"على أن اتجاهنا نحو الشمال يجب ألا يصرفنا عن أن نرسل أبصارنا نحو الجنوب ، الأمر الذي يحتمه علينا وضعنا الجغرافي كحلقة تصل الدول العربية ودول الشرق الأوسط بالدول الأفريقية" أول بيان لحكومة 17 نوفمبر عن سياستها الخارجية "وحده السودان هو الذي يعطي العروبة بعدها الأفريقي" بروفيسور علي مزروعي *******
ظل الحلم بأن يكون السودان هو الجسر الرابط بين أفريقيا والعالم العربي أمنية عزيزة عبرت عنها كل الحكومات السودانية منذ حصول البلاد على استقلالها في مطلع عام 1956 ، وقد سعت بعض هذه الحكومات لتحقيق هذه الأمنية بدرجات متفاوتة من النجاح. لم يكن الأمر يقتصر على الحكومات والسياسيين فقط بل تعداهم ليشمل النخب السودانية بمختلف اتجاهاتها بل إن بعض أفراد هذه النخب لم يكونوا يقنعون بدور الجسر الذي يصفونه بالسلبية بل كانوا يتحدثون عن البلاد باعتبارها "البوتقة" التي تنصهر فيها ثقافات الشمال والجنوب ويقولون بأن الدور الذي يمكن أن يلعبه السودان في المنطقتين يجب أن يتطابق مع هذه الحقيقة. تحدث البعض كذلك عن السودان بأنه "أفريقيا مصغرة" وأن ما يحدث فيه يؤثر على بقية أنحاء القارة ، وفي الكثير من الأحيان فإن قولهم هذا لم يكن يجافي الحقيقة. وقد حق للسودانيين حكومات ونخب أن يداعب خيالاتهم هذا الحلم الجميل فالسودان كما هو معروف يمتد جغرافيا وثقافيا من تخوم العالم العربي في الشمال والشرق وحتى قلب القارة الأم في الجنوب والغرب. وقد حوت البلاد داخل حدودها فسيفساء تمثل كل أعراق وثقافات المنطقتين ، وقد ذهب بعض علماء الاجتماع للقول بأن ممثلين لأربعة من المجموعات البشرية الخمسة التي يعتقد أنها عمرت أفريقيا عبر تاريخها الطويل أقامت بأرض االسودان في وقت أو آخر. غير أن كسب الحكومات الوطنية في مجال تحقيق هذا الحلم القومي كان ضئيلاً إذا ما قورن بكسب المثقفين في شمال السودان والذين عكس بعض إنتاجهم الثقافي روح الغابة والصحراء. وحسب علمنا فإنه لم تتم محاولات رسمية يعتد بها لتوصيف ما هو المقصود فعلاً بمفهوم الجسر ، ناهيك عن رسم الخطط والبرامج التي يمكن أن تساعد في وضعه موضع التنفيذ. غير أن الفهم العام للفكرة يدور في تقديرنا حول ضرورة الاستفادة من إمكانيات البلاد الهائلة بما يمكنها من لعب دور إقليمي يساعد في تحقيق التعاون بين الدول العربية والأفريقية في إطار جهود العالم الثالث خلال فترة الحرب الباردة والذي كان يسعى للبحث عن طريق وسط بين المعسكرين المتنافسين. ولعل إخفاق الحكومات الوطنية المتعاقبة يعود في معظمه لعجزها الواضح في إدارة التنوع العرقي والثقافي الكبير بالبلاد ، مما قاد لأن يعم التذمر العديد من أنحاء الوطن وينعكس على أوضاعه الأمنية والسياسية. كانت مشكلة الحرب في جنوب السودان على رأس المشاكل التي عانى منها السودان بسبب هذا الفشل ، وقد كان تأثيرها على علاقات السودان بأفريقيا واضحاً لا تخطئه العين. بل إن هذه الحرب كانت تمثل في بعض الأحيان حرجاً بالغاً للدول العربية وعائقاً لجهودها نحو توثيق عرى التعاون مع الدول الأفريقية على أساس التاريخ المشترك في النضال ضد الاستعمار الأوربي. ولعل التطورات التي أعقبت توقيع اتفاق أديس أبابا بين الحكومة وحركة تحرير جنوب السودان (الأنيانيا) في مارس 1972 تقف شاهداً على أن استقرار الجنوب هو المدخل الطبيعي لعلاقات سودانية أفريقية صحية ومعافاة. شهدت تلك الفترة إنجازات غير