السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحاديث الأدب والسياسة -3- ... بقلم: السموأل أبوسن
نشر في سودانيل يوم 22 - 06 - 2010


هوامل البطل وشوامل الكتابة
كتبتُ في ردي على مقالة الكاتب مصطفى البطل "أحاديث الأدب وقلة الأدب"، حول الراحل علي أبوسن وكتاب "المجذوب والذكريات"، أن البطل قد خلع لباس الكاتب الموضوعي ولبس رداء العداء الشخصي للراحل علي أبوسن. وربطتُ ذلك بما بدا من دوافع غير أمينة أشرنا إليها في المقال، تضافرت مع دافعه الخاص. وفي رده اللاحق لم يستطع الرجل أن يخفي ما أشرنا إليه من مواجيده الشخصية التي طغت سحابتها على جل تناوله لكاتب "المجذوب والذكريات". وحين كشفنا عري بيانه وسوء مقاصده سعى جاهداً لجرجرتنا في حبائل مطاولاته ومرمى شتائمه وأوصافه المتهكمة، وكأنما جئناه في غارة. لم يقف عند ذلك بل أنعم علينا بإتهامه الجاهز بأنا أسرى نظريات التفسير التآمري للتاريخ وأن ذلك أمر يجري مجرى الدم في جيناتنا! فوا عجباً لمن يذبحك علانية ثم ينكر عليك الرد وإلا فأنك من المسكونين بنظرية المؤامرة!
وقلنا أن البطل مستغرق في بركة النقد الأخلاقي الزائف، وأنه يتخذ أحكام القيمة الأخلاقية معايير يصدر بها أحكامه دون منهج ولا تبصر، فلا أحبط زعمنا، ولا رد قولنا بالحجة. بل طفق يستعرض وفق نهج يعرفه أشقاؤنا في مصر ب "فرش الملاية"، في الهتر الذي يوسمنا به، بأن درب تقريعه على ترخصه في الكلام محفوف بالمكاره، وأرهبنا بمضاربه وساحات نزاله. وتلك مفردات تكشف للقارئ حقيقة استبطان بطل البيان لفكرة الاختلاف. لكننا لن نجاري البطل في شهوة الكتابة المتشفية لأن ليس ثمة ثأر أو غل لنا معه. وسيكون حادي دربنا في تقصِّيهِ الصبر، وتدبيرنا في تناوله سيكون جدُّ متئد لكشف خبث المسعى والغرض فيما يكتب وما يثير من عفرٍ مما سيجتلي القارئ مكامنه الحقيقية وأسبابه أيما إجتلاء.
جَرَّد البطل في الرد علينا حملة! وأنعم علينا من تهكمه ما جعل كل نقدنا لمقاربته مذكرات علي أبوسن، محض هتر! أما أبوسن (الكبير، المتبطر) حسب البطل، فقد كان جل مخرجات (كاتب عموم السودان) من كتابه أنه صادر عن نفس موتورة ومقهورة، ولا ندري كيف يمارس البطر من كان مقهور النفس موتورها، ولكن ما ترانا فاعلون؟! ففي غياب المنهجية والرويِّة في الكتابة يكون كل شئ جائز. لكن هذا شئ وما جاء في تلافيف رد البطل على المقال المذكور والانفعال الذي ظهر به شئ آخر، فتح لي باباً كبيراً من التساؤل والحيرة في مقدار الثقة بالنفس التي يتمتع بها من آنس في نفسه الفراسة اللازمة لإستفتاح مقالاته بعناوين إستفزازية من شاكلة قلة الأدب، ثم ما يلبث أن ينهار ويتوعد ويتدفق غضباً عند أول رد يساءل ماكتب ويمحص دوافعه وأسبابه في تحوير المعاني وإنتزاع النصوص من السياقات.
