تجلت محنتنا في أفريقيا بصورة درامية من خلال البيان الذي ارتجله الأستاذ مهدي إبراهيم في المجلس الوطني يوم الأربعاء 16 مايو الحالي بعد الجولة الأفريقية التي قام بها وفد من لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس وزار خلالها ثلاث من دول شرق أفريقيا. وضع الأستاذ مهدي يده على موضع الألم عندما طالب حسب رواية الصحف اليومية "بإعادة النظر في سياسة البلاد الخارجية لتقديم صورة جديدة عن السودان في القارة حتى لا تضيع هويته الأفريقية". ويبدو أن الاحساس الذي خرج به الوفد من هذه الجولة هو أن السودان لا ينظر له في المنطقة كعضو فاعل فيها بل كدولة ينصرف وجهها صوب العالم العربي بعيداً عما تواجهه القارة من هموم ومشاكل ، لذلك فقد جاءت الدعوة الصارخة بضرورة مراجعة سياستنا الخارجية كلها لإزالة الخلل الذي اعتراها بسبب الحرب الطويلة والمكلفة مادياً وسياسياً في جنوب السودان ، وإبراز الجانب الأفريقي من هويتنا الوطنية حتى يحس أشقاؤنا في أفريقيا بانتمائنا الحقيقي لهم وللقارة الأم. ظلت مشكلة الحرب في الجنوب منذ ستينات القرن الماضي تمثل جرحاً غائراً في جسد العلاقات السودانية الأفريقية ، فقد عملت "الأنيانيا" عندئذٍ وسعياً نحو تبسيط الأمر بما يلائم تفكير المواطن غير الملم بالسياسة وتعقيداتها على وضع الخلاف في إطار عنصري يصور الشماليين كعرب مستعمرين والجنوبيين كإفريقيين مضطهدين. استغلت الحركة في جهدها هذا الانطباع التاريخي السالب الذي ارتبط بتجارة الرق في شرق أفريقيا وفي أجزاء من السودان بما في ذلك الجنوب نفسه. تلقفت أجهزة الإعلام العالمية هذه الصورة المبسطة لقضية بالغة التعقيد فأصبحت ، بعد أن أضافت لها عنصر الدين ، تتحدث عن الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي. وضح جلياً أن هذا التبسيط المخل يخدم أهداف الكثير من الجهات التي كانت ترغب في التأثير على الأحداث في السودان إن لم نقل التآمر على البلاد. ومن جانبها ، فقد استفادت الحركة السياسية في جنوب السودان من هذه الحقيقة للتغلغل في القارة الأفريقية وكسب تعاطف قادة دولها في حربها ضد الحكومات في الشمال. وخدمة للدعاية السياسية التي عملت على إبراز الفوارق بين الطرفين أطلقت حركة تحرير جنوب السودان على المجلة التي كانت تصدرها في العاصمة البريطانية اسماً موحياً هو "ستار الحشائش" ، مستعيرة فكرة الستار الحديدي التي روج لها السياسي البريطاني الأشهر ونستون تشيرتشل معبراً بها عن العزلة التامة بين المعكسرين الرأسمالي والشيوعي. بالرغم من البدايات الطيبة والمتمثلة في مواقف الحكومات السودانية المتعاقبة الداعمة لحركات التحرير الأفريقية والدول المستقلة حديثاً في القارة ، إلا أن هذه الحكومات وقعت في الفخ الذي نصبته لها عن قصد أو بمحض الصدفة حركة تحرير جنوب السودان فاتبعت في الكثير من الأحيان من السياسات الداخلية ما يؤكد الوجود الفعلي لستار الحشائش. فمع تباشير الاستقلال ظهرت نذر الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي في الجنوب عندما أصرت الحكومة على الجوانب الفنية دون السياسية في ما عرف بعملية السودنة ، وأهملت مطالب السياسيين الجنوبيين بالاتفاق حول نظام للحكم يتيح للأقليم شيئا من الحرية في إدارة شئونه الداخلية ، بالاضافة لعدد من المؤشرات السالبة مثل التكوين المعيب للجنة الدستور. توالت بعد ذلك الأخطاء من الجانبين مما قاد في النهاية للتباعد بينهما وتمترس كل منهما خلف ستار الحشائش