في طفولة المرحلة الابتدائية .. كان طريقي لمدرستي يمر بالمدرسة العربية بالري المصري بالشجرة.. ولطالما فُتنتُ بالعزف المؤثر للنشيد القومي المصري عبر مكبرات صوت مدرستهم وهو يردد (بلادي بلادي بلاااادي.. لكي حبي وفؤادي .. مصر يا أم البلاد). وإذا ما اقترن ذلك بالورد اليومي من المسلسل المصري الذي تحضره كل الأسرة والذي لا أذكر أن هناك حدثاً حرمنا منه غير اغتيال الرئيس المصري السادات.. إذا اقترنت الأحداث.. يكون من المنطقي قراءة التشكيل الوجداني الداخلي لذلك الفتى السوداني الذي أحب مصر.. ولم يجد في مدرسته من رجل رشيد ليشرح له معاني كلمات نشيد السودان الوطني والذي كان يردده كل يوم في طابور الصباح بقوله (نشتري النجدة.. بأغلى ثمن!).. ولم يكن في خاطر الفتى غير عربة شرطة النجدة ويتساءل.. (وماذا نفعل بشراء النجدة يا رب)؟!. حسناً.. فمن بين سنوات عمري (الكم وثلاثين)، لم أنتبه من قبل للأثر المدمر الذي خلّفه اقتران عيدنا القومي.. عيد الاستقلال.. اقترانه بمناسبتين بعيدتين عنه كل البعد وكلتاهما أضواء وصخب، هما رأس السنة الميلادية، وعيد الكريسماس لدى طائفة الكاثوليك النصرانية. إذ (عشعش) ذلك الخاطر في داخلي منذ أمسية الثلاثين من ديسمبر هذا العام، ثم إني انتبهت وبدأت ألاحظ. انتبهت لشعور الناس.. ودواخلهم.. تعبيراتهم.. أحاسيسهم تجاه هذه المناسبة.. وقد كانت النتيجة واقعية تماماً مقابل ما نشتكي منه من ضعف في الشعور القومي والشعبي نحو الوطن (الوطنية). معظم الناس تعرف بأن اليوم سيكون عطلة بمناسبة عيد الاستقلال..ومعظم ذلك المعظم تجري ترتيباته وحساباته لكيفية الاحتفال برأس السنة وتبادل التهاني بمناسبة حلول العام الجديد. وحده خاطر بعض المؤسسات الرسمية هو الذي أبى إلا وأن يحتفل بالمناسبة بتزيين جدران المؤسسات بالزينة الكهربائية.,. والتي لولا وجود علم السودان بجانبها لظنها القوم مشاركة من الحكومة لهم احتفالهم برأس سنتهم كما تفعل النوادي والمقاهي في تلك الليلة. ثم إن ذلك الأمر أرجعني لتساؤل قديم جديد في ذهني عن الاحتفال السنوي غير الرسمي الذي تقيمه الدولة بمناسبة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19/12/1955. ومن المشهور أنه في العام 1954 تم التوصل مع إدارة الحكم الثنائي الانجليزي المصري لاتفاقية تم الاعتراف فيها بحق تقرير المصير للسودان، ثم أجريت أول انتخابات عامة في السودان في العام 1954 فاز فيها الحزب الاتحادي الديمقراطي المتحالف مع طائفة الختمية والمدعوم من مصر بأغلبية في البرلمان واختير إسماعيل الأزهري كرئيس لوزراء السودان. وفي يوم الاثنين 19 ديسمبر 1955 صوت البرلمان بالإجماع لصالح استقلال السودان. فعيدنا إذاً في 19 ديسمبر، فما الذي أجّله ليجعل الاحتفال الشكلي بإنزال العلم المصري والانجليزي ورفع العلم السوداني يوم الأحد 1/1/1956 هو العيد الرسمي بدلاً عن الاثنين 19 ديسمبر 1955 ؟!. ولماذا تم اختيار يوم الأحد 1/1/1956 بالذات بدلاً عن أي يوم آخر والذي من المؤكد أنه سيكون محفوراً في الضمير ولا يحتاج لمناسبة لتذكرنا به، فلا أحد منا بكل تأكيد ينسى تاريخ مولده. يفقد البلد كثيراً من شعوره الوطني لدى بنيه يوم أن تمر مناسبة استقلاله كل عام لتجد ثمرة بنيه من الشباب غارقون في النوم بعد سهرة طويلة لعوب احتفالاً بسنة مضت وأخرى أشرقت لا نصيب للوطن في دواخلهم منها من شيء. يغيب الإحساس بالوطن في الملمات يوم أن تكون أعلام الهلال والمريخ تملأ الأسواق والشوارع دعماً من أنصار الناديين لفريقهم وتبحث عن علم واحد للوطن في أيدي شبابه يوم عيده، فلا تجد غير البيض والألعاب النارية. لك الله أيها السودان الحبيب.. وسنشتري لك المجد بأغلى ثمن.. بأرواحنا .. فقط نحتاج حذيفة بن اليمان حتى تتمايز الصفوف.