يقول البطل: "والحق أنني لم أرَ كتاب الراحل أبو سن بعيني رأسي، ولم أطّلع على سطرٍ واحد منه، إلا عندما تسلمته من دائرة البريد الشهر الماضي، ولكنني كنت مطلعاً قبلها من مصدر ثانوي على عبارة المجذوب في شأن البروفيسور مكي شبيكة. وعندما خطر لي أن أوظّف تلك العبارة في مقالي المشار اليه بعثتُ بها الى أستاذنا الدكتور النور حمد - المحاضر بجامعة قطر - الذي أكد لي سلامة العبارة وصحة نسبتها، وقام عني مشكوراً بمهمة توثيق ما أردت الاستشهاد به وفقاً للأصول العلمية لتدوين المصادر، حيث انه يحوز نسخةً من الكتاب. والنور،إن لم تكن تعلم، من الثقات". إنتهى الإقتباس.
لقد قلت في معرض نقدي لمقال (الكاتب الكبير): " يوحي البطل للقارئ بأنه يطلع للمرة الأولى على هذا الكتاب". وقلت: "وهذا إيحاء مضلل وينطوي على كثير من التدليس وعدم الأمانة". ومازلت عند رأيي لأنه أوحي بالفعل للقراء بأنه قرأ الكتاب. وكان الأحرى بالبطل، طالما قرر أن يعلن حربه على الكتاب وصاحبه، أن يحتاط ويتزود بشروط الكتابة المسئولة حتى يأمن هتر أمثالي من المهاترين. وكان يتوجب عليه أن يشير إلى طبيعة اقتباسه ال Overseas من الكتاب في نفس متن مقاله وهذا من أمانة النقل. فلا تثريب أن تأخذ المعلومة بطريقة ما وتوظفها ولكن يكتمل التوثيق بشرح كيفية النقل بدلاً عن هذا التبرير الفطير، والاستدراك المتأخر والاحتماء بموثوقية النقل عن الدكتور النور حمد. ولكن يبدو أن البطل لا يرضى أن يقول عنه القراء انه لم يقرأ الكتاب فذاك في عرفه كُفر! وكبر مقتاً عنده. خلاصة القول، آمل ألا يزايد البطل على هذه المسألة والأسلم له إقراره بقصوره فيها.
وربما يكون بعض "هترنا" هنا مما سيفيد منه البطل مستقبلاً سيما وأننا سنوشحه له بفريدة من فرائد أبي حيان التوحيدي حيث قال محذراً من التسرع والارتجال:" من يرد عليه كتابك فليس يعلم أسرعت فيه أم أبطأت، وإنما ينظر أصبت فيه أم أخطأت، أحسنت فيه أم أسأت. بإبطائك غير مضيع إصابتك، كما أن إسراعك غير معفٍ على غلطتك". فتمهل أيها البطلُ!
ثم لابد لنا قبل أن نغادر هذه المسألة، أن نسأل بطل القراءة عابرة الأسطر والتعميمات المخلة، ليرينا أين بهتناه وادعينا إشادته بالكتاب؟ يقول البطل: " وأنا لا أعلم من أين أتى السموأل بهذا الفهم العجيب فأخذ يبهتني، ويا له من بهتان، لمجرد أنني أوردتُ نصاً وقَعْتُ عليه في مصدر ثانوي، فيردد على الملأ، ويشيع بين الخلق أنني أشَدْتُ بعمّه وزكيت كتابه قبل عشرة أشهر، ثم نكصتُ على عقبي بعد ذلك ائتماراً بأوامر "المتضررين"!
