الانفصالي يوظف ذاكرة خشنة.. يتهم المركز بإقصائه ويشارك في الجنازة..!! الانفصالي يعيش تيهاً في الهوية.. سببه ضباب مواقفه الاجتماعية وتنكره لبيئته..! سيصادف الانفصالي مشكلة الانتساب إلى اجتماعيين جدد .. وسيظل حبله السري معلقاً هنا..!! الانفصال أمره سهل، والوحدة بناءها كلف ثلاث ألف سنة ويصعب هدمه،!، فيا لسذاجة الطرح..!! إني أتهم..! [email protected] (كان "جمعة" بائع الفول بالقرب من مسكني ذكياً في صدق، سألته: ماذا يعني لك الانفصال؟، أجاب دون تردد: مشكلة!، سألته: ليه؟، قال: إن بيته صار مهدداً، تعجبت كيف؟، تنهد قليلاً ثم أردف: "بعد البلد ده ينقسم أمشي وين، بخلوني قاعد..؟، قلت له: ستظل موجود حتى لو حصل الانفصال!، أسرع بي قائلاً: "يعني ما بكون محتاج ورق، وأنا ما عندي قروش أطلع ليها ورق، أكل أولادي وأعلمهم ولا أطلع ورق!.. وطفرت دمعة من عينه!!)، مشهد من الحياة اليومية.. ... كذبة بحجم كوكب (أورانوس) ما يصوره العقل الانفصالي، متهماً الشمال بإضعاف الجنوب، أو الجنوب الذي أقعد الشمال بما دار من حروب هنا وهناك، ذلك أنه لم يتشكل بعد ما يمكن وصفه بالعقل السوداني اجتماعياً، لذا فإن الانفصالي شمالي/ جنوبي لا يملك وعياً جماعياً يمارس به انحيازاً سلبياً ضد أياً من عياله!، وكذلك قلنا إن الاتهام الموجه للجماعة الشمالية بممارسة تعالي عرقي ضد أخريات (وهم) كبير؛ وسذاجة ضاربة، واتهام الجنوب بأنه يكيد للإسلام والعروبة وتحركه أيدٍ خفية، فكرة طفولية، فلائحة الاتهام لا تزال بحاجة إلى أدلة جديدة، وتتحلى بالواقعية، حتى نرضى للعقل الانفصالي أن ينال امتيازه متصرفاً في توزيع المحنة من موجوع لآخر..! الانفصالي يعيش تيهاً في الهوية، سببه ضباب مواقفه الاجتماعية مع بيئته!، إن من يدعو إلى الانفصال شمالياً كان أو جنوبياً، يمارس فضيلة عدم الكفاح، فالانفصال أمره سهل، والوحدة بناءها يصعب هدمه، فقد كلف تشييدها ثلاث ألف سنة!، فيا لسذاجة طرح كهذا..، لكن ألا يحق لكل إنسان أن يعيش كما يرتضى!، هذا ممكن إذا كانت الدولة نفسها تعبر بصدق عن مجموع مكوناتها، وحقيقة لا علم لي بالسبب وراء تخلف المؤرخ السوداني عن تتبع الدرس الاجتماعي في بلادي، لتأتي نتائجنا مجافية لروح العصر، ونعجز عن تفسير أحداث حدثت وتحدث ولكن دون رقابة!، وهذا ما يهم المؤرخ؛ المؤرخ الذي يقوم دون تردد بمقابلة الذاكرة الفردية (الانفصالي)، والذاكرة الجماعية (الوحدويون)، المتداخلتين غالباً في الصراعات الإثنية، وبإمكان التاريخ، علاوة على ذلك، أن يجد فائدة في تفاصيل نظرية الانتساب، أي نسبة كل حدث إلى أصله، حتى لا يخرجن علينا أحد، ليقول بأسباب خروجه عن الجماعية، أن ظلماً حاق به وبني جلدته، وكأن الأمر مدبر، والفعل موجه، ذلك لأن الذاكرة في تجميعها لصور الماضي ليست دائماً محل ثقة، فالتاريخ نفسه هو حاصل جمع الممكنات، دع عنك تفاصيل الذاكرة.. والدعوة إلى الانفصال مجافية لأسس الديمقراطية، البقرة المقدسة عند دعاة التهميش، وعجبي كبير لمن ينادي بالتجزئة، والتفريط في خارطة السودان، واستبدالها بجسيم أو جسيمات جديدة، هذا وإن كتب له النجاح، فرغبته الانفصالية (وهم) سرعان ما سيتلاشى بعد ذهاب السكرة، فالانفصالي سيصادف هو الآخر، مشاكل الانتساب إلى فاعلين اجتماعيين