المزعوم. استطاعت الحركة السياسية في الجنوب منذ ذلك الوقت المبكر أن تلعب على وتر النزوع القوي لدى الدول الأفريقية نحو الحرية والاستقلال فعرضت قضيتها في الكثير من العواصم كقضية تحرير وطني. غير أن قرار القمة الأفريقية في القاهرة بقدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار ، والأوضاع المماثلة لأوضاع السودان في العديد من الدول الأفريقية ، والدور النشط للدبلوماسية السودانية في ذلك الوقت وقفت جميعها حجر عثرة في طريق الحملة التي قامت بها الحركة السياسية الجنوبية. تغيرت الأوضاع لاحقاً عندما تمكنت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق من إحراز الكثير من الانتصارات الدبلوماسية على نطاق القارة. كانت الدبلوماسية السودانية تواجه في ظل هذه الأوضاع الصعبة ظروفاً غير طبيعية في جهودها من أجل كسب تأييد الدول الأفريقية لقضية البلاد الأهم وهي الحفاظ عليها موحدة داخل الحدود التي ورثتها عن الاستعمار. فبالرغم من أن الدول الأفريقية تحاشت في مجملها الإعلان صراحة عن تأييدها لانفصال الجنوب ، إلا أن بعض هذه الدول لم يكن يخفي دعمه للحركة الشعبية. من ناحية أخرى ، فإن تعامل الحكومات الوطنية مع مشكلة الجنوب وعجزها عن التوصل للمعادلة التي تجعل التعايش بين مختلف مكونات المجتمع السوداني أمراً ممكناً كانا يمثلان عقبة كؤود أمام جهود دبلوماسيينا في أفريقيا. كانت بعض القوى السياسية التي حكمت البلاد ترى أن الانتماءات الإثنية والتنوع الثقافي يشكلان عائقاً أمام تحقيق الوحدة الوطنية ، فتبنت من السياسات ما يشير إلى تجاهل التنوع العرقي والثقافي الكبير في البلاد وعملت من أجل تحقيق الوحدة بصورة قسرية ، فأصبح السودان يقارن في بعض الدوائر الأفريقية بالنظام العنصري في جنوب أفريقيا. ومع أن نظريات بناء الدولة التي سادت في ستينات القرن الماضي كانت تقوم على فكرة الاندماج في الثقافة الغالبة ، إلا أنها سرعان ما فقدت بريقها وحلت محلها نظريات الوحدة في التنوع. وعصي على الفهم أنه لا يزال في بلادنا اليوم من يريد أن يعود بنا القهقرى ويعلن صراحة عدم اعترافه بمكونات المجتمع السوداني المختلفة وثقافاته المتنوعة التي أعطت البلاد شخصيتها المتفردة ، ويصر على اندماج الجميع في الثقافة الغالبة وهو الأمر الذي يستحيل عملياً ويساعد فقط على تشويه صورة البلاد خارجياً. يواجه السودان حالياً مشكلة تتمثل في التراجع الواضح في صلاته الأفريقية وقد تبدت هذه المشكلة في الآونة الأخيرة في العديد من الظواهر التي يقتضي الواجب أن نوليها العناية التي تستحقها حتى نتمكن من وضع السياسات التي تساعد على تجاوزها. ومن أهم مظاهر هذه المشكلة الانحسار الكبير في الوجود السوداني في القارة. تراجعت بصورة كبيرة أعداد السودانيين العاملين في المنظمات الاقليمية بأفريقيا بالرغم من أن الكثيرين منهم كانوا يحتلون مواقع مرموقة في هذه المنظمات ، كما قوبل عدد من مرشحينا لهذه المناصب بالفشل في السنوات الأخيرة. من جهة أخرى ، تدهور بصورة واضحة مستوى التواصل الثقافي مع الدول الأفريقية فانحسرت في الاتجاهين رحلات الفرق الفنية والثقافية التي كانت تمثل عصب هذا التواصل ، ويستثنى في هذا الجانب الجهد الكبير الذي تقوم به الرياضة خاصة في مجالي ألعاب القوى وكرة القدم. وبالرغم من الجهد المبارك الذي تقوم به جامعة افريقيا العالمية إلا أن متابعة مسيرة خريجي هذه الجامعة بعد العودة لبلادهم ، وتمتين الوشائج التي تربطهم