانوا يدرسون في جامعات مختلفة، ومنهم من واصل بعد ذلك حتى مرحلة الدكتوراه، أذكر منهم حاتم محجوب وجمال ومحمد سر الختم وعبد العظيم وعثمان السيد وعبد العظيم وعادل وسليمان هارون، وغيرهم كثر، وكانوا جميعا مثالا للشخصية السودانية في الغربة في كرمهم وترحابهم ونصائحهم وعونهم الذي لا ينقطع وجلساتهم المليئة بالود والسمر والغناء، لقد كانت تلك روحا من الأخوة والتعاضد قل أن يجود الزمان بمثلها. وقد نجح الكثيرون منهم في مجالات شتى، وغادر معظمهم فرنسا، منهم من عاد إلى السودان، ومنهم من ضرب في أرض الله إلى بقاع أخرى. ومن بين أولئك النفر برز صديق أود أن أشيد بما فعل لعدة أسباب، أولها نجاحه الكبير في عدة مجالات وتأسيسه أعمالا جليلة في ألمانيا والسودان، وثانيها مبادرته إلى الكتابة عن تجاربه ونشرها بالصحف السودانية علها تكون ذات فائدة لمن يقرأها، وهي بلا شك ذكريات تثير الكثير من الشجون لدى من عاشوا معه تلك الأيام أو بعضا منها، ولعل كتابة هذه السطور بعض من أثر كتاباته التي آمل أن تشحذ همة آخرين، وذلك الصديق هو الدكتور محمد بدوي مصطفى الشيخ. ومحمد بدوي عندما عرفناه في ليون كان شابا يدرس في معهد حرفي، ولم أكن أدري ما هو تخصصه بالضبط لأنه يبدو أنه كان يتجنب الحديث عنه، وعرفت لاحقا أنه له صلة بصناعة الجلود، وعلمت كذلك، حسبما أوضح ذلك في مذكراته، أنه لم تكن به رغبة في ذلك المجال، ومن حسن الحظ أنه غادره لما وجد في نفسه هوى له، وإلا لفاتنا كل هذا الإبداع. كان محمد بدوي، ولا يزال، شابا خفيف الروح، ذا ابتسامة دائمة وضحكة عالية مرحة، يجيد العزف والغناء، ولذلك كان نجم اللقاءات التي تلتئم في أماكن سكن الطلاب السودانيين، وكان بين تلك الأماكن غرفة صديقي العزيز مجدي مكي بالمدينة الجامعية "أندريه أليكس" بالحي الخامس في مدينة ليون. وكانت الغرفة على صغرها تضم في عطلة نهاية الأسبوع عددا كبيرا من الأشخاص وتدور أقداح الشوكولاتة الساخنة والشاي والنكات وتتعالى الضحكات ويتبادل ذوو الصوت الطروب الغناء، فكان يصدح بيننا حسن حجوج وموسى عجب الله وياسين عثمان، الذي يمدح أحيانا وكان حاتم محجوب يقول عنه أنه "يمدح" الأغاني، وخصوصا أغاني المرحوم أحمد المصطفى، وغيرهم. ولا تستغربوا أني قلت أقداح الشوكولاتة والشاي، فلم يكن في مجموعتنا تلك، بحمد الله، من يدخن سيجارة، ناهيك عن تناول أشياء أخرى، وقد علق أحد الزملاء على ذلك ضاحكا "إنتو جايين بعثة إلى فرنسا أم بعثة حجة!"، ورغم ذلك فقد شك المشرفون على السكن في أمر تلك اللقاءات، واستدعوا الأخ مجدي للاستفسار عما كان يدور في غرفته، وعندما أحس مجدي، الذي يعد مثالا للطف والتهذيب وأدب الخطاب، بما كان يلمح إليه المشرف من اتهام ثار غاضبا، فكان أسدا هصورا، وأسمع ذلك الشخص كلمات اضطرته للتراجع والاعتذار عن شكوكه. عذرا إن أطلت في الاستطراد، فالحديث ذو شجون، وآمل أن أتمكن من الكتابة لاحقا