سلطة الطيران المدني تصدر بيانا حول قرار الامارات بإيقاف رحلات الطيران السودانية    القائد العام يشرف اجتماع اللجنة العليا للطوارئ وإدارة الأزمات بولاية الخرطوم – يتفقد وزارة الداخلية والمتحف القومي    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    لماذا اختار الأميركيون هيروشيما بالذات بعد قرار قصف اليابان؟    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    تشكيل لجنة تسيير لهيئة البراعم والناشئين بالدامر    هل تدخل مصر دائرة الحياد..!!    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    بدء برنامج العودة الطوعية للسودانيين من جدة في الخامس عشر من اغسطس القادم    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    "واتساب" تحظر 7 ملايين حساب مُصممة للاحتيال    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    كلية الارباع لمهارات كرة القدم تنظم مهرجانا تودع فيه لاعب تقي الاسبق عثمان امبده    بيان من لجنة الانتخابات بنادي المريخ    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    شاهد بالصورة.. بعد أن أعلنت في وقت سابق رفضها فكرة الزواج والإرتباط بأي رجل.. الناشطة السودانية وئام شوقي تفاجئ الجميع وتحتفل بخطبتها    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في مستقبل السودان السياسي عقب الإستفتاء/الإنفصال 1-2 .. بقلم: د. أمين مكي مدني
نشر في سودانيل يوم 08 - 01 - 2011

* الدعوة لإسقاط الجنسية عن جنوبيي الشمال حال الانفصال لا يسندها منطق ولا أخلاق ولا قانون!
* هذا شبيه بتصفية هتلر للألمان من غير ذوي الأصول الآرية .. وطرد عيدي أمين لمواطنيه الآسيويين من أوغندا!
* إرتضينا تقرير المصير بموجب نيفاشا فعلينا احترامه وإجراؤه فى موعده وقبول نتائجه أيا كانت!
* بعض وزراء الإنقاذ يتمتعون بازدواجية الجنسية التي يبيحها القانون السوداني لكنهم انقلبوا ينكرونها على جنوبيي الشمال!
مر السودان، منذ استقلاله، وخلال مختلف الحقب المدنية والعسكرية، بتجارب دستورية وسياسية عديدة تفاوتت إبانها درجات الضراوة التي اتسمت بها الأزمات المختلفة، والتي غالباً ما أفضت إلى نزاعات مسلحة، بسبب أساسي هو تهميش المركز للأطراف المأهولة بمواطني الهامش من غير المستعربين أو المسلمين في جنوب وغرب البلاد، على وجه الخصوص. فقد تنامى لدى هؤلاء، عبر أزمنة طويلة، إحساس عميق بالغبن، وضعف الثقة في جدوى الوحدة، إما جراء تدني مستويات التنمية في مناطقهم، سواء في البني التحتية، أو الخدمات الضرورية من صحة وتعليم وسكن وبيئة، وما إلى ذلك، أو جراء تحجيم مشاركتهم في مركز السلطة والثروة الذي سيطر عليه المفاخرون بعروبتهم وإسلامهم وتباهيهم على المهمشين بالعرق، والدين، والثقافة، واللغة، وغيرها. وهكذا بقي أهل الهامش بمنأى عن مركز صنع القرار السياسي، عبر الحقب المختلفة، برغم العديد من مسميات الحكم اللامركزي، والأقليمي، والتنمية المتوازنة، وعدالة توزيع وانتقال السلطات، وما إلى ذلك من شعارات ظلت تطرح في المستوى الشكلي باستمرار، فلم تغير من جوهر تمركز السلطة والثروة، بالأساس، في العاصمة وأقاليم الوسط، مما أورث بلادنا هذه الأزمة المزمنة.