بسفاراتنا في هذه الدول وبالجامعة الأم يحتاج للمزيد من الجهد الراشد الذي يبتعد عن شبهة الاستغلال أياً كان مبعثه. وعلى الجانب السياسي فقد ووجه مؤخراً طلب السودان للانضمام لمجموعة شرق أفريقيا بالاعتذار بحجة أنه وبعد استقلال جنوب السودان فإن السودان لم تعد له حدود مباشرة مع أي من الدول الأعضاء ، ولا زلت محتاراً في السبب الذي جعلنا لا نتقدم بطلبنا في وقت مبكر عندما كانت الظروف مواتية. من ناحية اخرى ، بدأ ظهور بعض التصدع في جبهة المواجهة الأفريقية مع ما يسمى بالعدالة الدولية فصدرت أحكام من محاكم عليا في بعض الدول الأفريقية تؤيد مطالب المحكمة الجنائية الدولية ، وقوبلت محاكمة الرئيس الليبيري السابق تشارلس تايلور في المحكمة الخاصة بسيراليون بمشاعر متباينة بين مؤيد ومعارض ، ووافق عدد من السياسيين الكينيين بالمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. وغني عن القول أن كل هذه التطورات لا بد أن تنعكس على جهودنا في القارة من أجل محاكمة الأفريقيين في أفريقيا وليس في أوربا. ولعل تطورات مثل مطالبة رئيسة جمهورية ملاوي للاتحاد الأفريقي بعدم توجيه الدعوة للرئيس البشير لحضور القمة الأفريقية القادمة التي ستنعقد في بلادها ، وما كشفت عنه الأنباء بعدإلغاء زيارة السيد رئيس الجمهورية لجوبا تؤكد أن بعض الدول الأفريقية أصبحت تستجيب للضغوط الدولية ، مما يخشى معه انهيار جدار الصمود في وجه المحكمة الجنائية الدولية. ساعدت هذه المؤشرات في فتح شهية مستهدفي السودان في الكونغرس الأمريكي إذ تشير الأخبار إلى أن لجنة المخصصات المالية شهدت التداول حول مشروع قرار من جانب بعض النواب الجمهوريين يدعو لإدخال تعديل في ميزانية عام 2013 بوقف المساعدات لأي دولة تستقبل الرئيس البشير في أراضيها. يواجه مشروع القرار معارضة داخل الكونغرس نفسه بسبب أثره المتوقع على سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية وعلاقاتها الاستراتيجية مع بعض الدول خاصة في القارة الأفريقية. غير أن ذلك لا يمنع تطبيق المقترح بصورة انتقائية كما حدث في حالة ملاوي حيث عملت الولاياتالمتحدة على وقف مساعدات لتلك الدولة تبلغ 350 مليون دولار بعد أن استضافت الرئيس البشير في قمة الكوميسا العام الماضي. وصف الأستاذ مهدي إبراهيم في كلمته أمام البرلمان وضع سفاراتنا في منطقة شرق أفريقيا بالمحزن بسبب ضعف إمكانياتها البشرية والمادية ، ورسم صورة بائسة لأوضاع دبلوماسيينا الذين يضطر بعضهم - على حد قوله - لترك عائلاتهم بالسودان حتى يتمكنوا من مواجهة متطلبات الحياة الكريمة. واعتقادنا أن ما ورد أعلاه ينطبق دون أدنى شك على سفاراتنا في جميع أنحاء القارة. وأشار الأستاذ مهدي كذلك إلى أن تحركنا الإيجابي في المجال الإعلامي بالدول الأفريقية كان سيكفينا شر الكثير من المعارك العسكرية في الجنوب وغيره من المواقع مصداقاً للمقولة المعروفة بأن الدبلوماسية هي خط الدفاع الأول عن البلاد ، واشار إلى أن زيارتهم الخاطفة لشرق أفريقيا ولقائهم بكبار المسئولين ساعدت في تصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة عن السودان. مما لا شك فيه أن زيارات كبار المسئولين للدول تعتبر من أمضى الأسلحة في ترسانة الدبلوماسية ، غير أنها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم مقام السفارات المقيمة التي تستطيع أن تجعل من هذه الاتصالات ممارسة يومية تتميز بالاستمرارية لو توفر لها الدعم المطلوب. ومن عجب أن الأستاذ مهدي