يا للهول من سوء النقل، وغلظة التقول، لقد كتبت بالحرف الواحد:" فما الذي يجعل البطل يقرأ كتاب «المجذوب والذكريات» ويفيد منه بما يؤكد أهمية إيراد آراء الراحل العبقري محمد المهدي المجذوب في شأننا العام، دون أن يرى «قلة الأدب» تلك، ودون أن يشير إلى أن ثمة بالكتاب ما يخدش الحياء أو يؤذي الصديق، ثم يمر على ذلك ما يقارب العام سوّد فيه البطل الصحف (حقيقة لا مجازاً) بمقالات راتبة، سطر فيها ما سطر وكتب فيها ما كتب دون أن يكتب حرفاً واحداً عن الكتاب أو كاتبه. فما الذي جدّ، أو بالأحرى ما الذي قلّ؟ هل قلّ الأدب أم قلّت الحيلة؟"
فأين بهتّ البطل وأين أشَعْت بين الخلق إشادته بكاتب الذكريات؟ وهل قولنا أنه أفاد من الكتاب يعني أنه أشاد به؟ أليس هذا أنموذج آخر ساطع للّفح وللكلام المجاني والإطلاق غير المؤسس؟؟
غير أنني سأعمل جهدي على ألا يخرجني ذلك كله من الإطار الذي أتناول فيه مبحث كاتب الإثارة، عن كتاب "المجذوب والذكريات". فمبحثي ليس الرد على كل ما يكتبه عن الكتاب، فذلك أمر لا يجمُل بي إدعاؤه ولا ينبغي. وليس هو من معاني الإعتداد بالحرية كقيمة إنسانية أصيلة، ولا من مبدئية الإلتزام بإحترام الرأي الآخر والإختلاف في شئ. لكن وكما أسلفت في مقاليّ السابقين، أن البطل مغرض، وقد أثبت ذلك بحديثي عن إشاراته وتكراره لما سبق إثارته عن خلافات ومعارك علي أبوسن مع آخرين. ثم ما لبث الرجل، وكنت أحسبه أطول نفساً وأكثر عمقاً، أن سقط في أول رد له في شِباك غرضه منكشفاً على الملأ وهو "يعرض" بسيف "المنصور"، أو كما يسمي الدكتور منصور خالد، ويتباهى كيف أن الأخير كان كابوساً أفسد حياة الراحل علي أبوسن وقهر تطلعاته في أن يكون وكيل وزارة!! وتلك لعمري من المضحكات المبكيات مما سأعود له لاحقاً في هذا المقال.
أعود لأقول، حين وضعت البطل في موضع الواقع في أسر النقد الأخلاقي فإنما أردت أن أشير إلى الخلل في تناوله لكتاب "المجذوب والذكريات" رغم أنه يتذكر أن هناك كتابة اسمها المذكرات وأن لها أصول. وأردت أن أبيِّن انعدام الاتساق في ما يكتب رغم ولعه الظاهري بالزخرف الإنشائي. وهذا جميعه من المحاذير التي ينبغي أن يتدبرها من اتخذ الكتابة باباً من أبواب الرزق رأفة بخلق الله القراء ممن أحسن الظن بالكاتب. فاعوجاج المنهج بل انعدامه لم نشتُم به البطل بل وصفناه به! ولكن الرجل حفيٌّ بالمغالطة وفيه صلف غريب ومزايدة على البديهيات ما فتئت تثير دهشتنا.
ثم أننا ما دعونا البطل للمواصلة في موضوعه عن المذكرات إلا لتبيان ضعف حساسيته في مقاربة التجلي الإنساني للمؤلف ولحظات مكاشفته مع ذاته ومع الآخرين في مواضع عديدة من الكتاب. ولتبيان قصوره عن وضع ذلك في موضع المعرفة أو السؤال المنتج للمعرفة. وأيضا ما لمسناه من قصور واضح في تناول الأبعاد الفلسفية والوجودية الشائكة التي ينطلق منها المؤلف في كتابته عن حياته وعلاقته بمن وما حوله وهي مواقف عديدة حرَّض عليها المؤلف قارئه، وكانت جديرة بالتأمل. والقراءة التي تستنطق النصوص هي مما يتوقعه القارئ ممن يتصدى للكتابة عن المذكرات، وإلا فالكل قادر على الكتابة.