مسبوقة للحكومة السودانية داخل القارة فقد تم مثلاً اختيار السودان ليرأس لجنة التعاون العربي الأفريقي كما شارك في اللجنتين العربية والأفريقية لذات الموضوع كلاً على حدة ، واستطاع السودان في تلك الفترة كذلك أن يساهم مع شقيقاته العربيات والأفريقيات في محاصرة المحاولات الإسرائيلية للنفوذ إلى قلب القارة الأفريقية بدعم من حليفتها الكبرى. كما كان دور السودان فاعلاً في مجال التعاون الاقتصادي بين المجموعتين العربية والأفريقية وتم اختياره مقراً لواحد من أهم رموز هذا التعاون وهو المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا والذي لا زال يقوم بدور مقدر في هذا المجال انطلاقاً من رئاسته بالخرطوم. جاء كل هذا النجاح على خلفية الأجواء الإيجابية التي وفرها اتفاق أديس أبابا والذي قوبل في كل أنحاء القارة كإنجاز أفريقي خالص ، وقد تم استقبال الرئيس نميري في الكثير من المحافل الأقليمية والدولية كرجل دولة من الطراز الأول. في يناير القادم يتقدم المواطنون في جنوب السودان نحو صناديق الاقتراع لتقرير مصيرهم عبر استفتاء عام حسبما تشير بنود اتفاق السلام الشامل الموقع بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان في عام 2005. ومما لا شك فيه أن اتفاق السلام الشامل بالرغم مما واجه تنفيذه من عقبات لا يقل أهمية عن اتفاق أديس أبابا وقد قوبل عند توقيعه في العاصمة الكينية نيروبي بنفس الحماس الذي قوبل به الاتفاق الأول ، مما يعني أنه يتيح فرصة طيبة لكي يستعيد السودان دوره المفقود في القارة الأم. يلزم الاتفاق المذكور كما هو معلوم الطرفين على السعي من أجل تحقيق الوحدة غير أنه لا يستبعد خيار الانفصال كحق أصيل للمواطن في جنوب السودان ، وقد أعلنت الحركة الشعبية في وقت مبكر أن فهمها للوحدة الجاذبة هو أنها يجب أن تقوم على أسس جديدة غير التي كانت سائدة في السودان قبل اتفاق السلام الشامل. غير أن الأسس التي طرحتها الحركة الشعبية لم تجد قبولاً لدى الشريك الآخر ، لذلك فإن الكثير من المراقبين يرون أن احتمال الانفصال هو الأكبر إذا ما تم إجراء الاستفتاء اليوم. بينما لا يزال عدد لا يستهان به من هؤلاء المراقبين - ومن بينهم كاتب هذه السطور - يأملون بأن تتهيأ الظروف مع اقتراب موعد إجراء الاستفتاء في يناير القادم بما يقنع الناخب الجنوبي بالتصويت لاستمرار الوحدة بين شقي الوطن. وسواءً جاء تصويت الناخب الجنوبي داعماً لاستمرار الوحدة أو الانفصال فإن هذا الاختيار سيضع متخذ القرار في الخرطوم أمام عدد من الخيارات المهمة فيما يتصل بعلاقات السودان بالدول الأفريقية وبصفة خاصة تلك الواقعة إلى الجنوب. ففي حالة ترجيح خيار الوحدة فإن ذلك سيتيح كما ذكرنا أعلاه فرصاً كالتي اتيحت لنظام مايو في أعقاب اتفاق أديس أبابا ، غير أن ذلك يقتضي ولا شك أن تسعى الحكومة لرسم استراتيجية واضحة تقتضي إعادة النظر في الكثير من مكونات سياستها الخارجية عامة وسياستها حيال الدول الأفريقية بصفة خاصة. كما أن ذلك قد يقتضي أيضاً إعادة النظر في بعض منطلقات سياستها الداخلية. ومع أن التصويت لخيار الوحدة قد يبعد احتمالات الصدام التي تلوح في الأفق حالياً إلا أنه لن ينهي بالضرورة الصراع بين الشريكين في سعيهما نحو التوصل لما عجزا عنه خلال الفترة الانتقالية ، وهو التصور المشترك لمفهوم الوحدة نفسها. وبالرغم من أن هذا الأمر قد يبدو شأناً