أحسب أن المشهد السياسي السوداني بات عصياً على فهم كثير من مراقبي الشأن السياسي السوداني داخل السودان وخارجه، ويتضح ذلك جلياً لمعلقي البرامج والنشرات الإخبارية في الفضائيات والإذاعات العربية والأجنبية، ولما كنت أحد هؤلاء المعلقين لاحظت أن تعليق الصباح قد تمحوه مستجدات الأحداث في الظهيرة أو المساء، مما يعني تطورات المشهد السياسي السوداني في تطورٍ متسارعٍ، يتطلب اللحاق به اللهث وراء مستجدات الأحداث أولاً بأولٍ. من هنا نلحظ أن تقلبات الأحداث في الشأن السياسي السوداني تسير في خطى متسارعة، وأن أساليب مضاغطات الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)، وحتى مضاغطات المجتمع الدولي تتخذ أشكالاً مختلفةً وصوراً متباينةً من أجل تفادي تداعيات كارثية مع تقارب موعد انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان في التاسع من يناير 2011، ضمن متبقيات استحقاقات اتفاقية نيفاشا للسلام. فبعد تأزيم ٍ واضحٍ في موقف الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) تجاه جملة من القضايا العالقة بينهما في إطار ترتيبات الاستفتاء وما بعده، انعكس ذلك بصورة واضحة استرعت الانتباه، وضاعفت المخاوف والهواجس، وأقلقت كثير من الدوائر المحلية والإقليمية والدولية، لما اتسم به الخطاب الإعلامي في هذا الصدد، لبعض قيادي الحركة الشعبية إلى درجة حديث سلفا كير ميارديت النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية في افتتاح كنيسة في جوبا يوم الأربعاء 6 أكتوبر الحالي، في مقاربة لما حدث لمناضلي المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا خلال نضالهم لإنهاء التمييز العنصري للأقلية البيض على الأكثرية السود قبل عام 1994، حيث قال: "إن الكثير من قادة المؤتمر الوطني الأفريقي الذين قرعوا طبول الحرية تم اغتيالهم. وأتمنى ألا تنسوا أن ذلك سيحدث وقادتكم سيُقضى عليهم، ويجب ألا تقفوا مكتوفي الأيدي"، في مطالبة صريحة للجنوبيين بالثأر لضحايا الاغتيالات التي يتوقع حدوثها لبعض قياديي الحركة الشعبية. وبعضهم ذهب يتحدث بروح تشاؤمية إلى أن تجدد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب باتت أمراً وشيكاً، بدعوى عدم إكمال المؤتمر الوطني تنفيذ مقررات واستحقاقات اتفاقية نيفاشا للسلام، وغير ذلك من أساليب المضاغطات من حرمان الشمال من جالون بنزين واحد إلى ترحيل الجنوبيين من الشمال إلى الجنوب، مهما كانت التكلفة المالية على حكومة الجنوب.. الخ. كل ذلك في إطار أساليب الترغيب في الانفصال، والترهيب من الوحدة. وفي المقابل اتسم الخطاب الإعلامي لبعض قياديي المؤتمر الوطني بالانفعالية والتصعيدية في مواجهة أساليب المضاغطات تلك، بأساليب مضاغطات أقوى بدأت برفض صريح لمنح الجنوبيين إذا اختاروا الانفصال حق التمتع بالحريات الأربع التي تقوم على حرية مواطني البلدين في: (1) حرية العمل. (2) حرية التنقل. (3) حرية الإقامة. (4) حرية التملك، بل زاد بعضهم بالدعوة إلى حرمانهم حتى من حق الحصول على حقنة في المستشفيات العامة، باعتبارهم أجانب غير مرغوب فيهم. وذهب بعضهم مذهباً أبعد في هذه المضاغطات، بدعوة الشباب إلى الاستعداد للحرب حال انفصال الجنوب، والجهر بأن خطة الحرب جاهزة، إضافة إلى اشتراطات بعينها من الضروري الايفاء بها ضمن ترتيبات ما قبل الاستفتاء وإلا لن يُجرى الاستفتاء في