جذور الازمة العامه تتكون الورقة من ثلاثة اجزاء. الجزء الاول يعود بجذور الازمة السودانية المزمنه الي فشل المشروع الديموقراطي السوداني ومن ثم الي العلاقه الوثيقه بين الديموقراطيه، كثقافه ونظام سياسي، والاستناره ( سيادة العقلانيه ) كما تجلت في منبعها الاوروبي وعصر النهضة/ التنوير خلال القرنين السادس والسابع عشر، فالثانيه هي البنية التحتية الضرورية للاولي. السودان شهد ارهاصات عصر تنوير إبتداء من العشرينات اثر نشوء المنظومه التعليمية الحديثه ولكن هشاشته الموروثه الناجمه عن اختلاف الظرف التاريخي السوداني بالمقارنة للظرف الاوروبي جعلت من استمرار النظام الديموقراطي شرطا لازما لنضوجه وسببا اساسيا في الانقلاب الاول. بالاضافة للانقطاع الدكتاتوري عام 58 مرد عدم النضوج الاخر في مرحلته الاولي، كان عدم ملاءمة طبيعة النوعين من الروافع الحزبية للديموقراطيه ( الاتحادي والامه ) و( الشيوعي والاخوان) لذلك، الاول بسبب طائفيته والثاني بسبب شمولية ايديولوجيته. هنا نشأت الحلقة الشريره التي ادت لفشل المشروع الديموقراطي السوداني ومن ثم التدهور المضطرد للاوضاع العامه : تراجعٌ ديموقراطي يؤدي لتراجعٍ تنويري وبالعكس. أهم نتائج ومظاهر هذا التدهور هو التحول التدريجي للقوي الحديثه، مجموع الشرائح الاجتماعيه- الثقافية- السياسه المدينية، من حاضنة للمزيج الاستناري- الديموقراطي، الي مجال لانتشار الفكر الديني السياسي- السلفي-التصوفي. بدأ هذا التحول بوضوح منذ اواخر السبعينات مع دخول الاقتصاد السوداني مرحلة الازمه وتفاقم الضغوط المعيشيه، مستندا الي ثلاثة عوامل رئيسيه : ذوبان الطبقة الوسطي ( الحامل الطبقي للمزيج الاستناري الديموقراطي) والتداعي النوعي للنظام التعليمي ( المصدر الاول والاهم لتكوين القوي الحديثه ) وتريف المدن نتيجة انهيار هياكل الحياة البدوية- الزراعيه. في هذا يكمن التفسير الصحيح لتزايد خصائص الشموليه في الانظمة الدكتاتورية المتعاقبه واصلة قمتها مع نظام الانقاذ، وفشل محاولات استعادة الديموقراطيه بالرغم من اكتمال مقومات المعارضه كما تمثلت في " التجمع الوطني الديموقراطي " والتضحيات الجسيمه التي قدمتها بعض اطرافه والشعب افرادا وجماعات. الضعف الحاد في الوزن النوعي للقوي الحديثه هو الذي يفسر ايضا استمرار ميل الميزان السياسي ضد المعارضه وضعف فعاليتها بعد قبولها الحل السياسي وبعد اتفاقية نايفاشا، مما يتطلب اعادة النظر في استراتيجية عملها. مكونات الاستراتيجيه المقترحه علي ضوء هذا الفهم لدروس تاريخ السودان السياسي خلال المرحلة السابقه فأن اي استرتيجيه تسعي لتحقيق تقدم غير قابل للانتكاس لابد ان يكون مرتكزها الترافق بين إعادة استزراع مقومات الحداثه والاستناره وإعادة تأسيس المشروع الديموقراطي. ويعني ذلك افساح مكان لهدفين محوريين هما الاصلاح التعليمي والمجتمع المدني، ضمن منظومة الاهداف التي يطرحها العمل المعارض الان وعلي رأسها التحول الديموقراطي . الهدف الاول بديهي لان الميلاد الحقيقي لتيارات الاستناره في مختلف مناحي الحياة السودانيه ارتبط بتأسيس التعليم العصري ونشوء الشرائح الاجتماعية والسياسية الحديثه. لذلك فأن الشروع بأعادة تأسيس هذه التيارات، ومعها تصاعد الوعي الديموقراطي كما ونوعا، لايمكن تحقيقه الا عبر استراتيجية تعطي هذا الهدف الاولوية التي تتناسب واهميته. تشرح الورقة بعد ذلك تفصيلا حدود الاصلاح الممكن في ظل النظام الراهن متضمنة ملامح برنامج العمل وكيفية انجازه من خلال توظيف المجتمع المدني، كوسيله رئيسيه في الظروف الحاليه. كذلك تقدم الورقه شرحا مسهبا للكيفية التي يساعد بها تنشيط المجتمع المدني كهدف في حد ذاته في تنمية الوعي الديموقراطي بناء علي تعريف لهذا المصطلح بكونه مجموعة تشكيلات طوعيه لاحكوميه ولاربحيه مداره ذاتيا بين مجموعة من الناس لخدمة مسألة معينه تتعلق بشئون حياتهم في الحي اومكان العمل او خارجهما بصفتهم الفردية المواطنية المجردة عن اي صفة سياسيه او اثنيه- قوميه او جهويه. البيان بالعمل ...كيف ؟ في الجزء الثالث والاخير منها تبين الورقة الكيفية التي يؤدي بها هذا التصور لجذور الازمة السودانيه، وتاليا العمل السياسي، وملامح الاستراتيجيه المطلوبه للخروج من الازمه، الي تذليل المصدر المباشر لضعف هذا العمل وهو الاحباط الذي يعتري عموده الفقري المتمثل في مجموعات الناشطين السياسيين والنقابيين والثقافيين الحزبيين وغير الحزبيين نتيجة فشل جهودهم وتضحياتهم. فهذه الشرائح بالذات هي الاقدر من غيرها علي استيعاب التفسير الصحيح لجذور الازمه ومايترتب علي ذلك من تعديلات في اسلوب العمل واهدافه المرحلية المترابطة، وفي نفس الوقت تحريك وتعبئة الجهود الشعبيه في المجاري والاتجاهات السليمه. ارتفاع معنويات هذه النخب القائده الناجم عن وضوح الطريق نحو بناء نظام سياسي ديموقراطي قابل للحياه وللمرة الاولي في تاريخ المعارضات السودانيه، سيميل بميزان القوي السياسي تدريجيا لمصلحة المعارضه وقوي التغيير عموما بما يمكنها من تحقيق نجاحات متصاعده في منظومة اهدافها ( التحول الديموقراطي، دار فور، الاوضاع المعيشيه الخ.. الخ..) اضافة لهدفي الاصلاح التعليمي والمجتمع المدني. علي المدي الزمني المناسب، أستمرار هذا الميل سيولد ديناميكية دفع ذاتي تشكل في حد ذاتها عنصر زيادة لمعدل الميل، تقود الي التحول الديموقراطي المستدام، أي الذي ستزول فيه ليس فقط رموز وهياكل الانظمة الانقلابية الدكتاتوريه، كما حدث بعد سقوط نظامي انقلاب نوفمبر 58 ومايو 69، وانما أيضا عوامل إعادة انتاجها ممثلة في جفاف منابع الوعي الديموقراطي/الاستناري نخبويا ومجتمعيا.