كشفت الوثائق المنشورة حتى الآن فى موقع ويكيليكس والمعنية بأفريقيا تنوعاً لافتاً ما بين التعاون الأمنى والإستخبارتى والعسكرى ومدى تغول الولاياتالمتحدة فى مناطق شمال افريقيا وجنوب الصحراء ومنطقة البحيرات وحوض النيل ، وحظى السودان بنصيب منها زاد عن خمسة آلاف وثيقة ، وأبرز ما تؤكده هذه الوثائق هى كشفها المدى الذى حققته الولاياتالمتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 فى اختراق الأنظمة على مستوى القارة وتجنيد طاقات تللك الدول وقياداتها لمواجهة ما يسمى الإرهاب وتنظيم القاعدة فتحت هذا الستار وجدنا الأنظمة العربية والأفريقية تتسابق فى مرضاة السيد الأمريكى ولو بمخالفة القوانين الوطنية والدولية ودساتير تلك البلاد ، هذه هى النتيجة المعروفة والأبرز والتى أصبحت الآن موثقة رسمياً ولم تنفيها حكومة الولاياتالمتحدة. (1) أنقسم المحللون والمتابعون للوثائق و المواد المبثوثة من خلال موقع ويكيليكس إلى أربع فرق ؛ فريق يرى أنها تسريبات تمت رغماً عن الولاياتالمتحدةالأمريكية فهى بمثابة كنز ثمين ، وفريق يرى أنها عملية استخباراتية مقصودة ومحكمة فهى فخ له ما بعده ، وفريق ثالث يرى أنها عملية تصفية حسابات داخل الولاياتالمتحدة ، وفريق أخير يرى أنها وهم كبير وعملية نصب واحتيال ؛ وأياً كان أمرها فإن ما وفرته من معلومات حتى الآن هى بلا شك مفيدة ولكن لا يمكن وصفها بأنها معلومات صادمة للغاية بل إن المتداول فى أوساط المثقفين والمحللين العرب يجاوز من نشرته تلك الوثائق بمراحل فمعظمها إذاً معلومات معروفة ومتداولة ؛ فمن منا لا يعرف موقف الأنظمة العربية (المعتدلة) من البرنامج النووى الإيرانى ومن إيران نفسها ، ومن منا لا يعرف موقف تلك الأنظمة من حزب الله أو حركة حماس ومشروع المقاومة ، ومن منا لا يعرف أن قصف عناصر القاعدة ومواقعها فى اليمن تقوم به طائرات أمريكية ، ومن منا لا يعرف توارد الأسلحة إلى جنوب السودان بكميات كبيرة بعد نشأة كيان حكومة الجنوب وعن دور كينيا في إيصالها رغم النفى الرسمى المتكرر أو من منا لا يعرف دعم الخرطوم لجيش الرب اليوغندى على مدى سنوات ، أما حرص الولاياتالمتحدة على عدم وصول أى أسلحة للحكومة السودانية فمعروف ولا يحتاج لدليل فهكذا تصرفت الولاياتالمتحدة طيلة العقدين الماضيين ولم تنقطع مخططاتها ضد السودان خاصة بعدوصول الإسلاميين للسلطة بانقلاب 89، ومعروف ( ايضاً ) قصف طائرات اسرائيلية لقافلة بشمال بورتسودان فى يناير 2009 وكان قد أشار إليها أيهود ألمرت رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق بكلام مستتر فى 26 مارس بعد يوم واحد من كشف الإعلام الغربى (شبكة سى بى أس الأمريكية) عن العملية وكذلك يدعوت احرنوت الإسرائيلية وكان ما كشفته ايضا ويكيليكس من تحذير واشنطون للسودان من السماح بنقل أسلحة إيرانية إلى حركة حماس. نعم احتوت مراسلات الخارجية الأمريكية على مفاجآت وربما ما لم يكشف عنه بعد يحتوى على أكثر من مفاجأة مما لا نعرفه أونتصوره أو ربما تأتينا