جدد، جماعيين كانوا أو فرديين، وهنا لن يقدر على الانتساب من جديد دون أن يقطع حبله السري بجماعية عاشها بكل ما فيها.. لقد تسلطت عليه (الانفصالي) أفعال ذهنية غير مراقبة، وسيكون عسير عليه في ظل تعدد مسافاتنا المعرفية السودانية (بين شرق وغرب وشمال وجنوب، ويجمعهم وسط لم تتبناه بعد كل هذه الأركان)، أن يُؤَّمن لنفسه وجوداً موضوعياً يعبر حقيقة عن فرديته، إن علينا الميل بشكل طبيعي إلى الاهتمام بمضمون الأحداث، وحدث مثل انفصال السودان يظل محيراً في ظل حالة الصمت التي نشاهدها، فسنظل نركن للهامشي من التحليل، والذي بدوره يٌصعب عملية الفرز الإيجابي، ويطبع تصرفاتنا بالهوى، وبذا ستخرج مطالبنا مقطوعة عن أصلها. فما يطبع مجتمعنا السوداني هو تلك التعددية الثقافية، والتي أنتجت التفاعل المثمر والذي تجلى بين المجموعات المختلفة في ظل انفعال متسامح بل ومتشابك، فأدى بالفعل إلى تعايش مثمر، غاب فيه الصراع، فحاجتنا ماسة في فهم الاجتماع السوداني للتنويع الماهوي Variation Eidétique والذي بواسطته سنكف عن اعتبار أي وضعية ثقافية اجتماعية، مسار مفارق للذاكرة الجماعية، والذاكرة التي يحتفظ بها الانفصالي عمياء، كيف؟، ببساطة تتلخص مكوناتها عند ثنائية (هامش ومركز)، فعل ذلك ليدفع عن نفسه حرج القول الفصل فيما تعانيه ذاكرته من استلاب مؤسس، يا إخواني هامش من! ولمن، وبمن!، ومركز من! وعند من؟!، إذا كان الهامش يشكله سكان الأرياف، أو حتى أطراف المدن، فهؤلاء يملكون من أساليب الحياة ما يمنعهم عن إلحاف المركز بهم، وإن كان المركز (محل الرئيس بنوم والطيارة بتقوم)، فتلك ذكرى عرجاء، كانت تسيطر على أذهان المثقفين المتطلعين لتغيير جلدتهم المعرفية، لقد تركوا جذورهم في أريافهم، والتحقوا بالمركز، ليتهم فعلوا ذلك لرفعة مناطقهم، لقد استخدموا قياس الشاهد على الغائب، والغائب هنا: مناطقهم حيث جذورهم، والشاهد: ما وجدوه في المدن من عمران مختلف وثقافة مختلفة عن أصلهم وبيئتهم، فحاولوا أن يرتفعوا فجأة وبضربة لازب، ليساووا بين ما يحملون وما وجدوه، ونقول لهم، إن القياس؛ قياس الشاهد على الغائب، لا يعمل ولا يٌجوّز ولا ينتج حلاً، إلا إذا تم داخل أفراد من نوع واحد، فمن ينادي بدمقرطة الحياة السياسية في السودان على نمط الغرب، قل لي بالله عليك، كيف استقام لك أن تضع دولة نامية (وهو اسم ملطف لمتخلفة!) في محاذاة دولة أوروبية متطورة!، كيف؟. الانفصالي يستخدم قياس فاسد، لأن الاستدلال بالشاهد (الخرطوم) على الغائب (جوبا أو مريدي أو أي مكان)، منهجاً فاسداً، هذا لأنه يقيس أشياء على أشياء تختلف في النوع والموضوع، ولو كان هذا القياس فعالاً لصارت كل الأشياء محكومة بقانون واحد!، فهل هو على استعداد لتقبل النموذج الحضاري في شمال السودان، وكذلك في جنوبه بالنسبة للانفصالي الشمالي، فحديثي هنا ليس مقصوراً على دعاة الانفصال من الجنوب، بل والشمال كذلك، قلنا، هل يستطيع الانفصالي أن يقبل بكافة شروط النقلة العمرانية والطبيعة الاجتماعية الموجودة رضي بها أم أبى، ويجعلها جزءاً محمولاً إليه في مكانه الذي يجهزه لذلك؟!