(1) رغم أن المنايا قد اختارت عددا من اقارب الدم والفكر، و من شق فقده فؤادي واحتجت لوقت لكي يزول طعم رماد الأسي من فمي،وأن يغادر السقم والذي هو لا حالة مرض ولا عافية.ولكن اليوم غمرني حزن بلون وطعم ورائحة اخري،وكأنه من شقائق السرمدية.وتشابهت لديّ المتنافرات،وتداخلت المتوازيات،وتماثلت الانوار والظلم.وتشكل الكون امامي كالسديم الاول بلا شكل ولا بداية ولا نهايات.وقد كان الحزن أعظم،لان الراحلين من البشر قد نتاسي بأن يكون مصيرهم جنات تجري من تحتها الانهار، خالدين فيها ابدا.ولكن الفقد الحالي قدره ومصيره عدم بلا قاع،وان يتبخر في ذكري وخيالات يجرفها الزمن مهما قاومت وطلبت الخلود.ولم اكن اخشي الدهر ونوائبه،ولا تهزني مصائبه ،ليس بسبب شجاعة معجزة أو صبرفائق،ولكنني كثيرا ما حاولت الاقتداء بشيخنا المتنبي:- لا تلق دهرك الا غير مكترث مادام يصحب فيه روحك البدن فما يديم سرور ما سررت به ولا يرد عليك الفائت الحزن واخذت علي نفسي عدم الأسي علي ما فاتها وبالطبع لا تفرح كثيرا بما اتاها.فالدنيا تحتاج ايضا لميزان المكر لكي تغافلها بالاستغناء،وهي لعوب يغرها الثناء ودلائل الولع.وهكذا نخفف الحزن ولا هلع الفقد.ومن "رأفة"الموت حتي وهو فجاءة،اذ يكون قد جاءنا أكثر من مرة في شكل ميتات صغيرة.والالمان يقولون بأن الفراق أو الوداع موت صغير.ويعوّدنا عليه من خلال مفارقة الاحباب حين ينوي ان يستهدفنا مباشرة.وصدق المتنبي:- لولا مفارقة الاحباب ما وجدت لها المنايا الي أروحنا سبلا وفي حسابنا هو موت الآخر وبالتالي يفقد رهبته الوجودية لانه لا يشعر بشعور الشخص الا الشخص نفسه.ويبحث الموت عن الاسباب والسبل،اظنه لكي يجنبنا الجزع،حتي تجد المنايا طريقها الي ارواحنا ونحن غافلين وننزلق بنعومة الي ملكوتها.أما الفقد الحالي،موت مكتبة فهو ينزل أشد من الصاعقة،ويقول أهل الثقافة الشفاهية:ان موت عجوز حكيم يساوي ضياع مكتبة.فماذا يقولون في موت المكتبة نفسها؟ كان انشاء مكتبة في ليل بلادنا يعني حرفيا ايقاد شمعة وليس مجرد الاكتفاء بلعن الظلام.ولدي عودتي في 2002 كان مشروع المكتبة التوأم لمركز الدراسات السودانية،هي أقصي ما اتمناه،وحلمي القديم.وكنت اخطط لمكتبة ملحق بها "مقهي ثقافي"لتوقيع الكتب الجديدة والندوات محدودة العدد،واسستضافة المعارض.فقد ارتبطت روحي بالكلمة المكتوبة منذ فترة مبكرة جدا بالنسبة للسودان.وكان لضآلة جسمي وعدم اهتمامي بالرياضة، ثم عدم مجئ مولود آخر حتي بلوغ الطفل الثامنة ،دوره في بحث الطفل – خاصة بعد دخوله المدرسة- في التسلي بالقراءة له ولوالدته.أما أثر الآخر الهام،فقد كان التعود علي أن يكون وحيدا وبمفرده لاوقات طويلة،وهذه ليست عادة سودانية وهي ضرورية للقراءة والتأمل.ورغم أن الوالد لم يكن شديد الاهتمام بالاطلاع لطبيعة عمله ونظام الورديات اليلية والنهارية والاستعدادات،الا أنه لم يكن يضن عليه بالاشتراك في المكتبة في أي بلد ننتقل اليه.ومازالت أسماء اصحاب المكتبات عالقة في ذهنه رغم طول السنين:- ابوعوف في دنقلا،محمد عوض دبورة في عطبرة،حنا تسفاي في القضارف،وادوارد سمعان في شندي،وابوالريش وحامد المطري في الخرطوم ،واحمد(الحرية) في ام درمان.واتسع المجال ليشمل العالم أو يكاد:فكرة المكتبة-المقهي أو العكس جاءت من الليبرسو في قلب فرانكفورت يمكن ان تقرأ كتابا هاما بحفنة من اقداح الشاي ولايسألك أحد ماذا تفعل.ثم في تورنتو وطوكيو بالاضافة الي "شكسبير" الكتب القديمة بباريس دون مشروب مع امكانية وجود مقاعد تمكن من الاطلاع المتمهل.ولكن شيخ الجميع:مكتبة الكاملابي تحت الارض أو دهاليز في منطقة هي اصلا تحت مستوي الارض.وهناك تجد "المهمل المفيد"،ووفي احدي المرات وجدت ارشيف وزارة الاستعلامات والصورة الكبيرة بخمسين قرش مصري.وقد كان (سور الازبكية) مهبط الحب حين كان يصيح اصحابه أي كتاب بإرش(قرش).وفي الفترة الاخيرة وجدت بالسودان الصداقة الحقيقية مع باعة الكتب القديمة،حيث يغشون المكتب جوار نادي الاسرة قبل بداية عملهم،واتفائل بهم.وصداقتهم صادقة وليست مثل صداقة المثقفين:حلاوة قطن،تذوب قبل أن تتذوقها،وشر البلاد بلاد لا صديق بها.