مفاجآت من العيار الثقيل، لذا فالانتظار أولى من الأنسياق فى تعظيم شأنها أو تهوينه. (2) ما اتضح جلياً و يتضح تدريجياً ما بين سطور المكشوف حتى حينه من تلك الوثائق أو من مجرد الإستقراء المنطقى أننا مقبلون على مرحلة خطرة فى تاريخنا ، ستشهد بلادنا تحديات تهدد بقاء الأمة السودانية ذاتها والدولة السودانية فى هيكلها وجغرافيتها ونحن الآن مقبلون على انفصال دولة جنوب السودان لا يبدو ابداً أننا سنكون بصدد دولة جارة وصديقة ليس ذلك فحسب بل نجد أنفسنا بصدد محيط إقليمى فى منطقة البحيرات مشكوك فى طبيعة علاقته المستقبلية معنا ومع جارتنا الوليدة ؛ فالأدوار الخفية التى لعبتها كينيا ويوغندا فى الماضى القريب والحاضر المعاش لا يبشر بمستقبل للعلاقات يقوم على المصالح المشتركة والندية والجيرة القائمة على الإحترام المتبادل ، وما كشفته ويكيليكس بشأن الأسلحة التى كانت تمر عبر كينيا لجنوب السودان خلال السنوات الأخيرة ما هى إلا تأكيد -لما هو معروف بالأساس للخرطوم- لدور غير نزيه لنيروبى فى السودان والمنطقة . فالحركة الشعبية التى تكدس السلاح للدولة الجديدة وكينيا التى تساعدها بلا هوادة ويوغندا المتهمة حالياً – و رسمياً- من قبل الخرطوم بتصرفات وصفتها بأنها عدائية كل ذلك لا يدعو للتفاؤل بشأن علاقات السودان بتلك الدول بعد الإنفصال فى ظل علاقاتها الخاصة بواشنطن التى توفر لها المكافآت والجوائز – كصدور قانون أمريكى بمحاربة جيش الرب اليوغندى مايو 2010 ووعود أمريكية قبل أسبوعين بالمساعدة فى ذلك- على أدوار مرسومة لها تؤديها فى الإقليم منذ سنوات ليست بالقليلة ؛ وهل مقتل جون غارنغ كان بمنأى عن إعادة تخطيط الأدوار بالمنطقة ؟ وهل مبادرة الإيغاد كانت فعلاً نزيهة فى سعيها لإحلال السلام بالسودان ؟ ما هى أسرار ما دار فى مشاكوس منذ بدايتها و حتى تجلياتها فى نيفاشا؟ نحن بحاجة إلى ويكيليكس سودانية تكشف كواليس الساسة والسياسة (فى الداخل والخارج) فى الحقبة التى شهدت تقسيم البلاد ، فالكثير من دقائق هذه المرحلة الحرجة والدقيقة من تاريخ السودان المعاصر مازال خافياً و يحتاج لكشفه وفهمه وتحليله. فإذا ما أكملنا صورة هذا المشهد بما يجرى على صعيد دارفور سواء مباحثات السلام بالدوحة أو مباحثات الحرب فى جوبا (استقبال قادة فصائل دارفورية فى كنف الحركة الشعبية بالجنوب) والتطورات على الصعيد الميدانى فإن المشهد يقودنا لإعادة تركيب الصور لفهمها من جديد على نحو صحيح (3) لايخفى على أى متابع عزم الولاياتالمتحدة على التواجد على الأراضى الأفريقية منذ فترة زمنية وإنشاء قيادة عسكرية أمريكية خاصة بأفريقيا – القارة الغنية بالنفط واليورانيوم - ويرجع ذلك لعام 2003 إن لم يكن قبلها خاصة مع تنامى نفوذ التنظيمات الموالية للقاعدة فى شمال افريقيا وجنوب الصحراء فضلاً عن الصومال التى ترى فيها الولاياتالمتحدة أرضاً لتنظيم القاعدة ومنطقة القرن الأفريقى (المجابهة لليمن) والتى تمثل أهمية استراتيجية للولايات المتحدة – حتى وفق قائمة ويكيليكس - ولم