الصف الطويل يسير بسلحفائية شديدة.. الذين يتضجرون من الوضع يعدون على أصابع اليد الواحدة.. يبدو أنهم من العاملين خارج الوطن الذين قدموا لقضاء إجازاتهم السنوية.. عرفت ذلك من طريقة ردهم على أجهزتهم المتنقلة.. أو موبايلاتهم أو جوالاتهم.. سمها ما شئت فقد عجز علماء اللغة العربية عن الإتيان بمقابل عربي موحد لها، فهل الجهاز الذي أحمله جوال، أم موبايل، أم متحرك، أم محمول، أم خليوي.. أم .. أم؟ لا أدري.. لكن ما أدريه حقاً أن هذا الصف لا يتحرك وأن الإعلان الذي أمامي يقول إن الخزينة ستقفل عند الثانية عشر ظهراً.. ويعني هذا أنه إذا لم تسدد الرسوم حتى هذه الساعة فعليك أن تعود غداً لتقف في هذا الصف الطويل.. ربما تقضي ساعة.. ساعتين.. ثلاث ساعات وعندما تتنفس الصعداء وتشعر بنشوة الانتصار الذي جعلك تتقدم إلى ما قبل المتقدم الأول.. تأتي يد من الداخل وتقفل شباك الرسوم.. فالخزينة تقفل عند الساعة الثانية عشر ظهراً بالدقيقة والثانية.. عليك أن تفهم هذا جيداً.. وعليك ألا تنزعج من هذا الوضع، فلا أحد هنا يهمه الوقت.. فالسلامة في التأخير وإضاعة الوقت. حكى لي أحدهم أنه أطلق بوق سيارته في محاولة لتنبيه السائق الذي أمامه لكي يسرع قليلاً.. (لم أصدق عينيّ عندما توقفت السيارة التي أمامي فجأة ونزل منها رجل يبدو في بداية عقده السابع، وتوجه نحوي ووقف وصاح: " يا ولدي مستعجل لي شنو؟" ) قال محدثي. "لأول مرة أرى الحكومة ترفض استلام مال أتى لها دون طلب منها؟" قال أحدهم والذي يبدو أنه من تلك الفئة التي يطلق عليها هنا "المغتربين".. لا أثر للنعمة عليه كما هي الصورة النمطية التي ظل يتخيلها كثيرون من قبل.. وقليلون الآن.. لكنه ضجر من التعامل ومن الغبار ومن الصفوف الطويلة التي لا تتحرك، ومن الموظف الذي غاب ساعة قيل أنه ذهب لتناول الإفطار، ومن الموظفة التي تنظر إليه من فوق نظارتها الطبية مبرزة حاجبين أدمنت ترقيقهما، وظلت ترفع يديدها بين كل نظرة وأخرى وكأنها تريد أن يرى الكل نقوش الحناء التي لا شك أنها قضت ساعات طويلة في وضعها. هذه صورة مألوفة لكل من يذهب إلى إدارة حكومية لإنهاء بعض الإجراءات، والمدهش في الأمر أن هذه الطرق في التعامل لا تثير إلا القليل، فالناس هنا تتقبل الوضع مهما كانت سلبياته، ومهما حدث لهم من تأخير وإضاعة للأوقات والجهود، وكأن الخدمات التي تقدم لهم منّة من أحد يتفضل بها عليهم أنّى شاء، وبالكيفية التي يريدها. والمدهش أيضاً أن الكثير من موظفي الدولة الذين لهم علاقة مباشرة بخدمة المواطن ينظرون إلى الخدمات التي يقدمونها على أنها تكرم منهم يقدمونها لمن يشاؤون وكيف يشاؤون، ولذا يخرج الموظف من مكتبه في أي وقت يتناول الإفطار والشاي والقهوة، ويدخل مع قريب له أو صديق إلى مكتب آخر لإنهاء أعماله، ويعود ولا يهم أن ينتظر الناس في حر الشمس حتى وإن كانوا يريدون سداد رسوم خدمات حكومية . تحدث كثيرون وكتب مختصون لا يستهان بهم عن ترهل أداء الخدمة المدنية، ولكن لم يحدث تحسن في الأداء، فمنذ أكثر من ربع قرن ظل الموظفون يتوقفون عن العمل لتناول الإفطار، ولا أحد يسألهم عن الوقت الذي قضوه في ذلك، وظلت الخزينة تقفل أبوابها عند الثانية عشر ظهراً حتى في هذا العصر الذي أصبحت التقنية الحديثة ووسائل الاتصال تلعب دوراً محورياً في إنهاء الخدمات وسداد الرسوم، وأصبحت الخدمات الإلكترونية تقدم للمستفيد منها وهو في بيته أو مكتبه، دون الحاجة إلى تكبد المشاق وإضاعة الوقت، وأصبحت الصفوف للحصول على خدمة ما وتعبئة الاستمارات يدوياً من مخلفات الماضي. خدمتنا المدينة تحتاج إلى إعادة تأهيل وعمليات جراحية عاجلة لمعالجة العيوب الكثيرة التي أصابتها، ومنها تعيين الموظفين الأكفاء الذين يستشعرون المسؤولية ويؤمنون أن خدمة الناس هي مهمتهم الأساسية وأن الوقت الذي يهدر مسؤولون عنه، وتعيين مسؤولين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، قدوة في أنفسهم، يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا موظفيهم، ويتعاملون بضمائر حية في كل وقت تعرف عظم المسؤولية الملقاة وعواقب عدم الوفاء بحقوق الناس. كذلك تحتاج خدمتنا المدنية إلى بنية أساسية من وسائل وشبكات التقنية الحديثة من أجهزة كمبيوترمزودة بالإنترنت، وفاكسات، فالحمدلله لا تنقصنا شركات الاتصالات التي أصبحت تحقق إيرادات خرافية من الخدمات التي تقدمها فماذا لو أسهمت مع الجهات الحكومية في توفير الأجهزة والشبكات والخدمات؟