عن بقية تلك الأيام وعن تلك المجموعة. المهم أن الأيام قد مضت سراعا، وكانت ضحكات محمد بدوي ونغماته ترن في الآذان وانقطعت صلتي به زمانا. وأخيرا تجدد حبل التواصل بيننا، رغم أني لم أره شخصيا منذ قرابة العشرين عاما، وتابعت أنباء نجاحاته. فبعد إكمال دراسته بفرنسا، وقد كان يجيد اللغة الفرنسية بلهجة باريسية أنيقة، وتحوله من مجال "صناعة الجلود" إلى "صناعة الكلام"، انتقل إلى ألمانيا وحصل على الدكتوراه من جامعة كونستانتز الألمانية في مجال الترجمة، وقد بعث إلي بنسخة من رسالته التي نشرت في كتاب عن ترجمة مصطلحات الإنترنت، ولكنها للأسف باللغة الألمانية، ولم أستطع أن أقرأها بسبب ضعف معرفتي بهذه اللغة الصعبة رغم أني أعيش في بلد هي لغته الرسمية، ولذلك أغبط محمد بدوي الذي تمكن من امتلاك ناصيتها والكتابة بها بل والإبداع فيها. وانضم إلى جامعة كونستانتز استاذا للغويات والترجمة، وشارك في العديد من المؤتمرات بدراسات عن اللغة العربية والترجمة ونشر عددا من البحوث فيهما بالعربية والفرنسية والألمانية. ولكن من ميزاته أنه متعدد المواهب والمقدرات، وله نفس طموحة لا تحدها حدود، فسعى إلى توظيف مواهبه وقدراته وطموحه في عدة مجالات، فبرز فيها ولا يزال يحرز تقدما إثر تقدم في جلها: أنشأ فرقة موسيقية عالمية "فرقة النور"، ثم "الديوان" لاحقا، ضمت عازفين ومغنين من مختلف القارات وتميزت بالجمع بين تقاليد موسيقية شرقية وأفريقية وغربية مختلفة وقدمت العديد من الأغاني السودانية في هذا السياق، وأصدرت عددا الألبومات الموسيقية والغنائية. واتجه إلى مجال النشر، فأسس دارا للنشر تنشر كتبا تربط بين الشرق والغرب ونشر منهجا لتدريس اللغة العربية ومدرسة لها وكتبا مقروءة ومسموعة للأطفال. وقد سطع نجمه في ألمانيا حتى أنه نال جائزة لرجال الأعمال الشباب. ثم اتجه إلى السودان وأسس مشروعا رائدا للمشردين، وشارك في إعداد وإصدار فلم عن السودان وجوانب الجمال فيه، وهاهو يشرع في إنشاء جامعة أوروبية سودانية "نهال". هذا بعض من إنجازاته المتعددة، وقد دفعني لكتابة هذه السطور، فيما سبق أن أشرت إليه، مبادرته إلى الكتابة عن تجربته منذ وصوله إلى فرنسا وما واجهه فيها من طرائف وتجارب، حلوة ومرة، وتنقله في بقاع أوروبا وما اكتسبه من علم وخبرة في الحياة. فهذه دعوة للاستفادة من تجربته ولحذو حذوه في كتابة المذكرات، وللاطلاع على بعض أعماله، أرجو زيارة المواقع التالية التي أسسها لإظهار تلك الجهود: www.badawi.de www.nihal.org www.streetkids-sudan.org . وهذه أيضا دعوة للإشادة بأي نجاح يحققه أحدنا، فنحن كثيرا ما ننتظر موت من نحب لكي نخلدهم، وعندما رأيت في مثل هذه الأيام من العام الماضي ما سال من مداد على رحيل المرحوم الطيب صالح شعرت بالأسى وأقول ليت كل هذا قد كتب وهو ما يزال بيننا، ولا ننتظر يوم "الشكر". شكرا، صديقي العزيز محمد بدوي، ومزيدا من الإبداع ....