تكن المناورات المشتركة و الإتفاقيات الأمنية و التسهيلات التى تحصل عليها فى الموانئ والمطارات الإفريقية وقاعدة جيبوتى وقاعدة ساوتومى وبرنسيب وتواجد عسكرى مكثف فى يوغندا إلا مقدمة لوجود عسكرى دائم وإنشاء قيادة عسكرية سادسة أطلقوا عليها اسم أفريكوم والتى صدر قرار إنشائها عام 2007 وانطلقت بميزانية خاصة فى أكتوبر 2008 واتخذت مقراً مؤقتا فى إشتوتغارت بألمانيا وتغطى هذه القيادة الأفريقية كاملة باستثناء مصر التى قرروا أنها ستظل تحت القيادة المركزية ، قامت الولاياتالمتحدة بتنظيم تدريبات عسكرية مشتركة ضمت يوغندا وروندا وبوروندى ، كما أن لديها اتفاقات مع كينيا يسمح بموجبها انطلاق القوات الأمريكية من أراضيها حيث يوجد بكينيا مالا يقل عن 850 عنصرا من المارينز إضافة لعناصر سى أى أيه وحتى ال أف بى أى وكانت الكاميرون والغابون وغينيا الإستوائية هى الأخرى لحقت بركب التسيق الأمنى والعسكرى مع الولاياتالمتحدة وتدرس الولاياتالمتحدة خيارات إقامة قواعد جوية فى كل من بنين وساحل العاج ونيجيريا - نيجيريا التى كشفت الوثائق مدى تغلل شركة شل فى حكومتها -فضلاً أن غانا والستغال وساحل العاج وزامبيا وقعت اتفاقيات أمنية سابقاً مع الولاياتالمتحدة ، كما تم إنشاء مطار بليبيريا ومحطة إلتقاط واسعة خاصة بالسى أى أيه تغطى القارة بإكملها. وفرغت الولاياتالمتحدة من إنشاء سفارة هى الأضخم بالقارة فى الخرطوم وتقوم بإنشاء سفارات فى مناطق مختلفة من القارة وفق قواعد بناء غاية الغرابة والتعقيد. فلو سعينا لتفسير التصرفات الأمريكية مع السودان وعلى الساحة الأفريقية عامة فإن مواجهة توسعات ما يسمى الإرهاب أو حماية حقوق الإنسان لهى مزاعم واهية أما الحد من التوسع الصينى الكبير والمتنامى والسيطرة وتأمين مناطق البترول والمعادن الإستراتيجية لهى الدوافع الحقيقة وراء هذا التوسع الذى ترى فيه الولاياتالمتحدة وريثاً شرعياً للمستعمر الفرنسى والإنجليزى السابق . (4) لا مفر أمام حكومة السودان – بعدما أصبح الإنفصال أمراً حتمياً- من أن تساوم صانعوا القرار فى الولاياتالمتحدةالأمريكية لتنال أكبر مكاسب ممكنة فى ملفات أبيي وفق تسوية سياسية باتت الولاياتالمتحدة تقبل بها أو هكذا تبدو –الآن- وملفات الديون والحظر الإقتصادى والحصول على مكافآت مجزية على المستوى السياسى والإقتصادى والتقنى ، و كذلك ملف دارفور والفوز بتسوية شاملة تفرضها الإرادة الوطنية واغلاق ملف الجنائية الدولية وليس تعليقه – ذلك رغم أن الولاياتالمتحدة لن ترضخ لمحاولة إحلال السلام بدارفور - و أن يكون خيار الحرب مطروحاً والتدخل العسكرى لحسم قضية الحركات المتمردة بدارفور وفرض تواجد القوات المسلحة لإحلال الأمن ، لأنه لا يجب أن يسلم الجنوب هكذا على طبق من ذهب وبلا ثمن أو فاتورة تدفعها الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولى. لأن البديل هو الأسوأ إنه استمرار تفتيت الدولة السودانية من خلال حروب أهلية وإنتشار الفوضى وأسقاط النظام فى نهاية المطاف. 10-12-2010