موعده، مهما كانت التداعيات. وفي وسط هذه الحملات التصعيدية من بعض قياديي الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) تزايدت مخاوف السودانيين ومحاذير المجتمع الدولي من تجدد الحرب الأهلية في السودان نتيجة لتداعيات الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان. فلم يكن من المستغرب أن يُحذر الرئيس السوداني عمر البشير من حدوث أسوأ سيناريو يُمكن أن يحدث في تاريخ السودان، في إشارةٍ واضحةٍ لا لبس فيها، ولا غموض، إلى اندلاع حرب بين الشمال والجنوب عقب الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان. وفي الوقت نفسه حذرت الحركة الشعبية من تداعيات الخلافات بين دعاة الوحدة ومطالبي الانفصال التي ستسفر عن تجدد القتال بين الشمال والجنوب. ووسط هذه الأجواء التصعيدية بين الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) والمخاوف المتزايدة والمحاذير المتصلة، سارعت الولاياتالمتحدة الأميركية بالتنسيق مع بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة لعقد قمة تبحث في إمكانية تقريب شقة الخلاف بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لإجراء الاستفتاء في حق تقرير المصير بالنسبة للجنوبيين في موعده بسلاسة وسلام، في التاسع من يناير المقبل، بُغية إبعاد شبح تجدد الحرب الأهلية. وبالفعل انعقدت قمة عن السودان، بحضور الرئيس الأميركي باراك أوباما، ومشاركة سلفا كير ميارديت النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية وعلي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني للشؤون التنفيذية، على هامش الدورة الخامسة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك يوم الجمعة 24 سبتمبر الماضي، وكان ملحوظاً أن الرئيس الأميركي أوباما حرص على أن تكون مضاغطاته على الطرفين، وإن كانت بصورة أكثر وضوحاً مضاغطته على المؤتمر الوطني، بدا ذلك من خلال تصريحات صحافية لمسؤولين أميركيين عن سياسة الجزر البديلة عن سياسة العصي بعد أن ثبت فشل سياسة العصي في إحداث تأثيرات واضحة على المؤتمر الوطني سنين عددا، وسبق أحاديث الجزر الموعودة، تصريحات صحافية من مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي أي آيه) التي أشادت بتعاون جهاز الاستخبارات والأمن الوطني السوداني والتنسيق معها في ما يتعلق بملف الإرهاب. والمعروف أن السي أي آيه من المؤسسات الأميركية المهمة في وضع السياسات وصناعة القرار في البيت الأبيض الأميركي. كما أن الرئيس الأميركي أوباما رفض وساطة بعض أعضاء الكونغرس لتخصيص لقاء مع سلفا كير في واشنطن قبيل قمة نيويورك، لإبداء قدر من الحيادية، لكن مع كل هذا نتيجة لما وجده سلفا كير من ترحاب وتشجيع من مجموعات الضغط الأميركي في الكونغرس وبعض منظمات المجتمع المدني وبعض المراكز والمعاهد البحثية السياسية، عاد إلى جوبا مغلباً خيار الانفصال على خيار الوحدة، بدعوى الاستقلال، في مفارقة فاصلة لنصوص وروح اتفاقية نيفاشا، مما دعا البعض في الشمال يتساءل إن كان مثل هذا التصعيد المخالف للاتفاقية يستدعي مساءلته ومحاسبته على القول الصريح باختياره للتصويت لخيار الانفصال في الاستفتاء. ولكن علي عثمان محمد طه سارع في مؤتمره الصحافي عقب عودته من نيويورك إلى تغليب خيار التهدئة على التصعيد، بالحديث عن أن سلفا كير تحدث عن تصويته لخيار الانفصال