بقي هذا الحال على ما هو عليه في ظل عدم استقرار النظم الديمقراطية التعددية البرلمانية، وهيمنة العسكريتاريا على السلطة، خلال فترات حكمها الثلاث (نوفمبر 1958م أكتوبر 1964م)، (مايو 1969م أبريل 1985م)، (يونيو 1989م وإلى الآن)، أي طوال ما يقرب من خمسة وأربعين عاماً من عمر الاستقلال الذى يبلغ اليوم خمسة وخمسين سنة. ولربما يصدق، إلى حد كبير، القول، دون أي تهويل، بأن ذلك هو السبب الأساسي في ما عانت بلادنا، وما تزال تعاني، من محن. فالنظم العسكرية تسعى، أول ما تسعى، إلى تكريس السلطة كاملة فى يد الطغمة الحاكمة، من منظور وهمي فحواه أنها وحدها، كقوى نظامية، ودون غيرها، هي الأكثر انضباطاً، والتزاماً، وحرصاً على أمن وسلامة البلاد، والأقدر، من ثم، على إدارة شؤونها، وإنجاز التنمية والاستقرار، وأن القوى السياسية التعددية الديمقراطية تفتقر إلى الكفاءة على هذا الصعيد، بسبب تشرذمها، وخلافاتها، وإضاعتها الوقت فى الحوار، والجدل البيزنطي، فضلاً عن تسلط الطائفية، والعشائرية، وتعدد الأحزاب السياسية، والمنابر النقابية، والإخفاق، بالتالي، فى تحقيق أولويات إحتياجات الوطن والمواطن.
ظلت تلك، دائماً، هي مبررات الانقلابات العسكرية، ومنطلقات النظم الاستبدادية التي تنشئها، حيث تعمد، أول ما تعمد، إلى تعليق الدستور، وحل مؤسساته، ومصادرة الحريات العامة، وإلغاء إستقلال القضاء، وإحكام القبضة الأمنية بقوانين الطوارىء، وما يسمى بأمن الدولة، وممارسة الفصل التعسفي، والاعتقال الإداري، والتعذيب، والاعدامات عن طريق المحاكم الخاصة لمن يصنفون فى مصاف المعارضة، بل العمالة والخيانة الوطنية، وتفشي الفوضى والفساد!
لسنا هنا فى مجال الخوض فى تفاصيل تلك الممارسات، لكن يهمنا، على صعيد التصدى لمعالجة أمر النزاعات المسلحة التى عمت معظم إنحاء البلاد للأسباب الآنف ذكرها، أن نشير إلى اتفاقيتين اضطر نظامان شموليان، اضطراراً، لإبرامهما: الأولى اتفاقية أديس أبابا التي أبرمها نظام مايو مع متمردي أنيانيا الأولى، عام 1972م، ومثلت، عموماً، أول مسعى جاد للوصول إلى تسوية سلمية لأزمة جنوب السودان. ولئن لم تضع تلك الإتفاقية حلاً شاملاً لتلك الأزمة، فقد وضعت، على الأقل، اللبنات الأولي باتجاه هذا الحل، وذلك بوضع إدارة الجنوب، إلى حد كبير، فى أيدى أبنائه. غير أن ذات النظام المايوي الذى أبرم الإتفاقية، عاد بعد عقد من الزمان، ولأسباب تخصه وحده بأكثر مما تخص الإقليم الجنوبي، للنكوص عن الإتفاقية، بل إلغائها، لتعود السيطرة على الأقليم، كرة أخرى، إلى معسكر القصر الجمهوري!
بهذا تكونت الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق، واندلعت الحرب، مجدداً، لتستمر، منذ ذلك الحين، ولما يزيد عن العشرين عاماً كلفت البلاد غالياً من الأرواح، والجرحى، والمعاقين، والدمار للبني التحتية، وأوقفت عجلة التنمية تماماً، وأفقدت السودان كل فرص التقدم والازدهار.
لم تنجح إنتفاضة أبريل 1985م التي أطاحت بنظام جعفر نميري، ولا حكومتها الانتقالية (1985م 1986م)، ولا الحكومات الديمقراطية التى أعقبتها (1986م 1989م)، فى وقف نزيف الدم. ثم جاء انقلاب الجبهة الإسلامية، في نهاية يونيو من ذلك العام، ليقضي على كل أمل فى الوصول إلى سلام، ولتزداد وتيرة وكلفة النزاع الدموي سته عشر عاماً أخرى، قبل أن يدرك الطرفان ألا منتصر فى ذلك النزاع، فبدأ التفاوض الشاق الذي توج، في يناير 2005م، بإبرام إتفاقية نيفاشا التي استطاعت أن توقف الحرب، وتبعها الدستور الإنتقالي فى ذات العام ليضع أسس ومبادىء حكم البلاد مشاركة بين المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية. وقد قبلت القوى السياسية بتلك الأوضاع ثمناً للسلام، والاستقرار، ووعود التحول الديمقراطي التى اشتملت عليها الإتفاقية والدستور. وكان لا بد للاتفاقية والدستور، أيضاً، أن يشتملا على نصوص ملزمة بشأن استفتاء شعوب الجنوب، في نهاية سنوات الفترة الانتقالية الست (9/1/2005م 9/1/2011م)، كي تقرر مصيرها، إما باستمرار الوحدة، أو بالانفصال وإقامة دولة مستقلة. وهو الاستفتاء المقرر إجراؤه غداة نشر هذه الحلقة الأولى من هذه المقالة.
