تبقى لموعد انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان ثلاثة أشهر ونصف الشهر، دون أن يلوح في الأفق حل الإشكاليات الناجمة عن تنفيذ هذا الاستحقاق، بل تدافعت الهواجس والمخاوف لتنذر بمخاطر جمة، إلى الدرجة التي باتت "قنبلة موقوتة"، حسب التوصيف الدقيق لهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية للوضع في السودان بأنه "قنبلة موقوتة" قبل الاستفتاء على حق تقرير المصير حول الجنوب، المقرر في مطلع العام المقبل. لذلك حرصت الولاياتالمتحدة الأميركية، حسب تصريحات هيلاري كلينتون، على العمل بجدٍ مع شركائها لضمان إجراء الاستفتاء في سلامٍ وسلاسةٍ، والإعداد لما رأت أنه "النتيجة الحتمية" لانفصال الجنوب. واعتبرت وزيرة الخارجية الأميركية رداً على سؤال عقب إلقائها لكلمة بشأن السياسة الخارجية الأميركية في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، وهو مجلس يضم مجموعة من الخبراء وأساتذة الجامعات المختصين في الشؤون الدولية، أن الوضع بين الشمال والجنوب في السودان "قنبلة موقوتة" لها تداعياتها الهائلة. فمن هنا أحسب أنها قصدت أنه من الضروري البحث بجدٍ واجتهادٍ للوصول إلى كيفية تفكيك القنبلة الموقوتة من خلال تفاهماتٍ يتوصل إليها الشريكان (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) سواء في الخرطوم أو جوبا أو نيويورك أو أي مدينة أخرى، محلية أو إقليمية أو عالمية، لأن نزع فتيل هذه القنبلة الموقوتة يتصدر الأولويات الوطنية والإقليمية والدولية لتحقيق استقرار وسلام في السودان، وبالتالي في المنطقة كلها. واتضح جلياً لمراقب الشأن السياسي السوداني داخل السودان وخارجه، أن انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان في التاسع من يناير 2011، ضمن متبقيات استحقاقات اتفاقية نيفاشا للسلام، يشكل بلا أدنى ريب، مأزقاً حقيقياً في علاقة الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) المضطربة لانفاذ هذا الاستحقاق في موعده، إذ جعلت الحركة الشعبية من هذا الموعد، موعداً مقدساً لا يمكن التراجع عنه، بينما يتوجس المؤتمر الوطني خيفةً من تداعياته، إذ تؤكد الكثير من المؤشرات أن نتيجته الحتمية الانفصال، مما يعني العمل بجدٍ على تفادي مخاطر تداعيات الانفصال، بكسب الوقت، تأجيلاً أو تعطيلاً، وذلك من خلال آلية مفوضية الاستفتاء، بحجة أن الوقت غير كافٍ لتنظيم الاستفتاء في موعده المقرر يوم الأحد التاسع من يناير المقبل. وقد بدأت بعض المؤشرات تشير إلى هذا التوجه التأجيلي أو التعطيلي، وذلك من خلال التصريحات الصحافية التي أدلى بها البروفسور محمد إبراهيم خليل رئيس مفوضية الاستفتاء يوم الأحد الماضي، حيث قال: "نأمل أن نبدأ التسجيل في منتصف أكتوبر المقبل"، مضيفاً "إذا لم يحدث تأخير أو عقبات أو مجادلات، وإذا عملت المفوضية بسلاسة، وإذا لم تحدث تدخلات من الأطراف المختلفة، وإذا تركنا الناس لحالنا، فمن الممكن جداً أن نفي بالموعد النهائي التاسع من يناير المقبل"، مشيراً إلى أنه "لا يجب أن يولي الناس الأدبار معتقدين أن من السهل جداً أن نكون واثقين، نحن نبذل قصارى جهدنا، نحن نعمل ليلاً ونهاراً". ولكن الجميع يعلم أن مفوضية الاستفتاء تأخرت كثيراً في تعيين الأمين العام لها، وحدث شد وجذب بين رئيس المفوضية والحركة الشعبية، ومن ثم حدث تأخير ملحوظ في بقية الإجراءات التي كان من المفترض أن تبدأ فور تشكيلها. لذلك قد تجد المفوضية نفسها غير قادرة على الايفاء بإجراء الاستفتاء في موعده. وهناك آليات أخرى للتأجيل أو التعطيل يمكن أن يستخدمها المؤتمر الوطني في حال تأزم الموقف، وإن كان يردد قياديو المؤتمر الوطني أنهم سيعترفون بنتيجة الاستفتاء إذا ما أُجري بنزاهة وحرية. وأحسب أن الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) قد تعذر عليهما التوصل، رغم كثرة الاجتماعات واللقاءات سواء في الخرطوم أو جوبا أو أديس أبابا أو القاهرة، التوصل إلى حلحلة بعض القضايا العالقة بينهما، وصولاً إلى انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير