كثير من السياسيين في السودان كان يراهن على تصويت المواطنين الجنوبيين القاطنين في ولايات السودان الشمالية ومشاركتهم الكبيرة في الإستفتاء لترجيح كفة الوحدة وبقاء السودان دولة واحدة، منذ لحظة القبول بالحديث حول حق تقرير المصير في النقاش العام أولاَ ، ثم القبول بإدراجه ضمن المفاوضات التي افضت إلى اتفاقية السلام الشامل. ويبدو أن هؤلاء السياسيين لم يضعوا في حسبانهم تدخل عوامل وظروف أخرى تحول دون الإستفادة من التواجد الجنوبي في الشمال. وربما كان غائباَ عن قراءاتهم للمستقبل وتصوراتهم أن تتحول الحركة الشعبية من مناصر شريك في جعل الوحدة خياراَ جذاباَ إلى خصم يجعل خيار الإنفصال اكثر جاذبية. ويبدو أن الشائعات، بغض النظر عن مروجيها، كان لها أثرا فعالاَ في منع السواد الأعظم من الجنوبيين في الشمال من التسجيل للإستفتاء. فقد ساد بينهم أن الكشف عن هويتهم من خلال تسجيل الأسماء والعناوين يجعلهم هدفاَ سهلاَ للإبعاد إلى الجنوب في حالة انفصاله، فابتعدوا عن الإستفتاء وبدأ الحلم بإمكانية ترجيح كفة الوحدة أو التعادل مع الأصوات الداعية للإنفصال في التلاشي شيئاَ فشيئا، وبات لزاماَ على السياسيين في الشمال أن يستعدوا لمجابهة تحديات واشكالات انفصال الجنوب وأن يعيدوا حساباتهم ويجددوا تصوراتهم مبكراَ (ود البدري سمين) حتى لا تأخذهم المشاكل في حين غرة. ولعل من حسن الحظ أن المشاكل والتحديات الكبيرة واضحة ومحددة وهي مشكلة الجنسية وشكل العلاقة وترسيم الحدود. وبالنسبة لمشكلة الجنسية فهناك في رأيي خيارين، وهما خيار الجنسية المطلقة وخيار الجنسية المحددة. والمقصود بالخيار الأول هو عدم تحديد جنسية الجنوبيين وترك الوضع كما هو . وهذا يعني أن أي جنوبي سواء كان في الشمال أو الجنوب سيظل سودانياَ، حتى ولو اصدرت الدولة الوليدة في الجنوب بعد انفصاله، قانوناَ يحدد جنسية رعاياها. وينسحب على هذا حق أي جنوبي في أن يدخل السودان ويقيم فيه ويتمتع بالحقوق المكفولة لمواطنيه وتنطبق عليه الواجبات المفروضة عليهم والأنظمة القانونية السارية عليهم، تماماَ كما حدث في المانياالغربية بالنسبة لرعايا المانيا الديمقراطية . ومن عيوب هذا الخيار أنه يؤدي إلى فرضية عدم الإعتراف ولو شكلياَ بالنتيجة المتمخضة عن الإستفتاء في حالة التصويت لصالح الإنفصال. كما أنه يخلق اشكالية إزدواجية الولاء للدولتين فضلاَ عما يقود إليه من فوضى فيما يتعلق بالرقابة على دخول الأجانب المقيمين اقامة شرعية أو غير شرعية في اقاليم دولة الجنوب وبالتحديد من الدول الأفريقية المجاورة لها. وأما الخيار الثاني وهو خيار عمّلي ويتمثل في تقسيم الجنوبيين المتواجدين في الشمال إلى فئآت على النحو التالي: • اولئك الذين يتبؤون مناصب قيادية والعاملين في الأجهزة السيادية بالدولة مثل الأمانة العامة لمجلس الوزراء والقصر الجمهوري وأجهزة الأمن والجيش أو ذوي المناصب الفنية