داخلياً بحتاً إلا أنه يرتبط ولا شك بالسياسة الخارجية وبصفة خاصة حيال دول الجوار الأفريقي. أما السيناريو الأسوأ وهو الانفصال العنيف فإن الجميع يتفقون بأنه سيقود إلى تشرذم القوى السياسية داخل الوطن والبحث عن حلفاء في الخارج مما قد يقود لعزلة كاملة لدولة الشمال وسط الدول الأفريقية التي تقع إلى الجنوب. فإذا كانت هذه الدول قد تعاملت في الماضي بشئ من الحذر مع الحركة الشعبية باعتبارها حركة تمرد ، فإن إعلان الحركة عن دولتها الجديدة على ضوء نتائج الاستفتاء المعترف به دولياً وإقليمياً سيرفع عن هذه الدول أي حرج في التعامل مع الحكومة الجديدة في الجنوب. ولا شك أن التعامل مع مثل هذه الظروف سيضطر دولة الشمال لأن تعيد النظر في حساباتها فيما يتصل بعلاقاتها مع الدول الأفريقية سعياً نحو تحييدها إن لم يكن كسب تأييدها ، وهو أمر يحتاج للكثير من بعد النظر وتوجيه الموارد البشرية والمادية الضرورية لتحقيقه. من الصعب تصور الأوضاع في حالة استئناف الحرب بين الطرفين كنتيجة للانفصال وهي فرضية نأمل أن يساعد على تفاديها عودة الوعي وتخوف الجانبين من نتائجها المأساوية ، بالإضافة لعدم توفرالمزاج الاقليمي والدولي الذي يشجع عليها. أما الانفصال السلمي الذي يقوم على التعايش بين الدولتين فربما يكون هو الخيار الأفضل في حالة عدم الاتفاق على استمرار الوحدة بين شقي الوطن. ولا شك أن نجاح هذا الخيار يعتمد على الكثير من العوامل التي من الواجب الاتفاق عليها قبل وقوع الانفصال الفعلي. وبما أن الشريكين لم يتفقا حتى اللحظة على بعض القضايا المهمة التي تفرق بينهما فإنه قد يبدو من باب الترف الذهني الحديث في الوقت الحالي عن التنسيق بينهما في السياسة الخارجية في حالة الانفصال. بيد أن تنسيق المواقف السياسية على الساحتين الاقليمية والدولية قد يكون ، في اعتقادنا ، الترياق الذي يمكن عن طريقه درء الأخطار التي قد تنجم عن الانفصال وتنعكس على الأوضاع الدولية والإقليمية للدولتين. قد لا تجد دولة الجنوب نفسها في حاجة للتنسيق أو الارتباط الوثيق مع دولة الشمال خاصة وأن الأخيرة لا زالت تقع تحت طائلة العقوبات الدولية وتتميز علاقاتها مع بعض القوى الفاعلة على الساحة بالكثير من التوتر. قد يرى البعض في الجنوب أن الانفصال يمثل فرصة للتخلص من العبء السياسي والاقتصادي الثقيل الذي ينوء به كاهل البلاد بسبب السياسات الخاطئة للحكومات الوطنية المتعاقبة. وكأني بهؤلاء يسيرون في الطريق نحو تحقيق نبوءة الراحل مادينق دي قرنق مسؤول الإعلام في حركة تحرير جنوب السودان والذي أطلق على مجلته ذائعة الصيت في ستينات القرن الماضي اسم "ستار الحشائش" ، وهو تعبير مقتبس من أدبيات الحرب الباردة ومقولة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل الذي أطلق على العزلة التامة التي وقعت بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي اسم "الستار الحديدي". غير أن الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى لا بد أن تقنع الجانبين أن التعاون بينهما حتى في حالة الانفصال هو السبيل الوحيد لتحقيق حلم النخب السودانية بأن تكون البلاد حلقة الوصل بين العالم العربي وأفريقيا حتى تكسب بذلك ثقلاً أقليمياً ودولياً يصب في صالح شقيها. فيما عدا ذلك فإن الحلم الذي عاشته الأمة السودانية لأكثر من نصف قرن قد ينقلب إلى كابوس يقض مضاجع الجميع شمالاً وجنوباً.