وأنا اكتب هذه المقال،كنت قد انتهيت من قراءة كتاب:من نافذة القطار للعلامة عبدالله الطيب،وهي تكاد تكون المرة العشرين وهي رصد شيق لفجر التغيير الاجتماعي والتحديث في السودان. (2) رغم رهبة وأسي الحزن،ولكنك تجدني مزجت الألم بالعبث واللامعقول.وهذا حال السودان تجاور الحزن والعبث في دواخلنا وهذا هو الترياق الذي مكننا من قبول الدهر ومايأتي به.وبالفعل في السودان كثير من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا.وكنت قانعا وراضيا، مع أنني لم اكن حسن الظن بالدنيا ولا أطلب منها الكثير.وكان منتهي السعادة والمنى،أن اجد موقعا لمكتبة في نفس الصف من السوق الذي تركت فيه مقهي(كابريس)نهاية السبعينيات في هجرة لم تتوقف بعد.ولكن شتان،والغافل من ظن الاشياء هي الاشياء.فقد تغير كل شئ:المكان،الزمان،حتي الحجر والبشر.ومن سعد الدنيا علي المرء أن يري احلامه مهم كانت متواضعة وقد تحققت.والفقير لله سعيد،لأنه يكاد يكون قد حقق كل ما كان يتمناه،حين يطلب منّا في حصة الانشاء الشفوي ؟ان نعبرعن سؤال:ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟كانت امنيتي أن أكون بين الكتب:قارئا وكاتبا وناشرا ومع ذلك مسافرا.ومازلت اردد امنية السلف الصالح:إن شاء الله من المحبرة الي المقبرة.ومع ندرة الفرح كنت استهل يومي بزيارة المكتبة،ثم امضي فرحا مفعما بالأمل لبقية اليوم.ولكن كان يتربص بك أكثر من هادم للذات. (3) ما كنت أحسب أن الأمة التي خاطب الله سبحان نبيها العظيم،ب:"إقرا باسم ربك الذي خلق"،تتحسس مسدسها كلما سمعت كلمة القراءة أو رأت كتابا.فالكتاب يتعذب كثيرا ويهان حتي يصل يد القارئ القادر علي دفع ثمنه المفزع.فقد سمعت باعفاءات وسائل الثقافة،وفي الواقع المقصود الرياضة وكانت هي التي متعت بكل التسهيلات وظل الكتاب ومدخلات الطباعة هي التي ترزح تحت ثقل رسوم غريبة الاسوم.ويتوه الكتاب في دهاليز المصنفات بحثا من الفسح،وفي بعض الاحيان يقيض الله له مبدعين يعرفون قيمته ولكن في احيان كثيرة يذل وهان ويجد نفسه صنوا للمخدرات،وقد يكون "المعسّل"افضل كرامة منه.وليس للكتاب أن يهنأ كثيرا بحرية الفسح فقد تلاحقه لعنة ما بأثر رجعي ويصبح محرما.وتكون معاناة الورّاق العظمى حين يحتج المثقف الفقير في ماله والغني في مرؤته علي سعر الكتاب،وله الحق فالكتاب يساهم في نفايات المحلية ودمغة الجريح والايجارات الفلكية.وفي البداية،اسثمرت علاقاتي في معاملات أخوية،كان من بينها توكيل (سلسلة عالم المعرفة)حيث يصلني الكتاب حتي مطار الخرطوم بنصف دولار.ولكن حين يقطع الكتاب الرحلة من صالات الجمارك حتي شارع الطيار مراد يتضاعف سعره 4مرات.وقررت – خجلا – الانسحاب لأن الاتفاق يقضي بوصول الكتاب الي القارئ بدولار واحد فقط كما هو مبين في قائمة الاسعار في الكتاب. ولأنها لا تمطر فقط ولاتأتي المصائب فرادي،فقد تم نقل موقف البصات من تلك المنطقة التي اصبحت خاوية ولكن ايضا غير نظيفة.ولم يعد الناس يتجولون في تلك الامكنة،واحتلت صاحبات الشاي وقاطعي اظافر المواطنين الطويلة الضارة،البرندات والحيطان.وبالمناسبة يمثل "الحائطيون"طبقة اجتماعية قوية الوجود في الشارع.وقد كان من الطبيعي أن يضر قرار الوالي بوسط المدينة التي صارت بلا قلب. (3) اخيرا،بعد ان تراكمت الديون وتصاعدت الخسائر المادية والادبية،إذ لم تعد المكتبة تؤدي دورها الثقافي والمجتمعي،كان لابد من تناول سم آية الله الخميني حين خسر حربه مع العراق.وقررت اغلاق المكتبة أكثر من مرة،وكنت اتراجع في اللحظات الاخيرة ولكن نهاية شهر يوليو مثلت القارعة.فقد كان صاحب الملك قاطعا كالسيف:لو ما قادرين تمشوا اموركم سلموا المفتاح!واخلي عبدالحميد المكتبة في 72ساعة ناقلا الكراتين الي مخزن مهجور بالحلفاية لا يدري الآن ماذا يضم بين جدرانه. وهذه هي نهاية حلم وبالنسبة لي لا يقل اغلاق مكتبة في قلب العاصمة عن فصل الجنوب أو تقسيم دارفور.فالدولة التي تفخر بانشاء26 جامعة ولا تجد مكتبة قراء يضمنون لها الاستمرار،عليها أن تراجع سياستها التعليمية.وحين لا يقابل وزير ثقافتها اصحاب المكتبات ويسمع منهم،يحق لنا التساؤل عن جدوى مشروع حضاري بلا كتاب.