وقلنا أن البطل ما في جعبته أكثر من مواصلة التخبط في فهمه الملتبس للأخلاقي واللا أخلاقي وها هو يؤكد قولنا مواصلاً تمدده ومقتاتاً لتخريجاته الشائهة ومزاعمه وتأويلاته من كتاب أبوسن نفسه حتى لم يبق للقارئ شيئاً من الكتاب. وكاتبنا المحترم في قراءته السالبة إنما يعيد صوغ أفكار الكتاب إعمالاً لرغباته هو، لا استشرافا لمرامي المؤلف ولو من باب الإشارة، رغم أن ذلك مما تمليه عليه الأمانة. وفي تشريحه الدعائي لنصوص الكتاب يتوسل للقارئ باستثارة عواطفه الدينية وموجبات "الفزعة" الأخلاقية، حين يرمي أبوسن بتهم من شاكلة نبش قبور الموتى، ولوك أكبادهم، وبئس البهتان. ليس هذا من استقامة التفكير ولا من أمانة المثقف في شئ. فهل جنينا على البطل في شئ إن قلنا وأكد لنا يراعه، أنه يحكي بعض ما خلفته تركة الجدب والخواء الثقافي؟
وبرغم أن مصطفى البطل كاتب راتب، إلا انه يغفل أو يتغافل مرة أخرى مغزى استشهادنا بحديث أبوسن عن الوضعية الحالية للمجتمعات العربية. وهذا أمر لا يجادل فيه إلا من تخذ المغالطة والمزايدة على البديهيات ديناً. فمجتمعاتنا برغم تطورها التكنولوجي اليوم هي أكثر إنغلاقاً والتعصب الديني والعرقي وحتى السياسي وصل حداً لم يبلغه في الفترة التي عاصرها المجذوب. وحين إستشهدنا بالحجْب المقصود الذي تم لمجموعة من المؤلفات الفكرية ذات القيمة العلمية والفلسفية العالية، ماكان لنا غرض غير أن نعضد زعمنا، وهذا جزء هام من إتساق المنهج في الكتابة يعجم عودهها ويلجمها من الترهل وتبعثر المعنى. كان هدفنا الإشارة إلى توقعات كاتب الذكريات لمثل هذا الخطل في تناول الكتاب وفق عقلية المصادرة والتحريم، وهو عين ما يمارسه الآن البطل المتلبس برداء اللبرالية. ولم يكن في ذهننا أن نقارن بين هذا وذاك رغم يقيننا ألا شئ يمنعنا من المقارنة. فلا ينقص الإنسان إلا ضعف ثقته بنفسه، أو إحساسه الداخلي بضآلته أمام الآخرين بما يجعله يحجم عن مجرد مقارنته بالعظماء. لقد خيب أملي البطل بتناوله البروباغاندي "العادي" للكتاب وبكسله في إستنطاق مافيه، وبخيانته لدور المثقف ومداهنته أرباب "محنة" النقد الأخلاقي.
ثم أعود لما أشرت إليه في مبتدر استعراضي لمَوْجدة البطل المحيرة تجاه أبوسن، من أمر خلاف الدكتور منصور خالد مع الراحل. وهو أمر لا يعنيني إلا بالقدر الذي أحتاجه لدحض غرض البطل، وخبث مقصده. وذلك حتى لا ينحرف مسار الموضوع إلى مراتع القيل والقال والجدل غير المنتج والتعاظل الممل. فالمعروف في أوساط الدبلوماسيين السودانيين الذين عاصروا الراحل أبوسن والدكتور منصور خالد في وزارة الخارجية أن الرجلين كانا على خلاف كبير كان سببه وفق شهادات عديدة، مجاهرة أبوسن برفض الأسلوب الذي كان يدير به الدكتور منصور خالد وزارة الخارجية إبان تسنمه لها في أوج العهد المايوي البائد. وهو خلاف بغير ما حاول البطل تضليل القارئ بتحجيم دور أبوسن فيه، كان محورياً وكانت له أصداءه داخل وزارة الخارجية وخارجها. لقد حدثني البعض عن ذلك حديث مشافهة لن آخذ به كثيرا لأني شديد الحرص على موثوق الكلام مع البطل في مقابل مجانيته المفرطة وهوامله المرسله.
