الأديب الشاعر الكبير المرهف تاج السر الحسن ؛ شاعر يكتب من الخارج ، لتكون القصيدة تأثيثا لما يراه في اليومي والتفاعلي تأثيثاً على قضايا بعضها محلي زبعضها اقليمي وبعضها أممي ، وتكمن شعرية هذا الإيثار من الكتابة ، في ذكاء إنتقاء عناصر المرئيات المعاشة بأسلوب أو شكل يحاول التطابق مع الحالة الشعورية المرحلية حتى لا نقول التيمة التي ينشد الشاعر وصفها ...؛ وهنا وجدتني أتعرف على الشاعر اتاج السر في باكورته الشعرية الهامزة لخطى الترحال دائما في جغرافيا الأسى هربا من الأسى ؛ تجلت في " أسيا وافريقيا" !!. تاج السر ألهب يقظة انتباهي بأسلوبه الجامع في تناغم بين عناصر الحرية والتحرر من اجل تكثيف ذلك المعنى غير المتوقع الذي في ضربة نرد يكمن التخييل المسبوق بحيرة التسآل ؛ ويتخلق هذا المعنى المكثف بالإستيهامات أحيانا في بعض نصوص الشاعر باعتماده على أسلوب تحريف الادوار الأزلية لبعض عناصر الطبيعة عبر صوفية متأصلة ومترسبة في الدواخل رغم تغير المراحل الحياتية والنضالية ، فلا غرو من صوفيته إذ جاءت غرسة من ذاك الشيخ المهيب الخليفة الحسن – رحمه الله - الذي كان قابعاً في تلك المدينة الوادعة التي شكلت وجدان الشاعر وهو بوفائه المعهود لم ينساها ولم يتنكر لها أبداً إذ شغلت حيزاً من أشعاره وكذا رفاق الصبا الين صاحبهم زصاحبوه وإلتقوا معه فكراً ووجداناً وهذا ينم عن وفاء متأصل مرده إلى بيئة روحية برغم تأثر بأحداث وطنية تحررية من ربقة الاستعمار ورفضه إستغلال الانسان لأخيه الانسان. الشاعر الدكتور تاج السر الحسن شاعر إذ يعبر إلى سدرة الشعر يعبر برزخين إثنين: برزخ الدائرة وبرزخ الملكوت. فالأول خارطة مرسومة وكتاب مرقوم. يتعلم فيه كيف يجوب في تضاريس القصيدة، وكيف يلتغ بما قبل النشيد، وفيه يتلقى هوس المخيلة ويقبس معايير البوح، وعليه بعد ذلك وهو في هذه الخارطة أن يلتزم بالمرسوم والمرقوم، وعليه شرط الإقامة في الفصول الأربعة كلها. وقلما نجد من يحرف في المرسوم أو يجذف في المرقوم أو يثور على الشرط وعلى الذي تغويه نزعة الجنون أو كبرياء العصيان أن يستكشف في البرزخ مضائقه ومسالكه وأن يستجلي خفاياه ومنافذه حتى يفر بجلده بسلام ويعبر بروحه بأمان، فالبقاء طويلا فيه سكتة شعرية لامحالة. والثاني برزخ الملكوت وهو ليس خارطة ولا كتابا هو فقط بياض مطلق لا اثر فيه لحرف، وهو نهر أزرق بلا ضفاف وهو سماء بيضاء غير مبدوءة ولامنتهية، وعلى الشاعر أن يكتب وأن يسبح وأن يحلق، ولكل وجهته التي هو موليها فلا أحد يصطدم بالآخر، ولا أحد يستولي على جهة الآخر، لا توجد في البرزخ معالم ولا أنصاب والتيه فيه هو القدر الذي لا محيد عنه، وبقدر ما يتيه الشاعر يكشف جديدا بعد جديد. و " آسيا وأفريقيا" هي عبور بين البرزخ الأول والثاني.. برزخ الانتماء الذي يحرك فيه الأفروعربية ، دوماً كنت أكرر قرآتي " لآسيا وأفريثيا" في مراحل عمرية مختلفة ؛ أما قرآتي الأخيرة ف:انما وجدت فيه يشخص الهوية السودانية وموقعها الجغرافي والعرقي المتمازج ؛ إستوقفتني تاج السر الحسن كتيراً وقفات تأمل ، أعتقدت فيها أن قصائد تاج السر كائن حي يمشي على قدمين ؛ كائن يتفاعل ويتبدل عبر الزمن ؛ فإذا ما استصحبنا ما يجري حالياً في الساحة السودانية نستلهم من قصائد الشاعر أنها مولود يمر بمراحل نمو الانسان وتطوره الفكري المرحلي الحياتي في شتى مناحي تطوره الخلقي والاخلاقي. عندما تتعمق في شعر تاج السر الحسن تشعر وكأنه يركل بجزمة جديدة الدور الإرثي