لم أعد عبد قيودي لم أعد ماض هرم عبد وثن أنا حي خالد رغم الردى أنا حر رغم قضبان الزمن فاستمع لي ... استمع لي إنما أذن الجيفة صماء الأذن "محمد الفيتوري" درج سكان أمدرمان على الإشارة إليها بأسماء مختلفة، لكن الشائع بين أكثرهم إنها سينما قديس على اسم صاحبها، و يعود ذلك في غالب الأحيان إما مقتاً للضابط البريطاني الذي عمل على إنشائها فلا يريدون ذكر اسمه، أو محبة في صاحب السينما و استسهال الاسم من ناحية اخرى. لكن كثر يكتفون بالقول أنهم ذاهبون الى "السينما" دون تحديد الدار التي يقصدون، و كانوا بذلك يعنون سينما برمبل على وجه الخصوص و ليس غيرها رغم وجود دور عرض اخرى في أمدرمان و بقية أنحاء العاصمة المثلثة. فالسينما كانت تعني لدى عدد غير قليل من الرواد تلك الدار و حسب أما سواها فيذكر اسمها مقرونا الى كلمة سينما أو بدون ذلك كقولهم سنذهب الى كوليزيوم أو النيل الأزرق أو الوطنية أمدرمان و هلمجرا. أزيلت هذه الدار في نهاية ستينيات القرن الماضي لأمر في نفس يعقوب، و كانت تقع الى جوار مبني البريد "البوسطة"، و قبالة مقهى جورج مشرقي الشهير الذي ازدحم كما عبق بتأريخ الفن المعاصر و الأدب السوداني الحديث، الى جانب السياسة و الساسة و الرياضة و الفكاهة. ترصع حي البوسطة بمنازل أعلام و نجوم، ففيه سكن الزعيم الوطني الوزير حسن عوض الله، و خلفه بيوت الشيخ بابكر زروق، والد الزعيم الوطني الأخر الوزير مبارك زروق، و صديقي الشاعر المسرحي مأمون زروق و أخوتهم، و غيرهم كثير. مَحْجُوبَةٌ بسُرادِقٍ مِنْ هَيْبَةٍ تَثْني الأزِمّةَ والمَطيُّ ذَوامِلُ للشّمسِ فيهِ وللسّحابِ وللبِحَارِ وللأسُودِ وللرّياحِ شَمَائِلُ في بداية الستينيات عرضت هذه الدار شريطاً سينمائياً أخذ اليوم مكانه في سجل كلاسيكيات السينما الاميركية. و قد استمر عرضه مدة أطول من المعتاد و أعيد عرضه مراراً و تكراراً، شاهدته - كما شاهده غيري – أكثر من مرة، كما تمثل الصبية الصغار ممن كان في عمرنا في ذلك الوقت أحداثه و ولعوا به. فهو مختلف عن أفلام الغرب الاميركي (الكاوبوي) التي كانت تذخر بها شاشة قديس الفضية يومئذٍ، بل هو فريد في كل شيء قياساً بذلك الزمان الاميركي. اختارت له سينما قديس عنواناً لا يمت بصلة للاسم الذي أطلقه منتجوه عليه، و لكنه أكثر إيحاء من الاسم الأصلي فقد أسمته "هاربان في سلسلة". أخرج استانلي كرامر فيلم أهل التحدي، "The Defiant Ones" في العام 1958 حينما كانت أحداث العنف العنصري تلطخ وجه الولاياتالمتحدة الاميركية، و حركة الحقوق المدنية تدفع ثمناً باهظاً في سبيل المساواة و العدالة على أيدي عصابة الكوكلاس كلان و غيرها من عصابات البيض الهمجية. قبل إخراج هذا الفيلم بثلاث سنوات رفضت روزا باركس، و هي سيدة سوداء من سكان مدينة مونتقمري بولاية الاباما التخلي عن مقعدها في حافلة نقل عمومية لراكب أبيض، فأدى القبض عليها الى اشتعال حركة العصيان المدني و مقاطعة حافلات النقل العام و بروز حركة الحريات المدنية التي قادها القس الأسود مارتن لوثر كنق. تتناول أحداث الشريط السينمائي هروب سجينين أحدهما أسود و الآخر أبيض مقيدان بسلسلة واحدة