كتب الدكتور أحمد محمد البدوي، الذي أحسب أن البطل يعرفه حق المعرفة، كتابة مجردة من نفاق التقييم الأخلاقي حول صراع الراحل أبوسن و(المنصور) في سياق مقالة سطرها في رثاء أبوسن: "بيد أن هذه الأرستقراطية على الصعيدين: الاجتماعي والثقافي, لاتكتمل صورتها إلا بذكر الفروسية, ففي معمعة ثورة أكتوبر السودانية 1964, كان الدبلوماسي الوحيد الذي شارك فيها,متصدرا المواكب الزاحفة كأمواج النيل الهادرة الزاعقة! بقية الدبلوماسيين لاذوا بمكاتبهم, وأداروا للهبة ظهورهم خوفا وتقية وربما تأففا من مشاركة العامة والدهماء والرجرجة! وكان مشاركا في انتفاضة 1985 ضد النميري, في الشارع مع الطلاب و"الشماشة". وكان سبب إبعاده من وزارة الخارجية هو إقدامه على نقد الوزارة ووزيرها علانية أمام الوزير وفي اجتماع ترأسه رئيس الجمهورية. قد يدل ذلك على استقلالية في الرأي, وعلى نزعة من نزعات التحدي مركوزة في النفس, ولكنها في النهاية الأمر, مزية التمرد التي لا تكتمل إلا بالفروسية : فروسية العقل والوجدان. وفي حين لم يعد الناس يذكرون من : الحردلو إلا شاعريته الباهرة الدالة على بداوته, فإن علي أبو سن اشتهر بحداثته, ومظهره الارستقراطي المدني, الذي يكمن وراءه " شيخ عرب", بدوي حافظ متون, رحمه الله. وحياه الغمام".
والمواجهة لمعلومية البطل عادة قديمة متأصلة في شخصية أبوسن لا شك أنها أفسدت عليه الكثير من فرص المناصب ونعميها!! فلم يكن "المنصور" مبتدأها وما كان منتهاها. فقد وسمت خصلة (الشقاء) تلك كل حياته، وعمقت في نفسه إيثار الوحدة على النفاق فندر أصدقاؤه وقل أصفياؤه، ولا ريب أن أمضى بقية حياته مستمسكاً بمبدئيته وروحه الصلبة التي لم يخسرها قط، مضى ولسان حاله يردد رائعة سيناترا My Way. ترك أبوسن منصبه في الخارجية مثلما ترك غيره من مناصب أكثر رفعة حين وجد نفسه في خيارات لم يفضل أحلاها المر.
ماذا ترانا فاعلون، مع البطل؟ فهو في حر إحتفائه ب"المنصور" أو كما يسمي الدكتور منصور خالد، أساء للرجل من حيث لا يدري إذ وضعه في موضع لن يستأنس به بذكائه ونظره البعيد. ف"المنصور" بذل الكثير من الحبر والمواقف الكثير كي يحافظ على صورته كمفكر وشخصية سياسية متوازنة قبل أن يقدمه البطل، في مظهر فتوة وبلطجي وزارة الخارجية الذي نذر نفسه للإطاحة ب (آمال وأحلام) الشقي أبوسن الذي أورده تمرده وحظه العاثر موارد الهلاك تلك في حجر المنصور الأسود كما أسماه البطل! على أنني أعيب على البطل أن ضنَّ على أبوسن حتى ببراحة الحلم فأودع خلاصة آماله في (وكيل وزارة) أو (أمين أمانه) وكان من الأكرم أن ينعم على الرجل وقد فارق الفانية بطموح الوزارة نفسها لا وكالتها؟ لكن البطل لم يكتف بذلك بل أرانا كيف أن المنصور الذي يصوره البطل كمتعهد تحطيم أحلام، كان بالمرصاد لابوسن حتى في حلم وكيل الوزارة أو أمين الأمانة فأراه فيه بأسه ومكر تدبيره! ونحن في تأملنا لهذه الحالة من الكتابة المتشفية، لو خُيِّرنا في وضع عنوان لمقاربة البطل "كتاب المجذوب والذكريات" لأسميناها "الدر المنثور في التمسح بحجر المنصور".