ذات الأهمية الإستراتيجية كالمهندسين والأطباء واصحاب الأعمال التجارية الكبيرة ( وتحدد مالياَ) وهؤلاء يحتفظون بجنسية السودان، إلا في حالة الاستقالة عن المنصب خلال فترة معينة تحدد بقانون أو مرسوم أو في حالة الرغبة في الإنضمام إلى جنوب السودان عند انفصاله واختيار جنسيته، (وهو خيار عملت به هولندا في سبعينيات القرن الماضي عند استقلال مستعمرتها سورينام الواقعة في اميركا اللاتينية). • اصحاب الأعمال التجارية المتوسطة والصغيرة في مختلف القطاعات بما في ذلك تجار القطاعي (ويحدد ذلك مالياّ سواء كان المال منقولاَ أو عقارا) وهؤلاء يتم تخييرهم بين الحصول على أذونات الإقامة الدائمة وتتم في هذه الحالة معاملتهم معاملة رعايا الدول الأجنبية بحيث يمكن التقدم للحصول على الجنسية والتجنس بجنسية السودان في حالة استيفاء الشروط المطلوبة، أو قيامهم بتسوية اعمالهم أوتصفيتها خلال فترة محددة ومغادرة السودان . • الجنوبيون المتزوجون برعايا السودان أو المولودون من أم أو أب من السودان بإمكانهم الإحتفاظ بجنسيتهم السودانية إلا إذا إختاروا خلاف ذلك. • اولئك الذين لا تنطبق عليهم اوصاف الفئآت السابق ذكرها ، فهؤلاء بتم تخييرهم بين المغادرة خلال فترة معقولة ، أو التقدم للحصول على اذونات الإقامة. مشكلة أبيي: لعل الحل العملي والأمثل هو تقسيم المنطقة بين الشمال والجنوب تقسيماً عادلاَ تتم فيه مراعاة حقوق الرعي بين الجانبين بموجب اتفاقية تحدد مسارات الرعي وسبل تسوية المشاكل التي قد تطرأ والأليات المنوطة بذلك ، وأن يتم ترسيم الحدود ووضع العلامات عليها واقامة نقاط المراقبة خاصة في مناطق التماس لمحاربة التهريب ولتفادي أية احتكاكات قد تؤدي إلى نشوب نزاع . شكل العلاقة: يتم تنظيم العلاقة بين السودان وجنوب السودان في حالة انفصاله من الناحية الإقتصادية باتفاقيات وبروتوكولات وأن يكون هناك تنسيق وتعاون تجاري بينهما وأن لا يبخل السودان بما لديه من خبرات في مساعدة الجنوبيين في بناء دولتهم ( وبروح رياضية) وأن تتنافس شركات القطاعين الخاص والعام السودانية مع الشركات الأجنبية في تنفيذ المشاريع هناك، وأن تعمل حكومة السودان على الحصول على معاملة خاصة لشركاتها مقابل منح الجنوب معاملة اقتصادية مماثلة. فضلاًَ عن اتاحة الفرصة للعمال الجنوبيين بالعمل في السودان بموجب عقود عمل عابرة للحدود. ومن الناحية الأمنية يتعين ايضاَ ابرام اتفاقية لتبادل المجرمين والإمتناع عن تقديم المساعدة أياَ كانت عسكرية أم سياسية لأية مجموعة أو جهة تحمل السلاح أو فرد يحمل السلاح لمحاربة الطرف الآخر. وعند دخول مثل هذه الجماعات أو الأفراد اقليم الطرف الآخر يجب تجريدها من سلاحها ومصادرته وإيواء عناصرها في معسكرات خاصة بعيدة عن الحدود ومعاملتهم معاملة لاجئين . وفيما يتعلق بالعلاقات الدبلوماسية يتم تبادل فتح قنصلية أو أكثر لرعاية المصالح المتبادلة .