، أعني هل سيقبل الانفصاليون أن يعيشوا في عزلة داخلية مستخدمين مونولوج (دمو تقيل وبايخ) حوار الذات بالذات في الذات، والذي لا محالة سيخلق متاعب جمة أقلها ابتداع أوجه جديدة للصراع، إنه صراع أقسى، فأن تصطرع بذاتك مع ذاتك فهذا سبيلك للدمار.. واللغة التي يستخدمها دعاة الانفصال رسول المهمشين، تحتاج إلى تفكيك، فعلى أي قاموس يعتمد، لنرى: أولاً: رفع الظلم الصادر عن المركز؛ هذه دعوة لإحالة الحال (مظلوم) لطرف آخر (ظالم)، أي أنه يتبنى ذات الأصل الفلسفي طمعاً في التخلي عنه ك(مُهمش)، لصالح إلباسه طرف آخر تصفه ب(مٌهمِش)، يعني لا فرق بينك وجلاديك..!!، ثانياً: كسر حالة الإبعاد التي مورست عليك بواسطة ضغط اجتماعي من جنس (الترهيب)، وكسر الإبعاد يعبر عن حال نفسي أكثر منه وعي مدلل عليه واقعياً، فالإبعاد ليس جغرافياً، طالما أنك تتحرك بمطالبك من قاعدتك الجنسية والنفسية والسياسية أيضاً، والأصح تخفيف حدة الضغط وأيضاً الانتقال بها إلى طرف آخر..!، ثالثاً: (المُهَمش) شخص لا يجد مساحة كافية ليمارس دوره مع آخرين، هذا لأجل إصلاح أو إقرار بديل، ولذا وجب تدشين مرحلة للصلح، رابعاً: الاستعلاء: والذي يدرس وفق مظاهر التفوق الحضاري، وهو كذلك حال نفسي، فالاستعلاء يقابله الانكفاء، وطالما عدم الاعتراف بالوسطية في المعرفة قائم، سيظل منطق إما..وإما مسيطراً، ومن عوامله إيجاد المقابل اللغوي، دون دراسة أو توضيح.. والحق في الحديث عن نماذج للاستعلاء هنا والانكفاء هناك، فالقيم بطابعها تنتظم في مسيرة وعي كلي، فما يوصف بالعلو في الوسط يحمل قيم قد تندرج تحت الانطواء في الريف، فالكرم بإفراط ضد المدنية، وهو شعار الريف، الذي يصف المدينة، بأنها المكان الذي يباع فيه الطعام..فتأمل!!. الانفصالي يوظف ذاكرة خشنة، يتهم المركز بانتقاص حريته، ولذا يريد الانتقال بها لفضاء أرحب!، حسناً؛ السؤال هو: لماذا غاب عنه أن أي سلطة كيفما كانت، تنتج أدواتها على حساب الحرية الطبيعية! وهذا يعني أن التهم الموجهة للمركز وهمية، فالسلطة بطبيعتها تجرد الأفراد والجماعات إلا من قليل حريتهم الطبيعية، ولا يعود عليهم إلا بمساحة صغيرة للمشاركة فيما يمس تاريخ تراب الجدود، أو علامات لغوية بعينها يحتكرونها بسبب (عجمة) ناتجة عن حاجاتهم الاقتصادية، موظفة أحياناً وأحياناً خامدة، إن ما بحث عنه الانفصالي وعليه أن يفعل هو إنتاج سلطة ثقافية حضارية منضبطة في بلد كالسودان، ورغم أنها مهمة جد مرهقة، والسبب عدم وجود جماعات ثقافية قائمة بذاتها، بل يصح وصفها ب"الكتل الثقافية" وخاصيتها الفيزيائية والمنوط بها قياس كمية المعرفة التي تحتويها هذه الكتلة أو تلك، ولكن عليه (الانفصالي) أن يتفهم حاجاته بعيدة عن استلاف نموذج خارجي لا يشبه الداخل في شيء، فإذا فعل ذلك سيكف عن المطالبة بالانفصال وينادي بالعدل، والعدل هو "إنزال الناس منازلهم".. سيدي الانفصالي قل ما شئت، واتهم من شئت، ولكن لا تحملنا والأجيال القادمة أزماتك النفسية، فالسودان جنوبه وشماله شرقه وغربه، ليس ملكاً لك، حتى تحركك ضغائن، لا ذنب لأبناء المستقبل فيها، أرجوك احزم أمرك على تسمية الأحداث بأسمائها، تحرر من ذاكرة التجريم، إنها لو كانت تعجل بالحل، ما استقام لدولة كجنوب إفريقيا أن تتنازل طواعية عن تاريخ الكراهية وتستبدله بفلسفة الواقع المنتج، الواقع الذي لابد أن نعيشه، لأنه إذا شئت أن تتقلص، ينبغي لك أولاً أن تتمدد.. فما أغرب حكايتك..