وبما أن حديثنا، هنا، يتركز، بشكل أساسي، على بعض مآلات مستقبل (شمال السودان) فى حالة انفصال (جنوبه) عنه، وإقامة دولته المستقلة، فإنه يتعين علينا، نحن الشماليين، التسليم، بادئ ذي بدء، بأن (تقرير المصير) حق من الحقوق الإنسانية والدستورية الأساسية التي ارتضيناها بموجب اتفاقية نيفاشا. ولذا ينبغي علينا، ليس الإقرار بهذا الحق للجنوبيين، فحسب، بل احترامه، والالتزام الصارم، أولاً، بإجرائه فى موعده المقرر غداً، بشفافية، وأمانة تامة، وثانياً بقبول نتائجه، أيا كانت، وبذل كل جهد وعون ممكنين لدعمه، ليس من أجل أشقائنا فى الدولة الوليدة فحسب، بل من أجلنا، نحن أنفسنا، فى الشمال، ومن أجل أمن واستقرار ونماء المنطقة والقارة الأفريقية كلها، وإغلاق الطريق أمام أي احتمال للعودة إلى مربع النزاع والاحتراب الأول. وهذا يقتضى منا بالضرورة، اليوم قبل غد، بذل كل الجهود اللازمة لمخاطبة ترتيبات ما بعد الإنفصال بكل ما أوتينا من قدرة، وجدية، وتجرد، وحرص على مصالح الدولتين ومواطنيهما الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في هذا الإطار، ربما لزمنا أن نعرض، قبل أي شئ آخر، لإحدى أهم القضايا التى أثيرت خلال الأسابيع الماضية، وهي ما ردده بعض مسؤوليي وحقوقيي النظام الحاكم، بلا تبصر، من أن قيام دولة مستقلة في جنوب البلاد يقتضي، قانوناً، خروج، أو بالأحرى طرد، جميع الجنوبيين من الشمال إلى هذه الدولة المرتقبة!
تلك دعوة، كما سبق وعبرنا من خلال الصحف، لا يسندها منطق، ولا أخلاق، ولا قانون. ذلك أن:
(1) أغلب المليوني جنوبي، أكثر أم أقل، الذين يعيشون في الشمال، ربما ولدوا فيه، بل ويعرفون عنه أكثر مما يعرفون عن أي بلد آخر، بما في ذلك حتى الجنوب نفسه!
(2) أن قانون الجنسية السوداني لسنة 1994م يمنح هؤلاء الحق في اكتساب الجنسية السودانية، ما لم يتم نزعها أو سحبها منهم لأسباب قانونية محددة لا تنطبق عليهم في الحالة الراهنة.
(3) أن ذات القانون يبيح الجنسية المزدوجة لحملة الجنسية السودانية، كحال آلاف السودانيين اليوم، بمن فيهم بعض الوزراء في الحكومة الحالية، جنوبيين وشماليين!
وإذن، فالحديث عن إجبار الجنوبيين في الشمال على المغادرة إلى الجنوب، حال انفصاله، لا يوازيه سوي طرد الأرمن الأتراك من تركيا إبان الحرب العالمية الأولى؛ وإقدام النظام النازي بقيادة هتلر على طرد، بل وتصفية فئات بعينها من الألمان من غير ذوي الأصول الآرية؛ وإلى ذلك، أيضاً، طرد عيدي أمين للمواطنين الآسيويين من أوغندا. ولعل لنا، من جهة أخرى، أسوة حسنة في استمرار بقاء البوشناق، والكروات، والصرب، والسلافونيين، والكوسفوار، في دول إقامتهم، رغم تفكك يوغسلافيا السابقة، وقيام بني جلدتهم بإنشاء جمهوريات مستقلة جديدة في كل من البوسنة، وكرواتيا، وصربيا، وكوسوفو، وسلوفينيا.