من منطلق الرأي الشخصي الذي يغلب عليه التقلبات عكس الرأي المؤسسي الذي يصدر عن إجماعٍ أو توافقٍ للحركة الشعبية، ويصبح مبدأ يستحق الثبات لا التقلبات، ومن ثم جاء خطاب رئيس الجمهورية في دورة الانعقاد الثانية للهيئة التشريعية القومية يوم الثلاثاء 12 أكتوبر الحالي يحمل في طياته مهدئات، ويتضمن في ثناياه ملامح بُشريات تستدعي تغليب أساليب الترغيب في الوحدة، والنأي عن مضاغطات أساليب الترهيب من الانفصال وسط قياديي المؤتمر الوطني، على أمل أن تكون التهدئة مسؤولية الجانبين. وأحسب أن ذلك الخطاب أحدث نقلة نوعية في أساليب المضاغطات التي ينتهجها الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) في المرحلة المقبلة. وفي هذا الاتجاه يمكن النظر إلى زيارة علي عثمان محمد طه إلى جوبا للقاء سلفا كير، حيث عقد اجتماعات مطولة من أجل الوصول إلى تهدئة للأوضاع المتصاعدة إعلامياً وسياسياً بين الشريكين في الفترة الماضية. وأكد سلفا كير في تصريحات صحافية عقب اجتماعه مع طه في جوبا، أن الاجتماع مع طه هدف إلى تهدئة الأوضاع ووقف التصعيد في وسائل الإعلام بين شريكي اتفاقية نيفاشا للسلام. وأحسب أيضاً أن مشاركة طه في الملتقى الجنوبي – الجنوبي في جوبا يوم الأربعاء 13 أكتوبر الحالي، كانت من ثمار التهدئة، وكان لها تأثيرها الواضح في مُخرجات ذلكم الملتقى. ولما كانت هذه الأحداث متسارعة تصعيداً وتهدئةً بين الشريكين، استشكل فهمها لدى كثير من وسائل الإعلام العالمية، لأن بعضها ما زال في محطة الأسبوعين الماضيين، حيث الغلبة للتصعيد عند الخطاب الإعلامي لبعض قيادي الشريكين، رغم تجاوز الأحداث الآنية لتلكم المحطة التصعيدية. أخلص إلى أن تحذير الرئيس الأميركي باراك أوباما يوم الجمعة الماضي من ملايين القتلى حال فشل انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان في موعده، التاسع من يناير المقبل، يجيء متسقاً مع أساليب المضاغطات الأميركية، لتفادي تداعيات كارثية في المنطقة بسبب الاستفتاء. وفي الوقت نفسه يريد أوباما أن يُظهر للناخبين الأميركيين أنه سيبذل قصارى جهده لمنع تجدد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في السودان. ورداً على سؤال من شبان أميركيين خلال منتدى عبر شبكة "إم تي في"، قال أوباما إن الملف السوداني يشكل "أحد أولوياتنا"، مضيفاً "إنه شيء يتطلب انتباهنا، لأنه في حال اندلعت حرب بين الشمال والجنوب في السودان، فإن هذا لا يعني أن هناك إمكانية لسقوط ملايين القتلى، ولكن أيضاً أن مشكلة دار فور ستصبح أكثر تعقيداً". والملفت للانتباه، في تحذير أوباما أنه أكد أن ما يجري في السودان حالياً بشكل أحد أولويات السياسة الاميركية، وأن اهتمام إدارته بالشأن السوداني ليس لأسباب إنسانية فحسب، بل لأن تداعيات الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان، إذا نجم عنها تجدد القتال بين الشمال والجنوب لن تقتصر على السودان، بل ستخلق بؤرة نزاع في هذه المنطقة الأفريقية، مما يترتب عليه تمدد النشاطات الإرهابية إلى تلك المنطقة ولن تسلم الولاياتالمتحدة الأميركية من خطر هذا التمدد الإرهابي في هذه المنطقة، وسيشكل هذا التمدد الإرهابي خطراً كبيراً على الأمن القومي الأميركي، ويهدد المصالح الأميركية في العالم. وقال أوباما: "من المهم لنا منع هذه الحروب ليس لأسباب إنسانية فقط، ولكن أيضاً لمصالحنا