إن شاء الله كسرة بي موية , تعبير يردده السودانيين في بعض الأحيان, كناية عن الإباء و عزة النفس , بدلاً عن قبول الضيم. أي أكرم للمرء, أن يبيت طاوياً علي أن يريق ماء وجهه , و يعرض نفسه للمذلة. الكسرة, هي جزء من ثقافتنا الغذائية السودانية , إذ إرتبطت هذه الكسرة بحياتنا. و منذ القدم يأكل الناس في بلادنا هذه الكسرة بالويكة , و معها بليلة اللوبيا, و هم حامدين, شاكرين و نفوسهم كبيرة و رؤوسهم مرفوعة. لقد إرتبطت الكسرة و البليلة بحياة الزهد و التقشف. و يقال أن الصوفية و أهل الطريق, لم يكن لهم غير هذه الكسرة و البليلة, التي تقيم الأود, و من ثم قدروا علي الإجتهاد و قيام الليل, فصفت نفوسهم و سمت إلي مراتب عليا. و لكن بمرور الزمن و تطور الحياة, إعتاد الناس في بلادنا علي تناول وجبات أخري, وفدت إليهم من خارج البلاد, و من ثم أنزلت الكسرة مكاناً ثانياً, و خاصة في المدينة, و سماها سكان المدينة ( بلدي ), أي الشئي الوافد من البلد. لكن ما دروا أن هذه الكسرة, هي أساس غذاء أهل السودان, قبل أن يسكن السودانيون المدينة , و يعرفون حياة المدنية. و المفارقة , أن الكسرة هذه صارت عزيزة علي التناول, رغم أنها أنزلت مكاناً ثانياً في سلم التصنيف الإجتماعي. صحن الكسرة للغذاء في المطعم السوداني, يكلف ثمانية ريالات سعودية , بينما يكلف صحن الخضار و معه رغيفين, خمسة ريالات , و هذه مفارقة, رغم أن من يأكل الكسرة , لا يجد فيها ذلك المذاق الذي كان يوجد في كسرة زمان, إذ أضيفت إليها مواد أخري, و منها الخميرة. و يبدو أن غلاء الكسرة , يعود إلي صعوبة صناعتها, مقارنة بالقراصة و الرغيف , إذ يعاني من يصنع الكسرة بعض المشقة في صناعتها. و في هذا المقام يثور تساؤل : ألا يمكن تطوير صناعة الكسرة هذه , بإعتبارها من الصناعات الصغيرة , التي يتعايش عليها قطاع مقدر من السكان, و بإعتبارها غذاء شعبي , يحتوي علي مواد غذائية عالية تمد الجسم بطاقة تعوضه عن مأكولات أخري , لا يقدر البعض علي شراؤها ؟ في زمان العولمة الذي نعيشه, يقال أن الأمريكان يعملون جاهدين , علي نشر ثقافتهم الأمريكية , و منها الثقافة الغذائية , أي ثقافة ( الماك ) Macdonalization , إشارة إلي مطاعم ( ماكدونالد ) الشهيرة, التي تعمل خارج أمريكا بنظام الإمتياز Franchise , و قد إنتشرت في كل ركن و قصي و دان, كأحد معالم الثقافة الأمريكية , التي أخذت تكتسح العالم . لقد إعتاد الشباب في بعض البلدان , أن يتناولوا وجباتهم في هذه المطاعم ذات الأكل اللذيذ. لكن سرعان ما برزت الكروش و الجضوم, و إنتشرت أمراض السمنة بين الكثيرين , مثل ما يشاهد داخل أمريكا , من بشر يسير في الطرقات مثل البقر, لفرط البدانة, و ذلك بسبب إحتواء هذه الوجبات اللذيذة علي مواد تهيج الهورمونات و تسبب البدانة. هذه واحدة من إفرازات العولمة الضارة. ما لنا لو عملنا علي تطوير صناعتنا المحلية , مثل الكسرة , مثلما يعمل الآخرين علي تطوير صناعاتهم المحلية , بإعتبارها جزء من الثقافة المحلية , و لنقابل بها مشقة الحياة. لا أقصد أن يعود الناس في بلادنا إلي الوراء , و يرتدون إلي حياة البداوة, و لكن حين تتأزم الأمور و تنبهم السبل , سيرفع الناس رأسهم عالياً, و يقولون ( إن شا ء الله كسرة بي موية ). لا إعتقد أن الأمور ستتأزم إلي هذا الحد في قابل الأيام , و لكن أشير إلي ضرورة تعلم ثقافة إدارة الأزمات , أي كيف يتكيف الناس مع أي وضع يطرأ علي حياتهم . رشيد خالد إدريس موسي الرياض / السعودية