يحكي أن الشاعر الراحل علي عبدالقيوم في السبعينات المنقرضة سافر لدراسة الاخراج السينمائي في وارسو حاضرة بولندا ، فأسكنوه في المدينة الجامعية مع طالب أفغاني يدرس لنيل الدكتوراة ، فطفق الأفغاني المغرور بدكترته و ب "جلده أو بشرته" يؤنس زميل غرفته الطارئ بأنه "نعم" من أفغانستان ، التي لم يكن يعرفها أحد في ذلك الزمان ، ولكنه كغالبية الأفغان تعود أصوله البعيدة الي الجنس الآري ، أي نفس جنس الألمان و الاسكندنافيين والأنجلو-سكسون الذين يهيمنون علي عالمنا الحاضر منذ قرون . يُقال أن شاعرنا تفرس في سحنة الأفغاني الجهبذ وتمعّن ما شاء له التمعن ولم يقتنع بحكاية الجنس الآري "الساكن براري أفغانستان" و رد عليه قائلا وكأنه يلقي عليه محاضرة: "مشكلتنا نحن السودانيين إننا لا نعترف لأحد بتفوقه علينا سوى الاميركان و الروس والانجليز والفرنسيين والألمان واليابانيين". وزاد الشاعر دكتور غرفته "الآري" من الشِعر حبتين مضيفا "نحن في السودان مستعدين نخت أصبعنا في عين أتخن واحد ، مش لو كان آري ، حتي لو كان بللوري" ويقال أن الدكتور الأفغاني بلع ريقه بعد ذلك بصعوبة و لم يعد للحديث مع هذا السوداني – القادم من مجاهل أفريقيا - و الذي قلب عليه الطاولة في أول تماس له مع قوم آخرين. شاعرنا الفحل كان يعبر عن شعور جمعي اتسمت به نوارة ذلك الزمان القصير الذي امتد منذ منتصف الخمسينات وحتي أواخر السبعينات من القرن العشرين . ولم تدر تلك النوارة المعتبرة والمثقفة "ثقافة جد" سليلة عهود السودنة الأولي أن الزمان سيجور بها و تتحول أفغانستان وقوانين طالبانها التي طبقها الملا عمر الي أشواق و أحلام طائفة من السودانيين وتصبح ، أي أفغانستان ، صورة مشابهة إن لم تكن مطابقة للسودان الذي ضاعت نوارته و نخبته المستنيرة ، فقد طاف الفيديو الأخير للفتاة المسكينة العالم أجمعه ، مثلما طافت صورة البنت الأفغانية التي جدع أنفها و قطع أذنها أحد أعضاء حزب طالبان (عدد مجلة التايم في يوليو 2010) ، و شاهده واستنكره ليس السودانيون فحسب ، كما اعتقد الفيلد مارشال عمر ، بل كل ابن آدم من مشاهدي تلفزيونات و يوتيوبات العالم بعربها وعجمها وآرييها ولاتينها وسلافها وافارقتها و صينييها و شرق آسيويها وهنودها ، ماعدا جماعة طالبان طبعا والذين قاموا بأنفسهم بشنق ، أي نعم بشنق لو تذكرون ، جهاز تلفزيون لعينا بعد يوم أو يومين من اجتياحهم للعاصمة كابول في تسعينات القرن المنصرم. وكانت المفارقة مؤلمة أيضا للنوارة التي كانت سعيدة يوما ، أن بيل كلينتون ساوي فيما بعد بين عاصمتهم التي كان يؤمها الفطاحلة يوما وبين طالبان ذاتها التي يؤمها الملا عمر حين أمر بضرب معسكر الشيخ الجليل أسامة بن لادن ببوادي جلال أباد و معسكر دار الشفاء في نفس التو واللحظة في أغسطس 1998. و للذي لا يعلم أو لا يدري أنه لا يدري أن جل الصحف المحترمة في العالم من نيو يورك تايمز غربا الي أساهي شيمبون اليابانية شرقا تطرقت لموضوع الفتاة التي جلدها قضاء السودان و عسسه ، مقالات و صورة فيديو ، مرورا بالصحف الألمانية و نديدتها الأعرق والأطول باعاً ، أقصد الصحف الانجليزية ، التي أفردت فيها صحيفة الغارديان مقالا لفتاة بريطانية من أصول سودانية و مولودة في السودان ، "نسرين مالك" (عدد السبت 11 ديسمبر 2010) و التي نعرف أن آباءها هم من صفوة نوارة الستينات التي تحدثنا عنها . كتبت نسرين تشرح ليس للانجليز فقط بل ولقارئي الانجليزية في أصقاع الأرض قاطبة ، و ما أكثرهم ، "إن قانون النظام العام المطبق بعشوائية والمكروه من قبل السودانيين هو جزء من محاولات الحكومة لتثبيت سلطتها وأن ضحايا عقوبة الجلد هن في الغالب الأعم من النساء المحرومات وأن الضحية لن يجرؤ أحد علي جلدها أمام الملأ إذا كانت من طبقة ميسورة أو لأهلها روابط و صلات (عائلية أو قبلية) تحول دون تعرضها لذلك التعذيب الهمجي". ذكر لي محدثي الذي حكي لي حكاية شاعرنا الراحل ، أن الطلاب السودانيين في أوروبا في ذلك الزمن لم يكن يعجبهم العجب و لا الصيام في رجب . بل كانوا يعدون أنفسهم أحسن من العرب جميعا شكلا و موضوعا ، وأكثر جاذبية منهم ( بالنسبة الي الجنس اللطيف الأوروبي)، أما بالنسبة الي الموضوع فكانوا يعتبرون أنفسهم قراء درجة أولي يقرؤون الفلسفة التي جعلت أوروبا هي ما هي عليه اليوم ، يعرفون ديكارت و سبينوزا و كانت و هيغل و ماركس و نيتشة ، بل تجدهم يتحدثون في ندواتهم و أنسهم عن أرنست فيشر و نظريته في علم الجمال و هربرت ماركوس و مدرسة فرانكفورت الجديدة . هذا كان حال السودانيين مع العرب و حتي مع الأفارقة وغيرهم من طلاب و شعوب العالم الثالث ، بل و ذكر محدثي أنهم كانوا في قرارة أنفسهم يحسون بأنهم لا تفصلهم عن العالم الأول سوي سنين قليلة بمكن تجازوها بالجهد والمثابرة بسبب اعتدادهم بمناهجهم التعليمية التي صممها المستر غرفيث والمعلم الأول عبدالرحمن علي طه في بخت الرضا. من المؤكد أن السودانيين الأصلاء يحسون اليوم بالخجل والعالم يقارن أفعال وأفكار و شرائع دولتهم بإمارة طالبان ومن المؤكد أن الفيلد مارشال الأفريقي و جماعته يعلمون أنه بعد "غزوة" 11 سبتمبر 2001 لم يعد العالم كما كان قبلها . لم تعد معركة الفيلد مارشال القادمة مع السودانيين من الشمال والغرب والشرق فحسب ، بعد أن خسر معركته مع الجنوب ، بل مع العالم المتحضر بأسره، وأنه سيدخل مرة أخري في عش الدبابير ، وقد لا يخرج منه ، كما يتمني كثير جدا من السودانيين ، سوي من حفرة ليقوم ضابط من المارينز بتوجيه لمبة حمراء الي فمه ليتأكد من خلوه من الفطريات. بقلم: حسن وداعة مدينة توبنغن ، المانيا