بالرغم من بلاغته المعهودة وخطورة الحديث الذي حدث به النواب المحترمين لم يلهب حماس البرلمان بالدرجة التي تجعله يتبنى قراراً بزيادة مخصصات وزارة الخارجية وسفاراتها بالخارج كما حدث عندما خاطب وزير الدفاع مجلس الولايات قبل يومين من حديث الأستاذ مهدي. لا شك أن استعادة القارة الأم تعتبر معركة لا تقل أهمية عن معركة استعادة هجليج أو أي موقع تصل إليه قوات دولة أجنبية أو مجموعة متمردة ، ولا بد أن يوضع هذا الهدف على رأس قائمة الهموم التي تشغل بال المسئولين عن سياستنا الخارجية. إن عزلة السودان أو انعزاله عن أفريقيا أمر في غاية الخطورة ولا بد لمواجهته بالصورة المطلوبة من حشد كل القوى والإمكانيات المتاحة للدولة. إن قيمة أي بلد على الساحة الدولية تقوم في الأساس على مدى ارتباطه بجواره المباشر وتأثيره في ساحته الاقليمية ، لذك فإنه وبقدر ما يكون ارتباطنا وثيقا بالقارة الأفريقية تكون أهميتنا ووزننا الدوليين. لن يفيدنا كثيراً أن نردد أن السودان مستهدف لموقعه أو خيراته ، فالاستهداف هو سنة من سنن التدافع على الساحة الدولية ولا يمكن مواجهته إلا بحشد كل الأسلحة المتاحة لنا ومن أهمها تحقيق الوحدة الوطنية داخلياً والتفاعل النشط مع إقليمنا المباشر. لقد ظل حلم دور السودان كقنطرة تربط بين أفريقيا والعالم العربي أو بوتقة تنصهر فيها الثقافات الأفريقية والعربية يداعب خيال السياسيين والمثقفين في بلادنا منذ استقلالها ، وقد عجزنا عن تحقيق هذا الحلم لأسباب عدة لعل أهمها فشلنا في بناء دولة متعددة الثقافات تعكس بصورة لا لبس فيها انتماءاتنا العربية والأفريقية. وقبل كل ذلك لا بد من رؤية ثاقبة تؤمن بأن أفريقيا هي ماضي وحاضر ومستقبل السودان ، وأن الظروف المحيطة بالبلاد في هذا الوقت بالذات تقتضي حشد التأييد من دول القارة. ولا بد من خطط وبرامج ووسائل مبتكرة لتحقيق هذا الهدف ، حيث لم تعد تكفي الجولات التي تقوم بها الوفود الوزارية لمختلف انحاء القارة. بل لا بد من الأخذ بنصيحة الأستاذ مهدي والعمل على مراجعة سياستنا الخارجية برمتها وتقوية وجودنا الفاعل في كل أنحاء القارة حتى تتمكن سفاراتنا من القيام بدورها المطلوب. ولا شك أن محاولة تجاوز المشكلات الأمنية والاقتصادية مع دولة الجنوب يجب أن تكون على قمة اولوياتنا في هذا الصدد. فهذه الدولة تمثل في اعتقادنا البوابة التي يمكن أن نلج عبرها نحو القارة الأفريقية خاصة وأنه لا يمكن تطوير علاقاتنا مع جوارنا المباشر في شرق أفريقيا بمنأى عن علاقتنا بدولة جنوب السودان. ومع أن المشاكل الأمنية قد تفرض نفسها على العلاقات بين السودان وجنوب السودان في المدى القصير ، إلا أن الرؤية الاستراتيجية تقول أن العلاقات الاقتصادية هي التي ستحدد دور السودان في شرق أفريقيا وفي القارة الأفريقية ككل. لذلك فإن الحكمة تقتضي عدم استعمال سلاح المقاطعة الاقتصادية الذي يعرف بأنه ذو حدين ضد الجنوب إلا بقدر ما يساعد على توصيل الرسالة. ففضلاً عن تأثير المقاطعة على عدد لا يستهان به من مواطني السودان نفسه ، فإن دولة كيوغندا التي تعتبر جنوب السودان شريكها التجاري الأول تتلهف لالتهام السوق الجنوبية. وقد لا يكون من السهل استرداد ما نفقده من فرص في سوق الجنوب إن طالت فترة المقاطعة وتمكنت حكومة الجنوب من توفير البدائل المناسبة ، ولا نشك في أن مسئولينا يتابعون عن كثب محاولات حكومة الجنوب للبحث عن منافذ للبحر بعيداً عن ميناء بورتسودان. Mahjoub Basha [[email protected]]