ولدت بين قرية تريبه ومعسكر شق الو اطه ، كنا نمضى في الطريق دون أمان وحراسة بثياب قذرة ومهلهله وجلد مدبوغ بالشمس . نتقدم ببطء في رتل طويل من النساء والأطفال في مسيرة منهكة وشاقة. لم تكن امى تنتظر لىّ مستقبلا جيدا ، كنت وحيدتها ، تحملني ملفوفة على قطعة قماش وسخة ، ترضعني لبن الجوع وتسير بطاقة مدت إليها مباشرة من السماء . أخبرتهم ساعة الطلق أنها في الليلة الفائتة حلمت بأن مصباحا من السماء سقط مهشما إلى أجزاء كثيرة ، قالت سأنجب بنتا وستعمر إلى أن تسقط أسنانها لكنها ستكون شقية . مات أغلب الرجال بقى النساء ونحن، كنا تسعة أطفال حديثي الولادة عاش اثنان. سرنا مسافات طويلة، لا همهمة ولا شيء مطلقا سوى الصمت حتى الحمير لم تكن تصدر نهيقا. دامت الرحلة أياما، وصلنا المعسكر فجرا بحلوق جافة وشفاه متورمة. كان رمز النجاة لنا ، ولم يكن سوى أشجار عارية وخيام مد البصر ومئات من الأطفال العراة الحفاة يتراكضون بين الأرجل مثيرين زوبعة غبار كثيفة - حسب رواية امى - ، قضت نهارها ذاك في صف الصدقات والمساء في نقل الماء لتحممنى – ذلك ترف يحدث كل ثلاثة اشهر – شربنا ووزعوا علينا الخيام وبينها ترعرعت غارقة في المشاهد المفجعة ، يعينان لا تستقران أبدا . . عشت سنيني الخمسة الأولى وسط جوع ومرض وعُرى دائم، وازدحام على المرحاض إلى أن تتبول على رجليك وأنت في الصف. طفولة لم ابتسم فيها قط ولم ألعب ولم أدرس ، كانت اقل من الحد الفاصل لحياة معقولة ، خوف من الرصاص الطائش وصياح على الدوام كنا نعيش فوضى العلاقات . لم أر قريتي ، دمرت قبل ولادتى بأيام ، في ذاكرتي فقط حياة المعسكر رغم أن وسائل الحياة فيه الآن تبدلت بحيث أن البعض بقى فيه والآخرين رجعوا إلى قراهم . أكتب هذه المذكرات الآن وأنا جالسة على مكان عالي يطل على النيل لأشرب مباشرة علىّ اروي ظمأ طفولتي ، اذكر ماضىّ وأكثر من التفكير فيه وقد مرت على حياة البؤس والفقر سنوات وسنوات ، أتوق لروية مكان نشأتي – لقد عشت زمنا طويلا بعيدة – أموت شوقا لاهلى ، خلق معسكر الجوع ذاك نوعا من التضامن الانسانى بيننا لذا كنت أحسهم جميعا اهلى ، صبرنا على الفقر سنينا و الخيام . عشت بنصف قلب . بعد الخمسة عشر عاما ماتت أمي وأصبت بالصرع وصرت أقع أرضا وانأ اذبد بعينين تائهتين . ضاقت علىّ دارفور وصرت أرى نفسي كما في شق ضب ، قررت الرحيل ، خرجنا ليلا نتسلل تفوح من ملابسي رائحة الخوف والعرق الكريهين ، كان علينا قطع مسافات طويلة سيرا على الأقدام . في ليلنا ذاك قطعنا مساحات من الخضرة ، مناظر أراها لأول مرة ،إنه العالم بعيدا عن تشوه المعسكر العالق غباره بثيابي ، أتلفت أكثر مما يجب وهمس في داخلي ينبئني بأن لا شيء سيعود كما كان وبأنني لن أعود 0 سرت بمحاذاة الرجال بطموح مجنون وعناد اكسبتنى له حياة المهانة وذلة هبات المنظمات – أحيانا يقللون وجبة الطعام بحجة أن عددنا أصبح كبيرا - في تلك الرحلة أدمنت الصمت حتى إنهم لايكادون يشعرون بىّ ، أتابع تبدل المناظر بقلب ممزق ومرهق بنوبات الصرع 0 كانوا يختارون أكثر الطرق خفية ووعورة بوجوه مسودة ، جلد محروق وعيون محمرة وايدى دامية نحاول الوصول إلى الحدود الليبية 0 الحسرة تملؤني وأنا اكتب عن تلك الأيام ، سنوات الموت والمرض ، التجاعيد التي حفرت بوجوهنا والجلد الملتصق بالعظم ، كان العالم مشوها بالجوع ، لا احد يحتمل وجعي على تلك السنوات ولا حضن مخضب بالصبر ليستقبل هلوسة امرأة مريضة عظامها بالحنين 0 وحده الورق ، تعلمت الكتابة على كبر لأكتب يومياتي التي كانت تنتهي برغبة قوية في البكاء ، سنوات ضاعت في الأسفار وتغير الأمكنة والثابت الوحيد الحزن ، وسمت حياتي بعدم الاستقرار والأمان ، عشت بلا أسرة 0 الحياة تمضى وأنا لااكاد افتح حقايبى إلا لأحزمها لأحدث العالم عن حنيني وياللالم عندما لا تقتص لظلمك 0