العتيق لرومانسية بالية وعليلة، من أجل شحد تخيلنا للرحيل إلى مساء آخر غير مطبوع بِتَنْبَرِ ألفتنا له حزينا، وإلى صباح شمسه غير مسكوكة لتكون بالضرورة من أجل اليقظة، لكن لا أعرف لماذا آثر تاج السر أن لا يبث الفجر نفخا دلاليا آخر غير " ويطل الفجر على أجنح غيمة" فالغيمة داكنة حد الظلمة في كبدها. ربما لأنها الجوهر البازغ بين قطبي الصباح والمساء. أو ربما لأن أراجيحها لا تعدم بعض الأحلام التي من جبلَّة الشعر ولو في اليقظة؛ هكذا ولأني إستشطت بعنفوان مثل هذه الأسئلة، أجزم ان الشاعر ما كان جامدا أو متخشبا بمعاني في التابوت، لذا كانت عيناه قد رسخت على الوصف..ربما من أجل رؤية ما وراء الوصف!! تاج السر الحسن حقق لنا متعة القراءة في تفاعلات اللغة الشعرية وقد أثبت بالدليل المتمثل في قصائده على من يجحدون على العربية قدرتها على اثارة الانتباه الى دلالات لا متوقعة، متولدة عن اسنادات لغوية بسيطة وهادئة وعارية من كل الزخارف البلاغية المستهلكة. انها بذلك تدعو القارئ عبر سلسلة من البناءات التركيبية الى خلخلة أفق انتظاره واقناعه بقبول تأملات فكرية في حلة جمالية مخادعة تقوم على المناورة ، وتقليب وجهات ورؤيات النظر الى الموجودات من منظورات مغايرة وجديدة كل الجدة. وبذلك فهي تجعل الجملة الشعرية على بساطتها المعجمية متفجرة على الدوام ومنفلتة من التعسف والمجانية. إن كثير من قصائد تاج السر الحسن ؛ قصائد تعج بالصخب إزاء المميت في العباد والبلاد والدوال لاتحتمي ازاء هذا القلق الا بذات قائلها كمرجع وحيد لتشييد عالم مؤرق باسئلة لا تنتهي حول كيفيات الادراك ، وماهية المدركات و اشكالها وعلاقاتها . انها قصائد تعيد تشكيل العالم من خلال فضح المتشابه والثابث والمتكرر في اللغة والكلا م . لاشئ يجعل الوجود وأشياءه محرفا غير استعارة اللغة و متكلميها ، ولاشئ يلغي كينونة المتكلمين غير الاصوات المستعادة الكامنة خلفها. تاج السر الحسن هو أحد أركان رواد مدرسة الحداثة السودانية الذين سطروا عبر الكلمة؛ التي لم تتقيد بقيود الماضي والذي نهل منه ولم يجحده وقد استصحبه زاداً بل أراد ورفاقه مثل صلاح أحمد إبراهيم والجيلي فتح آفاق ومنافذ حرية معبرة تعبر عن ذواتهم وهمومهم التي هي هموم مجتمعهم بتعدداته الثقافية. قرآتي المتجددة مرحلياً لشعر وقصائد تاج السر الحسن تجبرني أن أقول من باب الأمانة في هذا السياق لأن أنبه إلا أني زاوجت بين وصف نصوص شعره التي أقرأها و بين تفسير خصائصها البنائية و الدلالية لعلي أتمكن من القبض على صوتها المخضرم المميز في سياق التجارب الشعرية المعاصرة . وعلى الرغم من صعوبة الأشكال التي إرتادها تاج السر عبر مراحل تطور حياتية وفكرية في النصوص فإنها تشي بخصوصية الذات المتكلمة بإعتبارها صوتا ينفلت من سلطة الجاهز لغة و خطابا . لا تدعي هذه القراءة تمحيصا نقديا مسلحا بأدوات صارمة لعلة التخصص التي لاأمتلكها ، و إنما هي قراءة تكاد تكون عاشقة متواطئة تتحسس تفاعلات اللغة وتمظهرات الدلالة و كيفيات إنتاج المعنى و هي بذلك تجعل النصوص الشعرية في آسيا وأفريقيا ملكا للقراءة و أثرا لها . لذا فإني أناشد كل قاريء عاشق للشعر أن يعيد قراءة شعر تاج السر الحسن عبر مراحل تطور القاريء العمرية ليكتشف أن ثاقب تأملات الشاعر فاقت الزمنية الحالية والآنية إلى ما هو متخيلاً من توقعات المستقبل.. تاج السر الحسن مزمار من مزامير آل داؤد.!! كيمياء اللغة و الدلالة abubakr ibrahim [[email protected]]