كما ينبغى الأخذ بعين الاعتبار، أيضاً، أن هذا الحق لا يشمل، فقط، حق المواطنة المجرد، بل كل ما يتبعه من حقوق في التعليم، والصحة، والعمل، والتملك، والمشاركة فى الحياة العامة، بما في ذلك الحق في خوض الانتخابات، ترشحاً وانتخاباً، وتولي الوظائف فى السلطة العامة، مدنية كانت أو عسكرية أو سياسية.
أما بقية قضايا ما بعد الإستفتاء فى حالة إنفصال الجنوب، فتتطلب منا جميعاً، فى الشمال كما في الجنوب، جهوداً ضخمة وحوارات بين جميع القوى السياسية، دون إستثناء، باتجاه بناء أسس التوافق على العديد من الشؤون ذات الأهمية المشتركة، تجنباً للخلافات والنزاعات التي من شأنها أن تفتح الأبواب للعودة إلى الاحتراب، ما يقتضي تجنيد جميع الخبرات والمهارات الفنية، العسكرية والاقتصادية والقانونية، لحسم القضايا العالقة، وعلى رأسها ترسيم الحدود، البترول، حرية التنقل والرعي، المياه، العملة، التجارة، الإقامة، العمل، التملك، سبل الاتصالات، وخلافها من الملفات التى ينبغي حسمها في أقرب وقت ممكن.
هذا ما يخص مستقبل العلاقات بين البلدين حال أفضت نتيجة الإستفتاء إلى انفصال الجنوب. أما على صعيد الأوضاع فى شمال البلاد نفسه، فلا تزال هناك ملفات أخرى جد ساخنة، ربما كانت أهمها الأوضاع فى دارفور التى تدخل عامها الثامن دون حسم للنزاع، وسط ما يسمى بمفاوضات ومشروعات إتفاقات شملت أبوجا، أسمرا، ليبيا، قطر، تشاد، وصولاً إلى ما سمي باستراتيجية توطين حل الأزمة. ودون تفاصيل مخلة، نقول إن لأهل دارفور، أيضاً، قضية تكمن، هي الأخرى، فى التهميش، وغياب التنمية، وانعدام المشاركة فى السلطة والثروة، وهي قضية حملوا من أجلها السلاح، أسوة برصفائهم فى الجنوب. غير أن التعامل مع القضية كملف أمني، منذ البداية، أدى إلى تفاقمها، وانتشارها، وتداخل قوى أجنبية ذات مصالح مباشرة فيها، مما خلف عشرات الآلاف من القتلى، وهجرة ونزوح الملايين، ودمار البني التحتية للإقليم، وإنتهاكات حقوق الإنسان التي شهدت بها لجان التحقيق والرصد والمنظمات الوطنية قبل الدولية.
إن التغاضي عن تناول الأبعاد الحقيقية للقضية، ومعالجة جذورها، كان وما زال على رأس أسباب تفاقمها وتدويلها، والعجز عن الوصول إلى حسمها، وهو ما كان ممكناً إنجازه دونما حاجة للإحالة لمجلس الأمن الدولي، والمحكمة الجنائية الدولية، ودول ذات مصالح في الصراع. فالتجاوزات التى حدثت فى التصدى للقضية، سواء من غير الرسميين أو ممثلي الدولة في الأجهزة الرسمية، كان من المفترض أن يتم تناولها بالجدية والأمانة، اللازمتين، ومحاسبة كل المتهمين بإرتكاب الإنتهاكات المذكورة. غير أن هذا لم يتم حتى اليوم، رغم أن السيد رئيس القضاء كون عدة محاكم، خاصة منذ 2005م، لمحاسبة المسؤولين عن الإنتهاكات؛ كما وأن السيد وزير العدل عين مدعيين عامين خاصين بدارفور: أحدهما فى 2008م، والآخر فى 2010م. لكن، برغم بشاعة الإنتهاكات الموثقة، لم تقم تلك المحاكم الخاصة، أو أي من المدعيين العامين المشار إليهما، بتقديم أي من المسؤولين للمحاسبة عن أفعالهم. بالنتيجة تم تكوين لجنة التحقيق الدولية في جرائم دارفور بواسطة مجلس الأمن، وبناءً على تقريرها أصدر المجلس قراره رقم 1593 بإحالة الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية! وكنا قد نوهنا فى عدد من المقالات الصحفية، والندوات العامة، بأن هذا ما كان ليحدث لو قامت الدولة بالدور المنوط بها في تحقيق العدالة بالتحري، والتحقيق، وتقديم كل من تقوم فى مواجهته تهمة ارتكاب جريمة ما إلى المحاكمة، احتجازاً، أو قتلاً، أو اغتصاباً، أو تعذيباً، أو ترحيلا أو إخفاء قسرياً .. الخ.