بعد أن تدهورت سيارة السجن التي كانت تقلهما من سجن الى آخر في جو عاصف و أرض موحلة، لتبدأ المطاردة المحمومة و ليستمر الفرار الغريب. لم يكن ارتباط أبيض و أسود بأي شكل من الأشكال – حتى لو كان في القيود أو في أفلام السينما أو مخيلة الكتاب و الحالمين - مألوفاً في أميركا أو معروفاً عنها حينئذِ. كان الفصل العنصري و العنف الذي يستتبعه هو السائد في "بلاد الأحرار" وقتذاك. أرتبط مصير السجين الأسود نوح كولن، الذي أدى دوره الممثل الاميركي – الأفريقي، سيدني بواتيه، بالسجين الأبيض جون جاكسون الذي اشتهر في السجن باسم (الجوكر)، و قد مثل الدور النجم الاميركي المجري الأصل، توني كيرتس. في البداية تسود الكراهية و البغضاء بين الهاربين فيتعاركان و يختصمان و يصرخ كل منهما في وجه رصيفه، و يتنازعان السلسلة، يشد أحدهما الآخر فيجندله أو يجره في الوحل؛ و يحاولان فك القيد قدر المستطاع بحجارة أو بغيرها دون طائل، إذ يظل صلّباً لا ينكسر و لا يرتخي. يسخر أحدهما من الآخر، ثم بعد ذلك يأتلفان، إذ لا مندوحة من البقاء معاً حتى يتخلصا من هذه السلسلة اللعينة. و في أثناء فرارهما اللاهث يعضهما الجوع؛ و يصيبهما الإنهاك حين يصلان ليلاًُ الى بلدة صغيرة من مدن الجنوب الاميركي. هناك يقتحمان متجراً كي يتزودا بالطعام و الماء و أدوات تفك القيد عن معصميهما. لكن أهل البلدة أطبقوا عليهما من كل جانب ثم قرروا شنقهما. هنا يحاول الهارب الأبيض استغلال رابطة اللون استدراراً لعطف أهل البلدة البيض، فينكروا عليه ذلك، إذ كيف يبقى منتمياً إلى سلالة الجنس الأرقى بعد أن رضي بتقييده الى ذاك "الزنجي". كانت تلك أميركا حتى سبعينيات القرن العشرين: ليس من البيض من يرضى جوار السود أو صحبتهم أو الهروب مقيداً معهم! هنا يحضرني لقاء جمعني الى صحافي أميركي متمرس و مؤلف مرموق، له كتب عن الحرب الأهلية اللبنانية، و كردستان، و كتاب عن أبن لادن بعنوان "أسامه: ُصنع إرهابي"؛ كما يحضرني تعليقه على تعيين الرئيس جيمي كارتر، و هو يبدأ عهده العام 1977، للمحامي الأسود، أندرو ينق، مندوباً للولايات المتحدة الاميركية لدى هيئة الأممالمتحدة. قال لي جوناثان راندل، مراسل جريدة واشنطن بوست المتجول، و نحن نتناول الغداء في مطعم باريسي أنيق بالقرب من مكاتب الصحيفة الكائن في شارع متفرع من الشانزليزيه بالعاصمة الفرنسية: "اليوم أستطيع أن أقول بكل ثقة أن الحرب الأهلية الاميركية قد وضعت أوزارها، و أن التفرقة العنصرية قد انتهت في أميركا، و اليوم أستطيع أن أدعي أيضاً أن الأميركيين الملونين و الأفارقة سيصبحون مواطنين مثلهم مثل غيرهم و سينالون حقوقهم المدنية!" كنت قد ذهبت ذلك الصباح معزياً جون الذي فقد قبل أيام معدودات ابنه الأثير ذي الثلاثة عشر ربيعاً بحادث سير مروّع و هو يقود دراجته النارية، فاستبقاني الى الغداء لنتحدث عن رحلة كان يزمع القيام بها الى بعض البلاد الأفريقية. بعدها بأشهر قليلة نشرت الواشنطن بوست قصة قيام زبانية "الامبراطور" بوكاسا باعتقال جون راندل و زميله مراسل وكالة الاسوشيتدبرس في بانقي، عاصمة أفريقيا الوسطى، ثم نجاتهما من نهاية مأسوية قطعاً