ثم أن حديث البطل المتكرر عن نرجسية أبوسن التي ربطها ربطاً بحديثه عن أصله، أورثني حالة من الهم والإشفاق، مما ينم عن إحساس بالدونية والنقص يتلبسه ولا أجد له في قرارة نفسي سبباً، حتى أنه وصل حداً يدهش القارئ حين يتقول على أبوسن، فيقول:" ومن أقوى الملامح بروزاً في شخصية الرجل، كما تعكس المذكرات، النرجسية المفرطة وحب الذات والاعتزاز بالنسب الرفيع، وهو أمرٌ يقترن عنده بتحقير الآخرين والزراية بهم بقرينة أصولهم الوضيعة المفترضة". ولا تدري نفسٌ لم يحس البطل بأن إعتزاز أبوسن بأصله هو خصم على أصل البطل أوغيره، وزراية بما يفترض أنه وضاعة أصله أو أصل غيره؟! ثم أن البطل لم يوضح أين حقّر علي أبوسن أصول الآخرين أو وصفها بالوضاعة. لم نخطئ مرة أخرى حينما وصفنا كلام الرجل بالاستسهال، وآمل ألا نضطر للتعديل والتصحيف في هذه الكلمة مستقبلاً. لكني لن أندهش هذه المرة من سوء القراءة وسوء الطوية معاً!
وأخيراً فإن البطل الذي يعيب على أبوسن ويأخذ عليه مساسه بالآخرين في مذكراته، يبدو شديد المعرفة بأهمية أن تكون المذكرات خالصة بدون تذويق وتحسين. ويبدو عميق الإحساس بأهمية صدق المشاعر فيها، فها هو يقول في معرض تناوله كاتب مذكرات آخر: "وقد وصف صاحبنا رئيس وزراء الإنتفاضة بأوصاف ثقيلة بعض الشئ. ولا جناح عليه (..). فإذا لجأ كاتب المذكرات الى تغبيش المشاعر وتلوينها، وتذويق الإنطباعات وتحسينها، فقدت المذكرات قيمتها وأصبحت من مزجاة بضائع العلاقات العامة".
فما باله ينكر على أبوسن أن يكتب مشاعره دون أن يلونها، وأن يسطر انطباعاته دون أن يحسنها؟ و ما باله يريد له أن ينزع من مذكراته قيمتها ويجعلها "من مزجاة بضائع العلاقات العامة"؟ لا يجد البطل غضاضة أبداً في إدانة أبوسن وأخذه كل مأخذ لأنه كتب مذكراته وشملت إنطباعاته عن العالمين. فهل بهتنا البطل حينما وصفنا سفره بانعدام المنهج والتقصد؟
لقد منّيت نفسي بكتابة مسئولة تحملني مسئولية الرد المضني عليها، لكن وا أسفاه على تهالك البنيان رغم غزارة اللفظ و تقعر المفردة! تُرى، هل ثمة إضافة لدى البطل تؤكد مسئوليته ككاتب تجاه قارئه، بعد أن أراح "المتضررين"؟ أم تراه قد حزم أمره للمواصلة في تشويه سيرة الراحل علي أبوسن وكتابه، وليستشهد عليه بما كتبه بنفسه وبذله في كتابه للناس، ليحشو به مقالاته القادمة وبئس المسعى؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.