لو حدث ذلك، أو تم الشروع الجاد فيه، لما تحول الأمر إلى المحكمة الجنائية إبتداءً. إذ أن القاعدة الراسخة فى قانون المحكمة الدولية، أنها محكمة (تكاملية Complimentary) لا ينعقد لها أي إختصاص طالما قام القضاء الوطني بدوره فى محاسبة المسؤولين واحترام مبدأ عدم الإفلات من العقاب (Impunity). لطالما رددنا، وما نزال نقول اليوم، إن الوقت لم يفت، وإن تفعيل دور القضاء والنيابة في ملاحقة المسؤولين عن الإنتهاكات، حتى في الوقت الراهن، ربما نتج عنه قرار من مجلس الأمن يطالب فيه المحكمة بوقف إجراءاتها وفق المادة (16) من النظام الأساسي للمحكمة لفترة أثني عشرة شهراً، يجوز تمديدها لفترة أو فترات مماثلة، بلا حدود، حتى تستوي مقتضيات العدالة والإنصاف التى ينبغي علينا فى السودان، كما فى كل الدول، الالتزام بها كمبدأ إنساني قانوني وأخلاقي لا خلاف عليه.
غنى عن القول إن أهمية قضية المحاسبة تأكدت أيضا فى تقرير لجنة الإتحاد الأفريقي رفيعة المستوي بقيادة رئيس جنوب أفريقيا السابق تابو مبيكى الذى أكد على ضرورة إقامة محاكم مختلطة من قضاة سودانيين وغير سودانيين لإنجاز تلك المهمة فى أقرب وقت ممكن، كما أوصى ذات التقرير بإنشاء لجنة للحقيقة والمصالحة على نسق ما حدث فى جنوب أفريقيا والمغرب لكشف حقائق الأحداث من أجل تحقيق المصالحة الوطنية، والعفو عن التجاوزات، وتعويض الضحايا أو ذويهم، ومنع تكرار المأساة فى البلاد، وتمكين الأجيال القادمة من معرفة حقيقة ما جرى. لكن، ومن المؤسف، أن ذلك التقرير وتوصياته وضع فى أضابير الملفات المنسية وأنصرفت اللجنة الأفريقية إلى مهام أخرى تتعلق بالإستفتاء فى جنوب السودان وأبيي، وأهمل التقرير وتوصياته، تماماً، بواسطة الدولة فيما يخص الشأن الدارفورى.
وغنى عن القول، أيضاً، إن قضية دارفور لا تنحصر فى أمري المحاسبة والمصالحة، بل تمتد لتشمل قضايا أخرى تمثل أصل أسباب النزاع، كمطلب العودة إلى الإقليم الموحد، والمشاركة فى السلطة والثروة، وتنمية الإقليم، وتوفير الخدمات المجتمعية اللازمة، وأمور أخرى ينبغي تداولها بين أبناء الإقليم، بمن فيهم الفصائل المقاتلة، ومنظمات المجتمع المدنى والأهلى، وممثلي كافة قطاعات المواطنين، دونما اعتبار لانتماءاتهم الأثنية أو الجهوية، وبمشاركة القوى السياسية، سواء تلك التى تتولى إدارة البلاد أو الجهات المعارضة.
إن الصورة لن تكتمل، بطبيعة الحال، ولن يتم أي إستقرار أو تقدم فى تأمين مستقبل البلاد عامة، إلا ببذل كل الجهود اللازمة، ومشاركة كل الفئات سالفة الذكر، سواء كان ذلك بالنسبة لإستفتاء أبيي، أو ما وصف بالمشورة الشعبية فى كل من جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان. ولعل من أهم الإعتبارات فى هذا الصدد، إلى جانب التنمية، والمشاركة العادلة فى الثروة والسلطة، هو إقرار مبادىء التعدد والتنوع، ووضع حد لتهميش أبناء المنطقتين، وترجيح كفة حقوق المواطنة فى جميع مناحي الحياة. وغداً، في الحلقة الثانية من هذه المقالة، سنعرض، بالمزيد من التفصيل، لهذه القضية بإذن الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.