من اللحم المشوي على مائدة حاكم مستبد مختل غريب الأطوار. نعود مرة أخرى الى أحداث "أهل التحدي" فنجد أن "بِق سام"، أحد أهل البلدة، يتدخل لمنع شنق الهاربين بعد أن اقنع السكان بحبسهما حتى الصباح ثم تسليمهما للسلطات. لكن بِق سام يتسلل الى الزنزانة و يطلق سراحهما من بعد ذلك، فقد كان شقياً مثلهما في غابر الأيام. يتجدد الهروب مرة أخرى حتى يلتقيا بصبي يأخذهما الى أمه التي هجرها زوجها منذ زمن. تميل هذه السيدة الوحيدة الى الجوكر فتخلّص الاثنين من السلسلة التي ربطتهما زمناً طويلاً. تتفق المرأة مع الجوكر على الفرار سوياً من المنزل، على أن ترشد كولن الى طريق للهروب من مطارديه عبر المستنقعات حتى يصل الى السكة الحديد التي ستقله الى الإنعتاق الأبدي، لكنها كانت حيلة للخلاص من هذا الأسود، إذ أرشدته الى طريق الموت والهلاك! تراضى رفيقا رحلة الهروب على الافتراق، فرحل كولن ليعبر المستنقع كما أرشدته كارا ويليامز التي مثلت دور أم الصبي. بعد رحيله تعترف المرأة للجوكر إنها أرسلت الأسود الى مصيره المحتوم، فيستبد الغضب به أيما استبداد، و يترك تلك المرأة المخادعة و يركض خلف زميله في السجن و رفيق قيده و دربه؛ لكن الصبي يعاجله بطلقة من بندقية. رغم جرحه النازف يلحق الجوكر بكولن و يحذره من الاقتراب من المستنقعات. في هذه الأثناء يتناهى الى سمع كل منهما أصوات المطاردين و كلابهم النابحة، كما يسمعا صفارة قطار آتٍ من بعيد. يزيد الاثنان من سرعتهما حتى يلحقا بالقطار فيقفز كولن إليه ثم يمد يده الى الجوكر لكنه لا يستطيع جذبه. يسقط الاثنان على الأرض، و قد نال منهما التعب و الإرهاق فيمكثا حيث هما انتظارا لمطارديهم. حينما يصل الشريف ماكس موللر و بقية فريق المطاردة إليهما يجدون كولن يغني متحدياً الجميع و الجوكر بين ذراعية يكاد يغمى عليه من كثرة ما نزف جرحه. في الأسبوع الماضي رحل بطل هذا الفيلم، توني كيرتس، عن خمسة و ثمانين عاماً. و ما زالت أجيال كاملة تتذكر فيلماً آخر صعد به الى سماوات الشهرة، إذ أن كثيرين يقفز الى أذهانهم فيلم "البعض يحبها ساخنة" كلما ذَكر أسمه، مثلما يذهب البعض الى سنوات المراهقة يوم عشقوا زوجته الساحرة الممثلة "فيفيان لي" و هوّمت بهم الأحلام بعيداً. ليس رحيل توني كيرتس ما يذكرنا بفيلم "أهل التحدي" أو "بهاربين في سلسلة" كما قدمته سينما قديس فحسب، و لكن زيارة وفد مجلس الأمن الى السودان هذا الأسبوع هي التي تعيد الى الذاكرة ذلك الشريط السينمائي الذي اعتذر عن دور البطولة فيه نجم هوليود في ذلك الزمان، روبرت متشم، لأن سلسلة ستقيده الى ممثل أسود، فاستنكف عن قبول الدور! فمن ِمن بين أعضاء الوفد هو "الشريف ماكس موللر"؟ و مَن مِنهم "بِق سام" و مَن مِن بينهم "كارا ويليامز" يا ترى؟ هل كان صلاح أحمد إبراهيم سيزيد شيئاً آخر إلى نهاية قصيدته "صورة دوريان قراي"؟ ربما... أمل و انهار مات و لم يترك تذكار مات و ها أنذا أسمع صوت مناحته في الدار مات و شيعناه و صلينا، و استغفرنا، و أنبنا، بعد بكاء حار و أتى من لا يعنيه الأمر و لم يحزن جاء ليشرب قهوتنا، يغتاب الناس، و ينتهك الأسرار و يقهقه، ضحكته كالنصل