الخاصة لأنه في حال اندلعت حرب هناك فقد يؤدي هذا الأمر إلى زعزعة المنطقة وخلق المزيد من المجال للنشاطات الإرهابية التي قد تتحول على المدى الطويل ضد بلدنا". ونذكر في هذا الخصوص، تحذير نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في لقاء سابق مع سلفا كير قبل أكثر من ثلاثة أشهر في نيروبي، من أن قيام دولة فاشلة في جنوب السودان نتيجة انفصال الجنوب بعد الاستفتاء على حق تقرير المصير بالنسبة للجنوبيين، قد يجعل من الإقليم جنة للإرهابيين. فهكذا نلحظ بغير كثير عناء، أن الاهتمام الأميركي بالشأن السوداني، تحركه جملة عوامل، أهمها الخشية من التمدد الإرهابي في المنطقة إذا اندلع قتال بين الشمال والجنوب في السودان، نتيجة لتداعيات الاستفتاء ومخاطره، إذا لم يُجر بسلاسة وسلام، وبتوافقٍ تامٍ بين الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية). وأن تهديد هذا التمدد الإرهابي في هذه المنطقة الأفريقية التي هي بؤرة نزاعات، إذا ما شب فيها نزاع واحد، كان بمثابة الشرر الذي تتطاير منه النيران في المنطقة كلها، بل سيُطال هذا الشرر وتلك النيران الولاياتالمتحدة الأميركية، مهدداً أمنها القومي ومصالحها في العالم الخارجي. والمعروف أن القاعدة تسعى جاهدة إلى إيجاد مواطئ قدم لها في أحراش أفريقيا، خاصة بعد الأخبار المتواترة عن نشاطات إرهابية للقاعدة في المغرب العربي ومالي، إضافةً إلى نشاطها الإرهابي المشهود في الصومال. وقد تمدد ذلكم النشاط أخيراً إلى يوغندا. فينبغي الإشارة إلى تلميحات أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة في تسجيل صوتي بُث يوم الجمعة الأول من أكتوبر الحالي، حيث أعرب فيه عن قلقه من تبعات التغير المناخي، وقال: "إن ضحايا هذه التبعات أكثر من ضحايا الحروب، منتقداً إهمال المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية، خاصة في السودان". ولا ننسى من باب التذكير أيضاً الإشارة إلى أن الأخبار تتحدث عن مفاوضات غير سرية بين أميركا وطالبان، مما يعني نجاح تلك المفاوضات إمكانية إخراج القاعدة من كهوفها في أفغانستان، والبحث عن ملاجئ لها ولنشاطاتها الإرهابية في أدغال أفريقيا وأحراشها. فهذا هاجس لم يغب عن خارطة أولويات السياسة الأميركية. وأحسب أنه مما دفع الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يضمن السودان كأحد أولويات إدارته. كما أن على السودانيين شمالاً وجنوباً العمل المخلص الجاد لتفادي أفغننة بلادهم أو صوملتها، من جراء تجدد القتال بين الشمال والجنوب، نتيجة لتداعيات الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان في التاسع من يناير المقبل، بسبب خلافات ومشاكسات الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)، وليعملا بجدٍّ واجتهادٍ من أجل معالجة القضايا العالقة بينهما، لقيام استفتاء حر ونزيه وشفاف، ويتوافق الجميع على محصلته النهائية، وحدةً كانت أم انفصالاً. ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ". وقول الشاعر زهير بن أبي سلمي: وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَة وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ فَتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَا وَتَلْقَحْ كِشَافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ Imam Imam [[email protected]]