ليصوت الجنوبيون بشأن الوحدة الطوعية أو الانفصال بسلاسة وسلام، ولكن يخشى الكثيرون داخل السودان وخارجه من أن هذا التعثر في حلحلة القضايا العالقة سيؤدي إلى تأجيل موعد الاستفتاء أو عدم اعتراف المؤتمر الوطني بنتيجة الاستفتاء إلى تجدد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، فقررا الاستجابة لدعوة الإدارة الأميركية ضمن حملة دبلوماسية أميركية مكثفة من أجل إجراء الاستفتاء في جنوب السودان في موعده المحدد في التاسع من يناير المقبل، وذلك من خلال تقديم حزمة حوافز للحكومة السودانية لتفادي عرقلة إجراء الاستحقاق، بُغية إتمام عملية الاستفتاء لإحداث انفصال سلسٍ للجنوب عن الشمال. ومهد الجنرال سكوت غريشون المبعوث الأميركي إلى السودان لاجتماع يوم الجمعة 24 سبتمبر الحالي في نيويورك، على هامش اجتماعات الدورة الخامسة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، بعقد سلسلة من لقاءات مع قيادات المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في الخرطوموجوبا، لتحديد عدد من الخطوات التي تزمع الولاياتالمتحدة الأميركية القيام بها خلال جدول زمني محدد بدءاً من الموافقة على تخفيف العقوبات الأميركية على السودان، منها بيع معدات الري والزراعة إلى السودان لتساهم في مشروعات النهضة الزراعية التي وضعتها الحكومة السودانية ضمن أولوياتها الاقتصادية في المرحلة المقبلة. وفي هذا الإطار ذكرت مصادر أميركية أن البيت الأبيض وضع جدولاً زمنياً لرفع العقوبات عن السودان، لتحفيزها على المُضي قُدماً في تنفيذ متبقيات استحقاقات اتفاقية نيفاشا للسلام ، مع الاستمرار في التهديد بالتوقف عن تقديم هذه الحوافز إذا رفضت الحكومة السودانية تنفيذ التزاماتها تجاه تلك الاستحقاقات. وستبدأ عملية التطبيع الأميركي بمبادرة من الرئيس الأميركي باراك أوباما برفع الحظر عن تصدير معدات الري والزراعة إلى السودان، للمساهمة في خطة الحكومة السودانية في التنمية الزراعية. وسيعتبر أوباما هذه المبادرة "هدية من دون شرط أو قيد"، ثم تتبعها خطوات أخرى في هذا الاتجاه، إذا التزمت الحكومة السودانية بشرائط هذه المبادرة الأميركية. وحسب هذه المصادر الأميركية، إذا تعهدت الحكومة السودانية بعدم التدخل في شؤون الجنوب إذا تم الانفصال، سيعلن البيت الأبيض إرسال سفير إلى الخرطوم. ثم يبقى حل مشكلة دار فور بما يرضي الأطراف المعنية، وإذا تحقق ذلك، سيعلن البيت الأبيض الأميركي تطبيع العلاقات الأميركية – السودانية تطبيعاً كاملاً، ويلغي كل قوانين المقاطعة. وحسب المصادر الأميركية التي تحدثت إلى الصحافي جيمس تروب المتعاون مع المجلة الأسبوعية التي تصدرها صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فموضوع رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب لم يحسم، وربما سيكون جزءاً من الخطوة الأخيرة، بعد حل مشكلة دار فور. وحسبما ذكرت "الشرق الأوسط" ما نقله مسؤول في البيت الأبيض الأميركي للصحافي تروب، قائلاً: "في الماضي، كنا نميل نحو قول لا للبشير.. والآن، نميل نحو قول نعم". وقال المسؤول إن "سياسة الجزرة والعصا"، صارت سياسة "قطع جزرة، قطعة بعد قطعة". وأحسب أن الإدارة الأميركية اهتمت بالشأن السوداني من أجل العمل على تفادي تجدد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وبالتالي حدوث اضطراب غير مرغوب فيه في هذا الجزء من أفريقيا، ولذلك ستبذل إدارة أبوما فصارى جهدها في انجاح لقاء الغد (الجمعة) في نيويورك للتوصل إلى توافق حول الاستفتاء والتراضي على ما يسفر عنه من انفصال أو وحدة. وأن يتوصل الطرفان إلى تراضٍ حول بقية الاستحقاقات والتعايش السلمي إذا انفصل الجنوب عن الشمال، وفي الوقت نفسه، يتنازل الجنوب عن بعض مستحقاته من المداخيل النفطية لصالح الشمال، حتى يدبر الشمال مداخيل أخرى بديلة. والتوافق على معالجة قضية ترسيم الحدود في الفترة المقبلة. وبالفعل وصل كل من السيّد سلفاكير ميارديت النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية والسيد علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني للشؤون التنفيذية إلى نيويورك، بحثاً عن آلية توافقية لتفكيك القنبلة الموقوتة. وأكبر الظن عندي – وليس كل الظن إثمٌ- أن نائبي الرئيس السوداني أرادا بالسفر إلى نيويورك التراضي أمام الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون وبان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة وآخرين، وعلى هامش اجتماعات الدورة الخامسة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، على حلٍّ توافقي يخرجهما من مأزق انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير بالنسبة للجنوبيين في التاسع من يناير المقبل، بعيداً عن هواجس تجدد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، بعد أن استشكل عليهما ذلك في الخرطوموجوبا. وأحسب أن السيد علي عثمان محمد طه والوفد المرافق له من المؤتمر الوطني أرادوا تأصيل سفرهم هذا تنزيلاً لقول الله تعالى: "قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، ويرددون في سرهم وجهرهم دعاء السفر "سبْحانَ الذي سخَّرَ لَنَا هذا وما كنَّا له مُقرنينَ، وَإِنَّا إِلى ربِّنَا لمُنقَلِبُونَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هذا البرَّ والتَّقوى، ومِنَ العَمَلِ ما تَرْضى. اللَّهُمَّ هَوِّنْ علَيْنا سفَرَنَا هذا وَاطْوِ عنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ في الأهْلِ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وعْثَاءِ السَّفَر، وكآبةِ المنظَرِ، وَسُوءِ المنْقلَبِ في المالِ والأهلِ وَالوَلدِ"، ويتذاكرون في سفرهم هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من خارج من بيته إلا ببابه رايتان، راية بيد ملك، وراية بيد شيطان، فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته، فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع بيته" (أحمد والطبراني)، وبعضهم ينزل في سفره هذا، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سافروا تصحوا، واغزوا تستغنوا". ولكن البعض الآخر في هذا السفر الطويل يستذكر الفوائد المرتقبة منه، والتفرج من همِّ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول الجنوب بين وحدة بعيدة المنال ومخاطر تداعيات الانفصال، فتجده يستشهد لحاله هذا بحال الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، حين قال في السفر: تغرب عن الأوطان تكتسب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفريج همٍّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد فإن قيل في الأسفار ذل وشدة وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد فموت الفتى خير له من حياته بدار هوان بين واشٍ وحاسد فالإمام الشافعي - يرحمه الله تعالى- عدّ من فوائد السفر خمس فوائد، وهي: انفراج الهم، واكتساب المعيشة، وحصول العلم، والآداب، وصحبة الأخيار والأمجاد. وقال أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي: من فضائل السفر، أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومن بدائع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى. أخلص إلى أننا أردنا بهذا التأصيل لسفر الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) الرد بالقول اللين على الذين أنكروا أهمية ذهابهما إلى نيويورك بحثاً عن آلية توافقية من أجل تفكيك القنبلة الموقوتة، وعسى أن تتحقق من هذا السفر واحدة من فوائد الإمام الشافعي الخمس، وتكون بمثابة تفريج همٍّ لدعاة الوحدة من هذا المصير المجهول الذي ينتظره السودان كله وليس الجنوب وحده. ولنستذكر في هذا الخصوص، قول الله تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". وقول أمير الشعراء أحمد بيك شوقي: وللأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق ومن يسقي ويشرب بالمنايا إذا الأحرار لم يسقوا ويسقوا ولا يبني الممالك كالضحايا ولا يدني الحقوق ولا يحق ففي القتلى لأجيال حياة وفي الأسرى فدى لهمو وعتق Imam Imam [[email protected]]